قالت لي أمّي: “أنا سأقف في الصفّ بانتظار دوري. قمْ أنت بنزهةٍ في شارع كالفير Calvaire“. كانت هناك محلاّت كبرى للعب الأطفال، يشرح فيريليو. “لعبتُ، ومن ثمّ إلتحقتُ بأمّي. فوقفتُ بجانبها في الطابور. وبعدما اشترينا البسكويت، رجعنا إلى البيت. بعد الظهر، إشتدّ القصف على كالفير. وفي اليوم التالي، لم يبقَ حجرٌ على حجر في ذاك الشارع، حيث وقفنا قبل ساعات. هوى كالفير مثل ديكور. ليظهر أمامنا الأفق”.
هنا، تنتهي حكاية المفكّر الفرنسي الذي جاء من عالم تنظيم المدن إلى الفلسفة. لتبدأ حكايتنا في “مجتمع الطابور”! فما حدث في كالفير، كان يشكّل مصدر رعبي من الطوابير التي لم نكن نعرفها في لبنان، قبل الحرب. كنّا نصطفّ كالعسكر المهزوم أمام الأفران، بخاصّة. وكنت أرتعب من فكرة أن يتجمّع سوء الحظّ، كلّه، في اللحظة التي أقف فيها في الطابور. فليس للعنف آذان، لكنّه كان يسمع مَن يناديه. وليس للموت أرْجُل، لكنّه كان يهرع إلينا، بمناسبة ومن دون مناسبة. كان يتصيّد ضحاياه، أحياناً، وهم في الطوابير.
يا إلهي.. كم تمرّسنا في ذاك الوقوف! رجالاً ونساءً. كباراً وصغاراً. جميعهم كانوا يتناوبون على المرابطة في ما يشبه “نوبات الحراسة”. لاستلام ربطة خبز من هذا الطابور. أو كيس صغير من الأرزّ أو السكر من ذلك الطابور. أو غالون كاز من ذاك الطابور.. وهكذا. أمّا “رتبة الشرف”، فكانت محجوزة لطوابير السيّارات. سيلٌ من العربات ينتظر سائقوها رحمة المحتكرين لتنزل عليهم (لسعدي لم أكن أملك سيارة يومذاك). وعندما أُسقِط “السلم الأهلي” علينا، صارت الطوابير تقف لأغراضٍ أخرى. وخصوصاً، أمام المؤسّسات والإدارات العامّة. أي، حيث يتكثّف مستوى الذلّ ومعاييره، بفعل الفساد والإفساد.
“إنّ هذه السماء المكفهرّة لن تصفو، إلاّ بعد عاصفة”، يقول شكسبير في مسرحيّته الشهيرة “الملك جون”. إقتضى هبوب العاصفة على لبنان، ولو في عزِّ الصيف
ما أردتُ قوله من خلال هذه العودة إلى ذاكرتنا الطابوريّة، هو أنّنا في لبنان نادراً ما اصطفّينا في طوابير طوعيّة. تلك التي يختارها الإنسان اختياراً. بإرادته ولرغبةٍ لديه، وليس لضرورةٍ أو حاجة. ففي هذا النوع من الطوابير التي تفرزها، عادةً، الحياة المرفَّهة، يشعر الناس بالرضى والغبطة، غالباً. فأن “تقف في الطابور بانتظار النُسخ المئة الأولى من سلسلة رواياتٍ شهيرة، أو آخر إصدارٍ من هواتف Appel، أو من أجل شراء تذكرة لحضور حفلٍ غنائي، فهي لَعَمْري مسألةٌ احتفاليّة يمكن التباهي بها”، يؤكّد ريتشارد لارسون الخبير العالمي في سلوكيّات الوقوف في الطابور (والملقَّب “الدكتور طابور”). ولارسون هذا يعتقد، وعدداً من علماء الاجتماع، أنّ الطريقة التي يقف بها المرء في الطابور تدلّل إلى أصوله الثقافيّة. فالطابور، مثالٌ مصغّرٌ عن المجتمع الذي “ينتظم” فيه. وهو يختلف من بلدٍ لآخر. مثلما تختلف أسبابه ودوافعه وغاياته. وتخلق الطوابير، حولها، ظواهر عديدة ومتنوِّعة. منها ما يثير السخرية والدهشة. ومنها ما يستدعي التأمّل والتساؤل. ومنها ما يندى له الجبين ذلّاً وعاراً. لماذا؟
لأنّ هكذا نموذجاً يخصّنا، نحن بالتحديد، في هذه المنطقة العربيّة البائسة. ولا سيّما، في البلدان التي ثارت شعوبها. ولبنان، طبعاً، يحتلّ رأس القائمة. إذْ يُعتبَر هذا النموذج للطوابير، ذروة ما اجترحته “عبقريّة” حُكّامنا في الانتقام من الجماهير. وفي إعطاء الدروس في كيفيّة معاقبتها. دروس محورها واحد: “كيف تفبرك مواطنين مستعدّين لخوض حربٍ تنافسيّة طاحنة، في ما بينهم، كي يشتروا الذلّ في مزادٍ علني”! ألا ترون، كيف يتحوّل الانتظار إلى لعبةٍ قتاليّة حين يقوم أحدهم باختراق الطابور؟ أو بالقفز فوق دوره؟ هي لحظاتٌ مفصليّة شبيهة بتلك التي تحيلنا من التحضّر إلى البربريّة. إذْ يصبح الحصول على المال أو المياه أو الطعام أو الدواء أو الطبابة أو..، مسألة حياة أو موت. نعم. يسقط في الطوابير اللبنانيّة ضحايا. ويتماهى ذلك، مع نوعٍ من الانتحار الموارب.
لماذا تنبت الطوابير في أرضنا المحرَّرة؟
ترتبط سيكولوجيا الطابور، نظريّاً وعمليّاً، بسيكولوجيا الانتظار. فالوقوف في الطابور، سلوكٌ اجتماعي اكتسبه الإنسان من أجل تنظيم حقّه في الحصول على خدمةٍ أو سلعةٍ يريدها. وبحسب علم النفس، انطلقت فلسفة الطابور، في الأساس، لتلبية الرغبة الإنسانية بتحقيق العدالة. تبعاً لقاعدة بسيطة تقول: مَن يأتي أوّلاً، تتمّ خدمته أوّلاً. لكنّنا في لبنان، لا نعترف بكلّ هذه الترّهات. لا بالعلم. ولا بالعلماء. لا بحقوق. ولا بمساواة أو عدالة. للطابور عندنا، أهداف سياسيّة وسلطويّة سامية. بحيث يُراد من تصنيع الطوابير، إفهام العامّة بأنّ الوقوف في الصفّ يجب أن يصبح ركناً أساسيّاً ويوميّاً من سلوك الشخصيّة اللبنانيّة المعاصرة. وأكثر. يجب أن يستوطن “الطابور” في النفس اللبنانيّة. يجب أن يتقبّله الشعب كإنجاز. أن يصبر الناس للحصول على ما جاؤوا لأجله. أو من دون الحصول عليه، أيضاً. لا ضير من الانتظار يوماً كاملاً، بنهاره وليله، من دون جدوى. والأهمّ، يجب ألاّ يتأفّف عندما يأتي دوره ويسمع مَن يقول له: “عفواً لم يبقَ عندنا خبز.. هذا النوع من الدواء مقطوع منذ أشهر.. إنتهت كميّة البنزين المخصّصة للبيع اليوم.. إلخ”. معقولة هذه القسوة؟ لما لا.. يا صاحِ!
التفكير التآمري، له جذوره العميقة في عقليّة الطغمة القابضة على أعناقنا. فرائحة المؤامرة تفوح منها، مع صياح الديك كلّ فجر. للزنبق عطر. وللسلطة في لبنان، رائحة كذلك. نعم. للحُكم وحُكّامنا والسلطة والمتسلّطين علينا، رائحة نتنة. ولتقنيّاتهم في إشاعة البؤس وتصنيع “معدّات” اليأس، رائحة كريهة. هل سمعتم عن ظاهرة “رائحة السلطة” قبل اليوم، يا أصدقاءنا العرب؟ كلا. بالتأكيد، فهي ظاهرة حصريّة لنا. هي أعجوبة ظهرت في بلاد العجائب. هي معجزتنا في القرن الواحد والعشرين. في الحقيقة، نحن نشمّ هذه الرائحة، ونحن في بيوتنا. كونها تنبعث من الشاشات، بمجرّد أن يُطلّ “زعماؤنا” بوجوههم المقيتة على الجماهير الغفورة. وبمجرّد مشاهدة الطوابير المصطفّة على امتداد الوطن. على ما تبقّى منه، بمعنى أدقّ.
المشهديّة ليست مخزية فحسب، بل مخيفة. فالطوابير، هي الصورة الأكثر تعبيراً عن الحال الراهن لبلدنا. إنّها تخبرنا عن طبيعة الأيّام المقبلة. لكنّ طوابيرنا اليوم ليست كطوابيرنا بالأمس، للإشارة. أي، طوابير الحرب التي بدأتُ بها هذه السطور. فطوابير “العهد القوي” و”هيهات منّا الذلّة” و”إعادة الإعمار” و”الهندسات الماليّة”، لها سماتٌ خاصّة. هي طوابير أزماتيّة مصنَّعة. أو يمكن تسميتها بطوابير العوز المفتعَل. كيف؟ إسمع يا رضا!
لأوّل مرّة في التاريخ السياسي، تدمّر الدولةُ الوطنَ تحت أنظار شعبها وبمباركته. والأقسى، أنّ المتذمّرين من هذا الشعب، حقّقوا أغلى أماني العصابات الحاكمة، من حيث لا يدرون. قدّموا لها يأسهم العميق واستسلامهم الأعمق على طبقٍ من ألماس. أهدوها انتصاراً علينا، بأنْ قالوا “أنتِ أو لا أحد”
يحتشد اللبنانيّون، في هذه الطوابير، لغايةٍ صراعيّة أو خضوعيّة. وقد اقترن هذا النوع من الطوابير اللبنانيّة، بالأزمات المفتعَلة. بفساد حُكّامنا. بخوائهم وتفاهتهم. بقدرتهم الاستثنائيّة على الإجرام المكتوم الصوت. بتخريبهم المبرمج لمؤسّسات الدولة وشتّى القطاعات الخدماتيّة. بتهميشهم الممنهج لدور المواطن وفاعليّته الاجتماعيّة. بازدرائهم الفظيع لعنفوانه. باستخفافهم بتبديد عمره “الرخيص” (بالنسبة إليهم) في الطابور. فبعد أن تآمر النظام ومنظومته لكي نصل إلى حيث نحن اليوم، قاموا بخطف الإنسان اللبناني من نسقه الطبيعي في الحياة اليوميّة. زجّوا به في طوابير تلغي آدميّته وتدمغه بختم القطيع. قالوا له، “لكي تحيا، عليك بالإذعان للفكرة القائلة إنّك موجود، في وطنك، قطيعيّاً وليس إنسانيّاً”! وأذعن.
ما يحصل، أيّها الأعزّاء، أنّنا في مرحلةٍ تتمّ فيها إعادة تشكيل البناء النفسي للمواطن اللبناني. تقوم هذه الطبقة السياسيّة المجرمة، بتدجيننا. بتدريبنا على تمضية حياتنا متنقِّلين بين الطوابير. على أن نصبح أرقاماً في هذه الطوابير. هي ستبدأ، وقريباً، التفنّن باختراع الطوابير لنا، وأساليب الانتظار فيها. وبتكديس الأرقام وقمع الرافضين لهذا التكديس. سيصبح لدينا، بعون الله، طوابير للحصول على أيّ شيءٍ يخطر ببالنا. وأكثر. سيكون لنا طوابير، للإنطلاق إلى الحروب. أي إلى جبهات الأزقّة الطائفيّة وشوارعها. طوابير للتنقيب عن أسماء الشهداء. للبحث عن أعداد المفقودين والمعدومين والمعتقلين. طوابير عند أبواب المستشفيات. وأسوار السجون.. إلخ. طوابير أم قطعان؟ قطعان، بلى.
ليست بسيطة المشاهد التي يصدِّرها لبنان عبر الأقمار الاصطناعيّة. مشاهد تصيب المرء بالذهول والغضب والذعر. وعلى الرغم من تمرّسنا بالقساوات والعذابات، لكنّ الأمور باتت فوق طاقتنا على الاحتمال. ما يحصل، غير مسبوق. هذا الاحتقار المتمادي لنا ولحقوقنا ولملكيّتنا ولحرّياتنا، غير مسبوق. لا حدود لحقدهم. لوضاعتهم. لقلّة أخلاقهم. إضطرابٌ ما بعده اضطراب، يضربنا. هو في أحد وجوهه كفرٌ بهذه السلطة ومَن حَوَت. لكن، ثمّة ما هو أقسى. فلأوّل مرّة في التاريخ السياسي، تدمّر الدولةُ الوطنَ تحت أنظار شعبها وبمباركته. والأقسى، أنّ المتذمّرين من هذا الشعب، حقّقوا أغلى أماني العصابات الحاكمة، من حيث لا يدرون. قدّموا لها يأسهم العميق واستسلامهم الأعمق على طبقٍ من ألماس. أهدوها انتصاراً علينا، بأنْ قالوا “أنتِ أو لا أحد”. هذا الانتصار يحتاج، لوحده، إلى “دزّينة” مقالات!
كلمة أخيرة. “إنّ هذه السماء المكفهرّة لن تصفو، إلاّ بعد عاصفة”، يقول شكسبير في مسرحيّته الشهيرة “الملك جون”. إقتضى هبوب العاصفة على لبنان، ولو في عزِّ الصيف.