“ما رح شيل (أنزع) السجّاد إلاّ بعد زيارة خدّام”؛ “ما رح إكبس الزيتون إلاّ بعد مجيء خدّام الثلاثاء”؛ “ما رح إشتري مازوت إلاّ.. ما رح نطلع على الصيفيّة إلاّ..”. تجزم عمّتي بنبرة الواثق، غالباً، من سداد رأيه وحُسن إدارته وتدبّره للأمور. فأيّامنا كانت عسيرة ومفخَّخة بالمفاجآت (غير السارّة). لذا، لا مجال للمغامرة بدفع مالٍ هنا. أو البدء بمشروعٍ هناك. فالبلد “على كفّ عفريت”، طالما أنّ غيره يقرّر عنه. في كلّ قضاياه وشؤونه. ومصيره يُصنَع، دوماً، خارج حدوده.
كنتُ أضحك مع أهلي، ومن دون أن أفهم، يومذاك، مصدر اهتمام عمّتي “الزائد” بذاك الرجل المدعو عبد الحليم خدّام. أتذكّره اليوم، لأنّ “نشاطه اللبناني” سواء من قلب العاصمة السورية أو على خطّ دمشق – بيروت، كان الدليل الفاقع على قصورنا السيادي. ولا حاجة، طبعاً، لسرد حكايا الذلّ والإذلال التي كان يُذيقنا إيّاها النظام، الذي كان خدّام خادمه المطيع. لكن الأنكى أنّ خُدّام وخصوم خادم النظام السوري، جعلونا نترحّم على تلك الأيّام المُرّة. بعدما تفوّق أركان النظام اللبناني، وبأشواط، على كلّ الأوصياء والمنتدِبين والمحتلّين والأعداء!
لكنّ هذا التفوّق لا يمنع من التذكير، بأنّ ما كان يُمارَس بحقّنا ، كشعب، يصلح مادّةً تُدرَّس للأجيال. أعني بها، تلك الممارسات التي يمكن إعطاؤها كأمثلةٍ حسّيّة، تشرح كيف يمكن أن ينتهك حُكّام “بلدٍ ما” سيادة “بلدٍ ما”. وكيف يمكن أن تُداس “السيادة الوطنيّة” بالنعال، ثمناً لفُتات سلطةٍ كان يطمح إليها بعض اللبنانيّين! حتّى أنّ القيادة السوريّة (في ذاك الزمن)، كانت تُصعَق، كما يتردّد، من مدى قابليّة معظم المسؤولين في لبنان لتقبّل المذلّة. وقدرتهم على المزايدة في “الزحف على الجباه” لتقديم الولاء!
لم يكن ذاك السلوك بالأمر الطارئ على سياسيّي لبنان الذي بات يُعدّ، كأسوأ نموذج في ضرب مفهوم الدولة الوطنيّة في أبسط مقوّماتها! فالسيادة، موضوع إشكالي عميق في بلدنا الذي لم يعرف يوماً، ومنذ إنشائه، معنى السيادة الفعليّة. المسألة متشعّبة ومعقّدة ومتشابكة. وترتبط، عضويّاً، بطبيعة النظام اللبناني الذي “صُمّم” وحيكت تفاصيله في الخارج. بما يتناسب والتركيبة الدينيّة والطوائفيّة والتعدّديّة لسكّانه. بحيث، عجزت الدولة اللبنانيّة، على الدوام، عن صيانة سيادتها.
كذّابون. لقد جرحت إسرائيل “عنفوانهم” بإرسالها سفينة “إينرجيان باور” لإنتاج الغاز الطبيعي في حقل “كاريش”. فجّر وصول السفينة سجالاتٍ سرعان ما تحوّلت، في لبنان، إلى فرصةٍ جديدة للعبث والتفاهة وتبديد الوقت والالتهاء في “تسجيل النقاط” على بعضهم البعض
في لبنان ضجيجٌ، من نوعٍ آخر، هذه الأيّام. ضجيج بدأ، في الحقيقة، مع التحضير للانتخابات النيابيّة الأخيرة. وتفاقم، مع الحملات الدعائيّة التي خاضتها أحزاب السلطة. ضدّ بعضها البعض. ووسط هذا الضجيج، لَهَج السياسيّون (والإعلاميّون أيضاً) بتعبيرٍ حمّال أوجه. كثّفوا من استخدامه في خطاباتهم وتحليلاتهم واستنتاجاتهم ومواعظهم. سبحان الربّ الذي منحنا الطاقة، لتحمّل دجلهم العاري وهُم يحاضرون في العفّة و.. معاني السيادة!
تذكّر المسؤولون اللبنانيّون، فجأةً، سيادتهم المُنتَهكة منذ الأزل. فاستنفروا، على أعلى المستويات وكلّ الجبهات. يقولون إنّهم قلقون على حقوقنا المهدّدة في مياه البحر المتوسط. كذّابون. لقد جرحت إسرائيل “عنفوانهم” بإرسالها سفينة “إينرجيان باور” لإنتاج الغاز الطبيعي في حقل “كاريش” (المتنازع عليه بين لبنان وإسرائيل). فجّر وصول السفينة سجالاتٍ سرعان ما تحوّلت، في لبنان، إلى فرصةٍ جديدة للعبث والتفاهة وتبديد الوقت والالتهاء في “تسجيل النقاط” على بعضهم البعض.
وهكذا، استحالت قضيّة بحجم الوطن، وتكاد تُشعِل حرباً في الشرق الأوسط، إلى مادّةٍ للبازار السياسي المقيت. وأضحى ملفّ ترسيم الحدود البحريّة، المفتوح منذ العام 2007 على مصراعيْه، الشغل الشاغل للسياديّين القدامى والجُدد. ولكن، لماذا “انشغال الغفلة” هذا؟ إنّه السهر على السيادة! نعم. فمثلما عندنا، نحن اللبنانيّين، للطرب آلات. عندنا، أيضاً، للسيادة غايات. ومفاهيم. ومعايير. ودفتر شروط تتحدّد أولويّاته على وقْع التشرذمات في الوطن.
فمفهوم السيادة في لبنان، يا أصدقاء، هو مفهوم فئوي. وله “وظيفة سياسيّة” تعبّر عن حالنا وأحوالنا. هي وظيفة، للإشارة، تُؤدّى غبّ الطلب. بمعنى أوضح، تحضر “معركة الدفاع” عن السيادة وتغيب، تبعاً للظروف. أي، “كما” و”متى” يُراد لها أن تحضر أو أن تغيب. وتندلع، تبعاً للمُشتهى من جانب الأطراف الخارجيّة المؤثّرة على الفرقاء اللبنانيّين (أشخاص، أحزاب، طوائف، مرجعيّات دينيّة..إلخ). وهذه الإرادة الخارجيّة (أو المزاج الخارجي؟) يُترجَم، في العادة، تبعيّة لبنانيّة عمياء. وولاءً لبنانيّاً أصمّ. وطاعةً لبنانيّة بكماء. يعطيها حُكّام لبنان تسمية ملطَّفة: الحفاظ على علاقات لبنان الدوليّة.
ألاحظتم كيف يتلوّن “السياديّون” كالحرباء؟ فسياديّو القرن الواحد والعشرين في لبنان، وجُلُّهم من وَرَثة ذاك اليمين، إنّما يرون في العلاقات اللبنانيّة مع خصوم عبد الناصر، آنذاك، الحصن المنيع لصون سيادة لبنان!
لكنّ هذه التبعيّة. وهذا الولاء. وهذه الطاعة. لا تمنع ساسة لبنان من انتحال صفة “المُدافعين عن السيادة”! ليس هناك ما يدعو للقرف والغثيان والرغبة في ارتكاب جريمة، أكثر من الكلام الذي يصدر عمّن يسمّون أنفسهم “سياديّين” في لبنان. فهؤلاء يعتبرون أنفسهم، الصفوة. شعب الله المختار. انتبهوا! فبرأيهم، بذرة السيادة لا تنزرع في نفوس الجميع! فهناك “سياديّون”. وهناك “لاسياديّون”. وعملية الفرز والتدوير، في هذا الإطار، بدأت بعد الـ 2005. أي، عندما صُنِّف اللبنانيّون ضمن خانتيْ 8 و14 آذار. أي، بين مَن هم ضدّ “الاحتلال السوري” ومَن هم معه. ومع الوقت، ولا سيّما بعد غزوة حزب الله في 7 أيّار/مايو 2008، صار الفرز أكثر حدّة. أضحى بين مَن هم ضدّ “المقاومة” و”الممانعة”، ومَن هم معهما. ثمّ شيئاً فشيئاً، استقرّ اسم “المقاومة” على تسمية “حزب السلاح” (ابتدعها الشيخ المسجون أحمد الأسير). ليُضاف على كلمة السلاح وصْف “غير الشرعي” و…هكذا دواليك.
تقلّص مفهوم “الإنسان السيادي” ليصبح مرادفاً لـ”الإنسان الرافض للسلاح”. و”الرافض للاحتلال الإيراني”. وكما في كلّ مرّة، تُبدِع العبقريّة اللبنانيّة في خلق خطوط التماس بين أهل الوطن الواحد؛ أنتَ مواطن لبناني لكنّك لا تجاهر بإدانة إيران والحزب الموالي لها، إذاً أنتَ مواطن غير سيادي. إذاً، أنتَ خانع. وغير وطني (عميل؟)، أيضاً. لكن، أنْ تكون موالياً لإحدى دول الخليج العربي. وأنْ تأخذ تعليماتك، كلّ مساءٍ قبل النوم، من السفيرة الأميركيّة (أو أيّ سفير غربي). وأنْ تصوّت سرّاً في البرلمان لمصلحة فارّيْن من العدالة. وتعود وتشتمهما في العلن بصفتهما تابعيْن لـ”محور السلاح”. فهذا لا يدنّس، أبداً، “هويّتك السياديّة”. على العكس تماماً. هذا تكتيك للتجلّي الأسمى للسيادة! وبعد؟
سُئل إعرابيٌّ يوماً: “كيف أنتَ في دينك؟”، فأجاب: “أخرقه بالمعاصي وأرقّعه بالاستغفار”.
هذا ديدن ساستنا، بالضجّة المفتعَلة حول ترسيم الحدود مع العدوّ. كلامهم وصراخهم جعجعة بلا طحين. هُراء بهُراء. فكلّ ثروة لبنان النفطيّة ليس متنازعاً عليها بيننا وبين إسرائيل، فحسب. بل كذلك، في ما بين أركان مافيا السلطة في لبنان! فهؤلاء جميعهم، السياديّون منهم وغير السياديّين، يشربون من الضرع نفسه. ويحكموننا وفق نظام “الكليبتوقراطيّة”. ويعني، بالعربيّة، حُكم اللصوص. حُكم المهووسين بالنهب. حُكم أدعياء السيادة. على فكرة، هؤلاء لا يفهمون من السيادة إلاّ ما يخدم مصالحهم وعلاقاتهم الخارجيّة. وما يخدم الموقع “التاريخي” الذي يتموضعون فيه. أمّا المظهر الداخلي للسيادة، فهو غير موجود في أعرافهم!
عن أيّ سيادةٍ يتحدّث السياديّون، والدول ومنظّماتها غير الحكوميّة والأمميّة تستبيح فقرنا وتستثمر فيه على مرأى السياديّين وسمعهم؟
هم لا يعرفون (أو لا يريدون أن يعرفوا)، أنّ السيادة الداخليّة شرطٌ لتحقيق السيادة الخارجيّة. وتُعتبَر هذه السيادة الداخليّة، أحد أهمّ المقوّمات التي تُبنى عليها نظريّة الدولة في الفكر السياسي والقانوني. وتشمل، في ما تشمل، إدارة الموارد الطبيعيّة والبشريّة والماليّة. وتحديد واجبات الدولة تجاه الشعب تلبيةً لحقوقه. الشعب الذي هو مصدر السلطات، هل تذكرون أيّها السادة؟ فهو المصدر الوحيد لسيادة الدولة. فعَن أيّ سيادةٍ يتحدّث السياديّون، والشعب طُحِنَت حقوقه وأمنه ومأكله ومشربه ومدرسته وجامعته ومستشفاه وجنى عمره..؟ وعن أيّ سيادةٍ يتحدّث السياديّون، وبلادنا قد دُمّرت زراعتها وصناعتها. وهُدِّد أمنها الغذائي. وهُدِرَت أملاكها البحريّة والبريّة. وشُفِطت رمالها. وعُرِّيت جبالها. ولُوِّثت ينابيعها وأنهارها وبحيراتها وبحرها. فتحوّلت إلى مجارٍ ومستوعباتٍ للنفايات؟ وعن أيّ سيادةٍ يتحدّث السياديّون، والدول ومنظّماتها غير الحكوميّة والأمميّة تستبيح فقرنا وتستثمر فيه على مرأى السياديّين وسمعهم؟ ولن نتحدّث، بالطبع، عن حكاية “إبريق الزيت” في ملفّ الكهرباء. فلهذه الحكاية مسارٌ أسطوري في النهب والهدر!
كلمة أخيرة. كان اليمين اللبناني ينعت الرئيس فؤاد شهاب، الباني الوحيد لمؤسّسات الدولة اللبنانيّة، بالرئيس اللّاسيادي. لماذا؟ بسبب علاقات شهاب العربيّة المميّزة، ولا سيّما مع الرئيس المصري جمال عبد الناصر، وما كان يمثّله على الساحتيْن العربيّة والعالميّة. ألاحظتم كيف يتلوّن “السياديّون” كالحرباء؟ فسياديّو القرن الواحد والعشرين في لبنان، وجُلُّهم من وَرَثة ذاك اليمين، إنّما يرون في العلاقات اللبنانيّة مع خصوم عبد الناصر، آنذاك، الحصن المنيع لصون سيادة لبنان! إقتضى التنويه.