وسام من الضبيه إلى رحاب إنسانية بلا حدود

فاجأني غياب وسام حيث أنا خارج مكان إسمه لبنان. كنت أعرف أنه لطالما جاءته إغراءات ومشاريع سفر كان يرفضها بكل أريحية.

كنا في عمر الشباب، وكانت بلدات الضبيه، عوكر، ذوق الخراب، حارة البلانة عالمنا الذي ندور فيه. وعلى الرغم من أن الحرب لم تكن قد إنتهت أو أقله لم يتوقف فيها المدفع، فقد كنا مجموعة من الحالمين.

نحلم بالسلام والانفتاح على الآخر، ونحلم  بأن نُبدل العالم منطلقين من جغرافيا يحدها الشاطئ غرباً إذ كان البحر لنا نلاعب أمواجه ونسبح في بركه الطبيعية، وشرقاً هضاب خضراء قبل أن تخربها يد الإنسان. كنا نلعب كرة القدم في ساحات البلدة قبل أن ننتقل إلى نادي مار جرجس لنلعب في ملعب شبه رسمي قرب “مخيم الضبيه”.

بالاضافة الى النادي كانت الحركة الرسولية المريمية في رعيتنا منزلنا الثاني وفيها خبأنا أسرارنا وآمالنا وأحلامنا.

بين نادي مار جرجس والحركة الرسولية توطدت علاقتي بكل من الياس جرجس الحداد والثلاثي ريتا وناجي وأصغرهم وسام متى وغيرهم من الأصدقاء والرفاق.

ضمن هذا الواقع المنفتح والثوري (غير التقليدي) كنا نلعب كرة القدم رفضاً للحرب والقتال على وقع كلمات مسرحية “بالنسبة لبكرا شو” للرائع زياد الرحباني، ونخلط  التراتيل الدينية بالأغاني الثورية. بالمختصر كانت الضبيه مختبراً رائعاً لثقافة ترفض التقليد والأمر الواقع سواء في الأمور الرعوية أو البلدية أو حتى الحزبية.

كنا مجموعة من الحالمين. نحلم بالسلام والانفتاح على الآخر، ونحلم  بأن نُبدل العالم منطلقين من جغرافيا يحدها الشاطئ غرباً إذ كان البحر لنا نلاعب أمواجه ونسبح في بركه الطبيعية، وشرقاً هضاب خضراء قبل أن تخربها يد الإنسان

في هذا الجو وضمن عائلة منفتحة، تربى الصديق العزيز وسام ما سمح له بأن يخرج من السياسات التقليدية وأن يختار خطاً سياسياً غريباً بعض الشيء عن محيطه ومن ثم قرر أن ينخرط في مهنة المتاعب، وأعتقد لا بل أجزم أن التحول الأولي لفكره كان من خلال مسرحية زياد الرحباني “نزل السرور”. أذكر يومها بأنني أهديته كاسيت المسرحية، فإذا به يحفظها عن ظهر قلب… ولعل أول ثورة قام بها وسام وناجي وريتا هي رفضهم أن ينتقل أهلهم للعيش خارج الضبيه، ما دفع أبو ناجي (إبن بلدة إهمج الجبيلية أصلاً) وأم ناجي لشراء منزل في الضبيه والانتقال إليها مجدداً.

ومن يومها لم يتوقف وسام عن الثورة. ترافق ذلك مع ثقافة واسعة وذكاء حاد وطيبة وتواضع. عندما كنت مسؤولاً عن طلاب التيار الوطني الحر قيل لي يوماً بأن هنالك شيوعياً من الضبيه يريد أن يترشح إلى الانتخابات الطلابية في كلية الحقوق، ومطلوب منك أن تتكلم معه لعله ينسحب وأن يصب أصواته لمصلحة مرشحي التيار الحر. اتصلت به ورحنا نضحك ونتذكر الأيام الماضية وحينما شرح لي وجهة نظره قلت له انا معك لا تنسحب من المعركة.

الذكريات مع وسام لا تنتهي هنا وهناك. الذكريات كثيرة، ولكنني أكتب هذه الكلمات من بلاد الغربة متأخراً كوني لم أصدق أو لم أرد أن أصدق بأن وسام لم يعد معنا. أكتب متأخراً لأنني لم أرد مرة جديدة أن أصدق مشيئة السماء.

أكتب قبل أن أستطيع تقديم واجب العزاء إلى كل من أنطوان ومزين وريتا وناجي وايلي وكل الأصدقاء والرفاق وأنا أحزن عليه حيث أنا وحيداً.

أكتب لأقول بأن التعزية الوحيدة هي أن نقوم نحن كل محبيه وأهله بجمع ارثه (صور ومقالات) وأنا متأكد بأننا نستطيع اقامة معرض للصور في صالة كنيسة الصعود، ونجمع ما كتبه في أكثر من كتاب ونستوحي بعض أفكاره لكي لا تضيع وحتى تكون برسم رفاقه وكل من يريد الإغتناء بها. كل ذلك بالتأكيد بعد موافقة عائلته.

في هذا العمل الكثير من الرجاء والقليل من الوفاء لفتى انطلق من بلدة متنية صغيرة إلى رحاب إنسانية واسعة.

Print Friendly, PDF & Email
إقرأ على موقع 180  إسرائيل تسأل.. هل عاد الفدائيون إلى مخيمات لبنان؟
انطوان ع. نصرالله

محامي وكاتب لبناني

Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  عندما يكفُر أديسون بكهرباء لبنان!