أكثريات لبنان الوهمية.. معارضات لبنان الرملية!
TOPSHOT - EDITORS NOTE: Graphic content / A picture shows a destroyed silo at the scene of an explosion at the port in the Lebanese capital Beirut on August 4, 2020. - Two huge explosion rocked the Lebanese capital Beirut, wounding dozens of people, shaking buildings and sending huge plumes of smoke billowing into the sky. Lebanese media carried images of people trapped under rubble, some bloodied, after the massive explosions, the cause of which was not immediately known. (Photo by STR / AFP) (Photo by STR/AFP via Getty Images)

في 31 تشرين أول/ أكتوبر 2016، إنتخب البرلمان اللبناني ميشال عون رئيسًا للجمهورية اللبنانية، بعد فراغ دام أكثر من سنتين ونصف السنة. وفي الشهر نفسه، كلّفت الأكثرية النيابية سعد الحريري تشكيل حكومة العهد الأولى، على خلفية التسوية الرئاسية بين "التيار الحر" و"تيار المستقبل".

في أيار/ مايو 2018، إنعقد نصاب الأكثرية البرلمانية لمصلحة فريق الثامن من آذار، وإنتخب مجلس النواب في أول جلسة له، نبيه بري رئيسًا له. منذ ذلك التاريخ، تبدى مشهد لبناني مختلف عما إعتاد عليه اللبنانيون غداة إستشهاد رفيق الحريري في شباط/ فبراير 2005. رئيس للجمهورية محسوب على 8 آذار. أكثرية نيابية معقودة للفريق ذاته. رئيس للمجلس النيابي من اللون السياسي نفسه. أكثرية حكومية لهذا الفريق في مجلس الوزراء، إضافة إلى رئيس للحكومة منزوع المخالب في ظل هذا الواقع السياسي الجديد.

في تشرين الأول/ أكتوبر 2019، كانت قد إنقضت ثلاث سنوات من عمر الولاية الرئاسية: حكومتان حريريتان ترأس كل جلساتهما الرئيس ميشال عون. كادت المحصّلة أن تكون صفرية. إنفجر الواقع الإجتماعي وفتح شهية المعترضين على ملء ساحات بيروت والمدن اللبنانية على خلفية قرار حكومي متسرّع (رسم على إستخدام الواتس آب)، وعُرفتْ هذه الحركة لاحقًا بـ”إنتفاضة” أو “ثورة” السابع عشر من تشرين الأول/ أكتوبر 2019 وكان من بين أولى نتائجها إستقالة الحريري وحكومته على خلفية الاحتجاجات غير المسبوقة منذ الطائف حتى يومنا هذا.

الأكثريات النيابية والأقليات

قبل الشروع في مناقشة فكرة ماذا أنجزت الأكثرية النيابية الأخيرة، وأين أخفقت، ثمة سؤال محوري عن ماهية هذه الأكثرية، وهل كانت أكثريةً فعلًا، أكثرية متضامنة، أكثرية تحمل برنامجًا سياسيًا واضحًا في ما يتعلق بالملفات السياسية الداخلية، تريد تطبيقه، حتى تقدّم أنموذجًا مخلتفًا عن أكثرية الرابع عشر من آذار، أم أنها كانت مجرد أكثرية متوافقة على القضايا السياسية الخارجية فقط، وموقع لبنان في الصراع في المنطقة، ودوره فيها، أم أنّ ذلك كان وهمًا أيضًا؟ وماذا عن الرؤية الاقتصادية للأكثرية الجديدة، وكيف تجسّدت عمليًا في عدد من الملفات الاقتصادية والإجتماعية والمالية؟

تحيل أطراف في الأكثرية السبب في عدم قدرتها على اتخاذ القرارات، إلى أنها لم تستطع الحكم كما تريد، ومُنِعتْ من تنفيذ برنامجها، لأنّ الرئيس الحريري كان مشاركًا في الحكم عبر رئاسة مجلس الوزراء أولًا، ومن خلال وزارات وازنة ومؤثرة ثانيًا، وشكّل عنصر عرقلًة لخطتها وطموحاتها ثالثًا، مع حليفيه الحزب التقدمي الاشتراكي والقوات اللبنانية.

لو إفترضنا أن هذا التبرير صحيح، ماذا بعد استقالة الحريري؟

لاحت  للأكثرية نفسها – رغمًا عنها – فرصة في حكومة الرئيس حسان دياب، فلماذا تعذر عليها الإنجاز أيضًا؟

كان واضحًا للعيان تضارب المصالح والأهداف بين مكونات الأكثرية، وتقدّم النكايات السياسية حينًا، وحماية النظام حينًا آخر، والاعتبارات الشخصية مرة ثالثة، والخوف من الغضب الأميركي مرة رابعة، وأسباب متفرقة أخرى خامسًا.

لم تتفق الأكثرية على مقاربة موحدة لملف الكهرباء، ولم تستطع حل هذه المعضلة العجيبة، ولو بهدف تقديم منجزٍ واحدٍ مهم وأساسي للبنانيين يكون حجّة واضحة لا نقاش فيها تواجه به خصومها، ولكن المشاكل والخلافات وتضارب المصالح بين بعض أطراف هذه الأكثرية، أدّى إلى فشل خطة الكهرباء

التخبُّط سمة الأكثرية النيابية

كانت الخلافات واضحة في آليات عمل الأكثرية النيابية الحالية، وعلى غير ملف أساسي، وفي ظرف حساس من تاريخ البلد، يحتاج إلى قرارات مصيرية، ما أثبت أنها لم تكن أكثرية فعلية أو حقيقية، بل كانت مجموعات متباينة في الرؤى، السياسة والاقتصاد، وذلك في عدد من الملفات أبرزها:

أولاً؛ موضوع الكهرباء:

لم تتفق الأكثرية على مقاربة موحدة لملف الكهرباء، ولم تستطع حل هذه المعضلة العجيبة، ولو بهدف تقديم منجزٍ واحدٍ مهم وأساسي للبنانيين يكون حجّة واضحة لا نقاش فيها تواجه به خصومها، وبالتالي تُقدّم شيئًا جديدًا، ولكن المشاكل والخلافات وتضارب المصالح بين بعض أطراف هذه الأكثرية، أدّى إلى فشل خطة الكهرباء، وإلى مراكمة جزء آخر من الدّين العام لتغطية كلفتها المدمّرة، ليبقى هذا الملف الشائك شوكةً في حلق الحكومات كلّها منذ نهاية الحرب الأهلية، وكان ـ وما يزال ـ من أبرز نقاط الضعف الواضحة عند الأكثرية الجديدة، وقوى الثامن من آذار وحليفها التيار الوطني الحر وميشال عون.

ثانياً؛ موضوع النفط والغاز:

لم يكن الخلاف على موضوع النفط والغاز أمرًا بسيطًا. شهدنا فعلياً حربًا سياسية بين التيار الوطني الحر من جهة، وحركة أمل من جهة ثانية، ما جعل الوقت يُستهلك في التجاذبات السياسية، وفي جنس ملائكة البلوكات وطائفتها، ولأيٍّ منها الأولوية، إلى آخر السردية المعروفة، إلى أن فُتح الباب أمام التدخل الخارجي لإيقاف التنقيب الإستكشافي في (البلوك 9) الأكثر إحتمالاً من غيره بوجود مكامن غازية واعدة فيه، وأدى ذلك إلى تقديم ورقة مجانية لمن يريد محاصرة لبنان، كما وأد أي أمل قد يلوح في الأفق غير القريب.

ثالثاً؛ خطة التعافي المالي وحكومة دياب:

حضرت بعض العناوين الخلافية المتفرقة، ولكن المهمة، كملف الكابيتول كونترول، والتدقيق الجنائي، والعلاقة مع المصارف، وخطة التعافي المالي للحكومة التي أسقطتها المكونات نفسها التي صاغتها، بشراكة كاملة مع المصارف التي تتهرب من تحمل قيمة الخسائر المالية. زدْ على ذلك الخلاف حول موضوع إقالة حاكم مصرف لبنان أو عدم إقالته، ليستمر الدولار بالتصاعد مقابل تدهور القيمة الشرائية لليرة اللبنانية. كل ذلك وحكومة دياب كانت تراوح مكانها، إلى أن حضر حدثُ الرابع من آب/ أغسطس، ليشكّل النقطة التي فاضت بها كأس الخلافات، فأسقطت الأكثريةُ الحكوميةُ نفسَها وحكومتها، على خلفية طرح الانتخابات النيابية المبكرة، واستقال الرئيس حسان دياب، وجلست الحكومة على رصيف السراي الكبير في إنتظار تشكيل أخرى جديدة، ولكن من دون الحد الأدنى من تصريف الأعمال الذي يحاول الحد من تداعيات الإنهيار الإقتصادي والمالي.

ومنذ تكليف الحريري مجدداً برئاسة الحكومة، قبل أربعة أشهر، ونحن نشهد تجاذبات قاتلة حول الحصص والحقائب والثلث المعطل وغير ذلك من حجج، من دون أن ينجح أحد بفك أحجية العقدة وهل هي داخلية أم خارجية؟

إقرأ على موقع 180  "يديعوت أحرونوت": حقل كاريش بين التهديد.. والفرصة!

ماذا عن الملفات الخارجية؟

إعتقد كثيرون أنّ ملف تعامل الأكثرية النيابية الحالية مع العامل الإقليمي سيكون مختلفًا. لم يزر الرئيس ميشال عون لا طهران ولا دمشق، بل زار عوضًا عنهما السعودية.. وماذا كانت النتيجة حتى الآن؟ بالمقابل، بقي ملف النازحين يراوح مكانه ولم يتمكن لبنان من الإستفادة من أية هبة نفطية إيرانية وما يسري على إيران يسري على العراق الذي وعد بمساعدة لبنان نفطياً لكن حكومة تصريف الأعمال لم تترجم أيًا من الوعود التي قطعتها لرئيس وزراء العراق مصطفى الكاظمي حتى الآن.

حتى في موضوع الصراع مع “إسرائيل”، ظهر تباين واضح في خطاب الأكثرية، تجلّى ذلك في عدد من المواقف الصادرة عن النائب جبران باسيل، وفي استحقاق ترسيم الحدود البحرية مع الدولة العبرية، وفي ملف الإفراج عن العميل عامرالفاخوري، وتهريبه خلسة خارج لبنان، وكذلك في مقاربة العديد من الملفات العربية والإقليمية.

وفي الشقّ الاقتصادي الخارجي، ساءت الرؤية بشكل كبير، وأصابها الغموض في موضوع العلاقة مع كل من إيران وسوريا والعراق، إضافةً إلى العلاقة مع الصين وروسيا، فيما سُمّيَ نظريًا بـ”التوجه شرقًا”، لمحاولة تخفيف آثار الأزمة الاقتصادية، بعدما أقفلت الولايات المتحدة الأبواب، غربًا وخليجيًا أمام لبنان. عاش كثيرون “سكرة التوجه شرقًا” ولكن إنتهى مفعولها بعد أسابيع قليلة، وكأن شيئًا لم يكن!

الأكثريات في لبنان في ظل هذا النظام السياسي والاقتصادي والطائفي ليست حقيقية، بل هي أكثريات وأقليات هلامية ووهمية ومتداخلة، تعمل “على القطعة”، بحسب الملفات المطروحة والاستحقاقات الداهمة، وهي لا تحمل مشروعًا متماسكًا وواضحًا  تعمل عليه، وتدافع عنه

موازين القوى في النظام اللبناني

في ما يتصل بالأكثرية والأقلية في المجلس النيابي، ثمة سؤال يطرح نفسه: هل أنّ موازين القوى السياسية والشعبية وغيرها هي المرجّحة في نظام كالنظام اللبناني؟ وما هي هذه الموازين، وكيف تُصرف إذا لم تكن في المجلس النيابي، وبالتالي في الحكومة؟

لقد مرت الأكثرية النيابية التي فازت في انتخابات العام 2009 بتجربة مماثلة، ولو أنها كانت منسجمة مع نفسها بشكل أكبر لوجود الراعي الخارجي، وذلك بعد استقالة وزراء الثامن من آذار في العام 2011 من الرابية. دعمت الأقلية النيابية الرئيس نجيب ميقاتي لتشكيل حكومة جديدة، حكومةٌ لم تكن بعيدة في قراراتها عن حكومتي فؤاد السنيورة وسعد الحريري، بإعتراف الفريق نفسه الذي سمى، وقتذاك، رئيس الحكومة.

حزب الله والأكثرية المهددة

بعد هذا السردية، لا بد من العودة إلى بداية النقاش. ثمّة كلام يدور في الصالونات السياسية، عن خوف الأكثرية النيابية اليوم من فقدان هذه الميزة، طالما أنها لم تستطع أن تقرّش ذلك في أيٍّ من الملفات داخلية كانت أم خارجية؟ وعن حذر المقاومة من أكثرية جديدة، كانت موجودة فعلًا منذ العام 2005 مع ظروف إقليمية ودولية مختلفة تمامًا، وموازين قوى مختلًة لمصلحة قوى الرابع عشر من آذار وداعميها الدوليين والإقليميين؟

ولكن، هل استطاعت أكثرية الرابع عشر من آذار تخطي الأقلية النيابية، وتحالف قوى الثامن من آذار، ولا سيّما في الموضوع الخارجي، والسياسة الداخلية؟ أم أنها ذاقت من الكأس المرة نفسها التي شرب منها خصومها عندما فازوا بالأكثرية في العام 2018؟

ماذا في النتائج؟

يظهر مما تقدّم أن الأكثريات في لبنان في ظل هذا النظام السياسي والاقتصادي والطائفي ليست حقيقية، بل هي أكثريات وأقليات هلامية ووهمية ومتداخلة، تعمل “على القطعة”، بحسب الملفات المطروحة والاستحقاقات الداهمة، وهي لا تحمل مشروعًا متماسكًا وواضحًا  تعمل عليه، وتدافع عنه.

لذلك تحضر أسئلة قد يكون طرحها مفيدًا اليوم في ظل الأزمة الخانقة، ومنها: هل أنّ خسارة الأكثرية النيابية في الانتخابات النيابية المقبلة لها تأثيرٌ بنيوي على قوة لبنان ومقاومته وكيف؟

وإذا كان الضغط الأميركي يهدف إلى انتزاع الأكثرية الحالية، ماذا ستفعل الأكثرية الجديدة في موضوع المقاومة والأزمة الاقتصادية، غير ما فعلته أكثرية قوى الرابع عشر من آذار سابقًا؟ وهل ستكون لها القدرة أو الجرأة على إتخاذ قرارتٍ مصيرية وخلافية كبيرة في البلد تتعلق بسلاح المقاومة، وبكيفية الدفاع عن لبنان، أو تستطيع الاتكاء على نظرية الاحتماء بالمجتمع الدولي، أو تطبيق نظرية الحياد الناشط وطلب التدخل الدولي تمهيدًا للتدويل؟

باعتقادي، أنّنا في ظل النظام السياسي القائم والتجارب السالفة؛ ليس أمام القوى السياسية اليوم ‎سوى سبيل منطقي يتيم للقفز فوق الوحول التي يتخبط فيها الوطن اليوم، وهو الوصول إلى تفاهمات تُخرج البلد والقوى السياسية كلها من عنق الزجاجة، ما دامت الأكثريات والأقليات لم تستطع تحقيق أهدافها، فيُصبح الاتفاق على أرضية مشتركة بين القوى السياسية للخروج من الأزمة الاقتصادية المالية أولوية ملحّة عند اللبنانيين منعًا للانهيار الكامل، وتفكك الدولة ومؤسساتها.. وصولًا إلى الفوضى الشاملة..

لا بديل عن التفاهم الوطني الإنقاذي، وبعدها ليذهب الجميع إلى النقاش في مسائل خلافية كبيرة ستعيد فرز القوى السياسية والطائفية واصطفافاتها، في مواجهة قضايا تتعلق بتغيير النظام السياسي والاقتصادي الذي أثبت كارثيته على حياة اللبنانيين وحاضرهم ومستقبلهم.

يقول رئيس وزراء بريطانيا ونستون تشرشل: “إذا كنتَ ترغب فعلًا في إكتشاف بحار جديدة، عليك أولًا أن تتحلى بالشجاعة لمغادرة الشاطئ”.

للأسف، هذا القول ينطبق على الأكثرية الحالية التي إفتقدت للبرنامج ولم تمتلك الجرأة والشجاعة لمغادرة الشاطئ.. ولعل الكارثة في كونها فضّلت أن تغرق في رمال الشاطىء!

 

 

Print Friendly, PDF & Email
طارق عبود

أستاذ جامعي وباحث، لبنان

Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  ما بعد مجزرة الجمعة.. هل تستفيد المقاومة من أخطائها؟