مَنْ مِثلكَ اكثرية كبيرة. يقال إن الطبقة الوسطى صارت في الطابق السفلي. أي، على الأرض يا حكم.. هذه الاسئلة وغيرها الكثير لا تكفي للجواب على السؤال: “ماذا بقي للإنسان في لبنان”؟
الاجابة ليست سهلة. لقد اصيب اللبناني في جيبه وقلبه وعقله. كل الطرقات في الداخل مفتوحة على جحيم ومعاناة. لم يعد الانسان اللبناني سوياً ابداً. احيانا، يكذب على نفسه ويقول: “شدة وتزول”. ثم يرفع رأسه قليلاً: لا أفق في هذه العتمة. يشعر انه في نفق، ويتساءل متى يولد بصيص الأمل.. يستنتج، أنه في حضرة المستحيل.
هو لن يتساءل عن الأسباب. يعرفها. لا يحذف احداً من أسماء المرتكبين. كلهم عار.. إلا إذا كان طائفيا مدمناً. يلوم ويغضب ويشتم خصومه من سادة الطوائف. هو مستعد أن يتحمل نكبته إذا جاءته من طائفته. الطائفي يُصدر عفواً عن زعيمه. ويُلبس خصومه كل لعنات المرحلة. يقول في نفسه. “لولاه، زعيمنا، لهلكنا”. يقنع نفسه بالمستحيل.. اما الطافرون من طوائفهم من زمان، فتلاحقهم لعنة العجز. يتحسرون على المرحوم “17 تشرين”. يلومون الجميع، ولا يلومون أنفسهم. يعرفون الطائفية جيداً، ولا ينالون منها في موقعة. الطائفية قلاع مزمنة لا تقتلع بالكلمات ابداً. وبالشعارات ابداً. وبالقبضات ابداً. الطائفية، هي الاساس للكيان. قد يذوب الكيان ويتفتت، لكن الطائفية تتجدد. الشواهد كثيرة. ما يحدث في دنيا العرب، ينذر بعودة التوحش المذهبي والطائفي إلى اجل غير مسمى.
الديكتاتورية الطائفية في لبنان، هي من أعتى الديكتاتوريات العربية، من المحيط إلى الخليج. الطائفية في لبنان، أقسى من القمع الرسمي. ارتكبت حروباً دينية ومذهبية وأهلية مراراً، دمرت مدناً وقرى، قتلت عشرات الآلاف، هجرت مئات الآلاف، وخرجت كلها رابحة. بعناية القوى الخارجية ودعمها، وتوزيعها السلطة مجدداً على الطوائف.. صحيح أن الطائفية في زمنها السخي لا تقتل، لأنها تكون مهتمة بجني المكاسب السياسية والمالية. تسرق ولا تتورع. تزوّر ولا تخاف.
إنه فعلاً وطن معتل، ولا شفاء له.
ثوار 17 تشرين كانوا يتناقشون وكأن السلطة جاهزة لتكون بين ايديهم غداً. لم يعرفوا، أن المطلوب، هو الفوز بالجولة الأولى، والتي تتطلب الاتفاق على برنامج مرحلي ملزم.. وأول البرنامج هو الصمود ومواجهة التكفير الطائفي للجماهير الغاضبة والطامحة إلى التغيير
أما بعد.
الآن، وقد افلسنا في مواجهة الطائفية مراراً. ينتصب السؤال: هل هناك بديل لهذا النظام، ولهذه القبائل الهمجية التي احتلت الكيان، بتعدد رؤوسها ورؤسائها؟ تسأل عن الاكثرية العددية اللاطائفية. هل هم قادرون على لم شملهم ولو مرة.. الانهيار الحالي، هو فرصة لكل المدنيين والعلمانيين والديموقراطيين والاحرار، الذين طلقوا الطوائفيات، هي فرصتهم في رسم معالم الطريق الطويل والصعب، والبدء بمسيرة التغيير.
لا يبدو من التجارب الراهنة، أن هناك من هو قادر على ذلك. التيارات والاحزاب الدينية والمذهبية والطائفية، متماسكة ومدعومة خارجياً. وهي قادرة على الإمساك بمناطقها ومواقعها. اما الآخرون الذين ملأوا الساحات مراراً وتكراراً، فلم يتمكنوا من وضع لبنة أولى لتكون الخطوة الأولى، لتكوين قوة قادرة على مقارعة الطائفية في مواقعها.. لم يحدث ذلك. الأحزاب العلمانية، تجيد الكلام واليسار يجيد الشعار. الآخرون، مترسوا خلف كلمات.
أين هم “ثوار17 تشرين”؟
ذابوا. صاروا صدى. كل مجموعة رأت في تجمعها الحل. فتحت حوارات ونقاشات بين المجموعات. شهدت بعضها، وشاركت معها، وخرجت بائسا منها.. انهم يتفننون في احراج بعضهم بعضاً. يختلفون على جملة. تأخذ المعاناة اسابيع. يرفضون العلمانية ويقبلون المدنية. يريدون نظاما ديموقراطياً، بقانون انتخابي طائفي. إلى آخره من الاقتراحات التعجيزية. لا يعرفون ألفباء التاريخ. التغيير لا يبدأ بالكلمات، بل بالقفزات والسياسة والممكن والمرحلي .. كانوا يتناقشون وكأن السلطة جاهزة لتكون بين ايديهم غداً. لم يعرفوا، أن المطلوب، هو الفوز بالجولة الأولى، والتي تتطلب الاتفاق على برنامج مرحلي ملزم.. وأول البرنامج هو الصمود ومواجهة التكفير الطائفي للجماهير الغاضبة والطامحة إلى التغيير.
الأحزاب الطائفية المعارضة كانت أكثر فعالية من كل التجمعات والحلقات الميدانية. هذه الاحزاب، قفزت إلى منصة “17 تشرين” واسرتها في الشارع والنظام فيما ظلت “قوى التغيير” العلمانية تتخبط في الانشاء الكلامي والمواقف المتنافرة.. لا أحد ابداً كان يدرك أن المهمة الأولى، هي تكوين تكتل يتحدى عملياً في مواقع شتى ما يجعله خصماً ميدانياً دائماً.. إن الانانيات السياسية لدى المناضلين، تطغى على واجب الانحناء لشروط التغيير.
عانيت من هذا الشقاق الوجودي. لقد كان بالنسبة لي أخطر من الشقاق الطائفي. لم أشعر انهم مواطنون. شعرت انهم فئويون.. وكان ما كان، حتى كادوا يزولون. فوداعاً “17 تشرين”.
فلنعترف: الطائفيون أدرى بشعاب الكيان. أما الكثرة الغاضبة والمفجوعة و”المحترق سلافها”، فلن يكون لها، أي بصيص ضوء، ليروا من خلاله افقاً جديداً، ولو بعد سنوات
أما بعد؛
نعود إلى مأساتنا. لا نهاية لها. قوى السلطة تكسب المعركة غداً، فتلحق بها جموع وقطعان الطوائف، تمهيداً لإعادتهم إلى مواقعهم. الانتخابات ستكون طائفية جداً. لذلك، سيفوز “الثنائي الشيعي”، ويتقاسم “الثنائي الماروني” اصوات المسيحيين، ويجدد “التيار السني” حضوره وحظوظه، ولا منافسة مع المرجعية الدرزية، ومن تبقى من قوى هي “فراطة” نيابية ومجرد ارقام.
غداً يعودون، مع قلة من المرشحين غير الحزبيين وغير الطائفيين. سيكونون مجرد تلوينة صغيرة في مشهد اسود ومعروف..
فلنعترف: الطائفيون أدرى بشعاب الكيان. أما الكثرة الغاضبة والمفجوعة و”المحترق سلافها”، فلن يكون لها، أي بصيص ضوء، ليروا من خلاله افقاً جديداً، ولو بعد سنوات.
بالأمس، كانت العتمة الشاملة.
انها بالعقل، العتمة الطائفية الشاملة.
حتى “سراج الليل” اختفى من لبنان.. فلنتجرع المرارة. في زمن الحثالات السياسية والطائفية. وللعلمانيين نقول: “تعيشو وتاكلو غيرها”. بكل اسف وعسى أن اكون مخطئاً.
انها نهاية تدعو للرثاء والبكاء.