ليس هناك وضوح في ماهية النظام الذي نمارسه حاليًا والذي انبثق من اتفاق الطائف، إذ لم تفكر القيادات اللبنانية لغايته في كيفية خوض حوار من أجل تطبيق الطائف كليًا ومن ثم التفاهم على تعديلات تحظى بقبول المكونات اللبنانية كلها وبما يوفر الطمأنينة والاستقرار والأمان لجميع اللبنانيين.
ان مشكلة ادارة الديموقراطية في مجتمعات تعددية ليست مقتصرة على لبنان. إنها إشكالية رئيسية في النموذجين العربي والدولي وقد إرتفع منسوبها بعد سقوط الاتحاد السوفياتي عام ١٩٩١ وبروز نظام عالمي جديد يستند الى العولمة والليبرالية السياسية والاقتصادية والاجتماعية. ترافق ذلك مع بروز مسائل الهوية والقومية والطائفية والاثنية في بلدان مختلفة من العالم، حيث ادى انفجارها في بعض البلدان الى ازمات سياسية وعسكرية.
الى ذلك، نجحت تاريخيًا دول كثيرة حول الكرة الأرضية في إدارة التعددية في مجتمعاتها من ضمن انظمة ديموقراطية متنوعة. فالولايات المتحدة الاميركية جمعت بين الفدرالية والنظام الاكثري، بينما اعتمدت سويسرا النظام التوافقي كليًا. وتجدر الاشارة الى ان نجاح هاتين الدولتين، وغيرهما من الدول التي اعتمدت انظمة مختلفة وناجحة لادارة التعددية، اتى في معظم الاحيان بعد حروب داخلية مدمرة ومتكررة وازمات طويلة.
ان النظام الذي يمارسه لبنان لادارة التعددية منذ اتفاق الطائف افرز ازمات متكررة ومستمرة. ابتدأ العمل به في زمن الوصاية السورية (١٩٩٠ – ٢٠٠٥) التي شكلت المرجع والضابط الوحيد للحياة السياسية في لبنان. ترأس رفيق الحريري خلال تلك الفترة ست حكومات لمدة عشر سنوات، وكان له، ولكل من الكتل الكبيرة، حصته من الوزراء. لم يحاول رفيق الحريري مرة ان يشكل وحده الحكومة او ان يختار كل وزراء الطائفة السنية، ناهيك عن وزراء الطوائف الاخرى.
النظام اللبناني مركب وهجين ولا يمكن وصفه بأنه اكثري او توافقي. الدستور اللبناني يضم في مواده من صيغتي النظامين التوافقي والاكثري في آنٍ معًا. غير أن الأسس التوافقية تتقدّم على ركائز النظام الأكثري في التركيبة السياسية اللبنانية، وخاصة بعد إتفاق الطائف
ترأس فؤاد السنيورة حكومة التحالف الرباعي (تيار المستقبل، حركة امل، حزب الله، الحزب التقدمي الاشتراكي) بعد انتهاء عهد الوصاية السورية واجراء انتخابات نيابية في ربيع ٢٠٠٥، مستثنيا اكبر كتلة نيابية مسيحية، التيار الوطني الحر، برغم نتائج الإنتخابات النيابية التي أظهرت الأحجام الحقيقية في الشارع المسيحي.
بدأ خلاف وزراء الثنائي الشيعي (حركة امل وحزب الله) مع “زملائهم” مباشرة بعد ان نالت حكومة ما بعد الإنتخابات الثقة، وما لبثوا ان استقالوا في خريف ٢٠٠٦. لكن السنيورة تجاهل الميثاقية، واعتبر ان للبنان نظام برلماني اكثري، اي اكثرية تحكم واقلية تعارض. شهد لبنان بعد خروج الوزراء الشيعة ومن ثم أحد الوزراء المحسوبين على رئيس الجمهورية آنذاك إميل لحود من الحكومة وضعًا سياسيًا ـ أمنيًا متوتراً انفجر في ايار/ مايو ٢٠٠٨، وادّى الى عقد مؤتمر للقيادات اللبنانية في الدوحة استضافه امير قطر، الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني.
قررت القيادات اللبنانية المشاركة في مؤتمر الدوحة انتخاب رئيس جديد للجمهورية (ميشال سليمان) بعد فراغ دام حوالي سبعة اشهر، وتفاهمت على قانون إنتخابي جديد، وقررت تشكيل حكومة توافقية تتضمن اعطاء المعارضة، جبهة ٨ آذار والتيار الوطني الحر، ثلث عدد الوزراء زائدا واحدا، أي الثلث الضامن أو ما يسمى الثلث المعطل.
منذ تسوية الدوحة تشكلت سبع حكومات بينها حكومة واحدة لكل من فؤاد السنيورة ونجيب ميقاتي وتمام سلام وحسان دياب، بينما ترأس سعد الحريري ثلاث حكومات. تلك الحكومات تم تشكيلها على قاعدة وأسس تسوية الدوحة، فكان يتم الاتفاق بين الكتل النيابية المنوي اشراكها في الحكومة على توزيع الحقائب الوزارية، ومن ثم يُعطي كل من تلك الكتل للرئيس المكلف اسماء الوزراء، ونادرًا ما كان الرئيس المكلف أو رئيس الجمهورية يرفض اياً من مرشحي الكتل للحقائب الوزارية المتفق عليها سلفًا.
يمكن اختصار تجربة اكثر من خمسة عشر عاما من تطبيق اللبنانيين النظام الحالي المنبثق من الطائف، بأن توصيف النظام على انه اكثري برر استمرار عمل حكومة السنيورة برغم خروج الوزراء الشيعة منها، فضلًا عن بقاء اكبر كتلة نيابية مسيحية خارج الحكومة، كما انه برر تعطيل مجلس النواب وممارسة المعارضة اساليب غير برلمانية للضغط على الحكومة. في المقابل، أدى توصيف النظام على انه توافقي، كما اتفق عليه في مؤتمر الدوحة، إلى إفراز واقع من الخلافات بين الكتل النيابية المتمثلة في الحكومات ومن ثم كان شبه تعطيل للدولة.
هذا النظام المنبثق من إتفاق الطائف يفتقر الى “ضابط ايقاع” او الى “مرجع”، ومن ثم لا يمكن للحكومات المنبثقة منه الا ان تكون توافقية
النظام اللبناني مركب وهجين ولا يمكن وصفه بأنه اكثري او توافقي. الدستور اللبناني يضم في مواده من صيغتي النظامين التوافقي والاكثري في آنٍ معًا. غير أن الأسس التوافقية تتقدّم على ركائز النظام الأكثري في التركيبة السياسية اللبنانية، وخاصة بعد إتفاق الطائف الذي عزز التوافقية بمنحه المكونات اللبنانية ضمانات وتشديده على تقسيم السلطة بين تلك المكونات بمعزل عن الديموغرافيا، ونزعه الشرعية عن اي سلطة تناقض العيش المشترك.
في الواقع، التوافقية مترسخة في لبنان منذ عهد القائمقاميتين والمتصرفية (١٨٤٠ و١٨٦٠)، وصولًا الى الميثاق الوطني (١٩٤٣) واتفاق الطائف (١٩٨٩) فتسوية الدوحة (٢٠٠٨).
يتمثل النظام الاكثري في ادارة التعددية اللبنانية بعدد من البنود الدستورية التي تكرس حق اللجوء الى التصويت بالاكثرية عند الاختلاف في الرأي في كل من مجلسي النواب والوزراء، وتشدد على انتخاب النواب على اسس وطنية، وإن توزعت المقاعد على الطوائف والمذاهب والمناطق، وكذلك انتخاب رئيسي الجمهورية والنواب وفق قاعدة تنافسية في مجلس النواب.
ويفسح النظام البرلماني المجال امام امكان نشوء ائتلافات على أسس سياسية يمكن ان تشكل قاعدة للتناوب على السلطة بين الاكثرية والاقلية. غير ان الانظمة الانتخابية التي عُمل بها منذ اتفاق الطائف لم تفسح المجال لتناوب السلطة لأن نظام اللوائح يفرز احادية التمثيل عند الطوائف اسلامية، وبالاخص لدى الشيعة والدروز.
بالاضافة الى العوامل الداخلية، ارتبطت التسويات اللبنانية، كما النزاعات، بالتاثير الخارجي كعنصر ملازم للحراك السياسي والطائفي الداخلي كما حدث في زمن القائمقاميتين ١٨٤٠، المتصرفية ١٨٦٠، الميثاق الوطني ١٩٤٣، معادلة ١٩٥٨، إتفاق الطائف ١٩٨٩، تسوية الدوحة ٢٠٠٨. وبينما تتشابك العناصر الداخلية مع العناصر الخارجية، كان الخارج في اكثر الأحيان هو العنصر الحاسم في وضع حد للصراعات والحروب اللبنانية. يقودنا ذلك إلى الإستنتاج بأن هذا النظام المنبثق من إتفاق الطائف يفتقر الى “ضابط ايقاع” او الى “مرجع”، ومن ثم لا يمكن للحكومات المنبثقة منه الا ان تكون توافقية مما يعني استمرار الخلافات في مجلس الوزراء. ان الانتقال الى نظام اكثري يتطلب تعديل النظام الحالي والاستفادة من التوصيات الرئيسية لاتفاق الطائف.
أخيراً، روى لي الصحافي والدبلوماسي والسياسي الكبير الراحل غسان تويني انه عندما طال زمن تشكيل حكومة الرئيس صائب سلام الاولى في عهد الرئيس سليمان فرنجية (خريف ١٩٧٠)، قصد الرئيس المكلف يسأله عن سبب التاخير، فاجابه سلام بانه إجتمع برئيس الجمهورية مرات عديدة من دون ان يسمع منه توصيفه للحكومة العتيدة. بعدها، قصد تويني رئيس الجمهورية واخبره بما سمعه من الرئيس المكلف، فقال له فرنجية ان سلام كان دائما يصرح انه لا يقبل ان يكون “باش كاتب” عند رئيس الجمهورية، ولذلك كنت أنتظر منه ان يقدم لي توصيفه للحكومة حتى أناقشه معه. طبعًا، بعد تلك الزيارتين، اجتمع فرنجية وسلام وتشكلت الحكومة بعد ايام قليلة. كان ذلك قبل الطائف وفي عصر لبنان الذهبي عندما كان التشاور والتسامح والاحترام للغير المختلف في صميم اولويات اللعبة السياسية.