عدالة الأنْكِل سام: لِكُلٍّ حَسْب.. بياض وجهه

العدالة والقانون في أمريكا (كأشياء كثيرة أخرى) لها معايير واضحة في التطبيق العملي: ما ينطبق على البيض الميسورين خصوصاً، والرجال إجمالاً لا ينطبق على غيرهم، وما يُفرض على غيرهم لا يُفرض عليهم.

طلعت علينا وسائل الإعلام الأمريكيّة (للمناسبة، كشفت أزمة أوكرانيا العنصريّة المتفشية في هذا الإعلام) مؤخراً بخبر التسوية القضائيّة بين عائلة ساكلر (Sackler) وشركتهم “بوردو فارما” للأدوية (Purdue Pharma) وبين مجموعة من المدّعين العامّين يمثّلون بعض الولايات الأمريكيّة والذين كانوا رفعوا دعوى ضد العائلة والشركة لدورهم في نشر آفة الأوبيود (Opioids) التي أدّت في العقد الأخير من القرن المنصرم إلى موت أكثر من نصف مليون شخص في أمريكا (للدقّة، ما يزال موضوع التسوية بحاجة إلى موافقة نهائية من القاضي المشرف على الدعوى).

الجرم الذي إقترفته عائلة ساكلر ليس في كون الدواء الذي تنتجه شركتهم سرّع في نشر آفة الأوبيود، وأعني هنا عقار الأوكسيكونتن (OxyContin) وهو دواء مخدّر (narcotic) من فصيلة المورفين يُستخدم من أجل علاج الآلام الشديدة التي لا تنفع معها المهدّئات المعروفة مثل الأدفيل (Advil) أو البنادول (Panadol). هذا الأمر يعرفه أفراد العائلة جيّداً (وفقاً لأدلّة دامغة ومتوفرّة للمدّعين العامّين)، خصوصاً المراسلات التي تشير إلى علمهم الكامل بأنّ الأوكسيكونتن يقود من يستخدمه إلى الإدمان عليه ويمكن أن يؤدّي إلى الموت إذا أُخذِت منه جرعة زائدة، ويدفع الكثيرين إلى تعاطي مخدّرات أقوى.

يرتبط النظام القضائي كحبل السرّة بنظام سياسي إقتصادي جوهره الدفاع بكلّ ما لديه من قوّة (ناعمة أو غير ناعمة) عن مصالح طبقة مسيطرة لها الحق في عمل أي شيء، وعندما تنفضح أمام الرأي العام، يصبح همّ هذا النظام القضائي فقط إيجاد التسويات لحمايتها بأي شكل أو ثمن ممكن. إنّها عدالة الأنْكِل سام

الجريمة الأكبر والأوقح تتمثل في قيام أفراد عائلة ساكلر برشوة آلاف الأطبّاء من أجل حثّهم على وصف كمّيّات كبيرة من دواء الأوكسيكونتن إلى مرضاهم. أخذ حبّة أو حبّتين منه مباشرةً بعد عمليّة جراحيّة (مثل تركيب ركبة إصطناعيّة أو قلع سنّ) ولأيّام قليلة لا يعرّض المريض إلى مشاكل، لكن أخذه لمدّة أسبوعين يؤدي إلى حالة من الإدمان. إذاً، عندما يصف الطبيب لمريضه 30 حبّة، فهو يضعه فعليّاً على سكّة الإدمان، فيصبح المريض مدمناً عليه، يستهلكه حتّى عندما تنتفي الحاجة الطبّيّة إليه. وهنا بيت القصيد: إدمان الناس على الأوكسيكونتن يدرّ مليارات الدولارات على عائلة ساكلر، تستخدم بعضه من أجل رشوة الأطباء، وبعضه الآخر من أجل تلميع صورتها أمام الرأي العام في أمريكا كالـ”تبرّعات” لأهل السياسة والإعلام وحتّى الأبحاث العلميّة.

وفقاً لهذه التسوية التي تبين حجم الفساد وتغلغله في الجهاز القضائي الأمريكي، وافقت عائلة ساكلر على دفع مبلغ 6 مليارات دولار مقابل إعطاء أفرادها وشركتهم حصانةً كاملةً وشاملةً من أي دعوى أو ملاحقة قضائية حاليّة أو مستقبلية تتعلّق بهذا الموضوع. من دون شك، حجم المبلغ خيالي، ويوحي وكأنّ العائلة تم تلقينها عقوبة كبيرة. لكن هذا المبلغ لا يتعدّى نصف ثروة العائلة المُقدّرة بنحو 13 مليار دولار، جنت معظمها من بيع دواء الأوكسيكونتن. تسوية هي تحايل فاضح على القانون من أجل حماية عائلة ساكلر وإفلاتها من العقاب وإغلاق الباب نهائيّاً على أي دعوى يمكن أن يتقدّم بها شخص ضدّ الشركة/ العائلة مستقبلاً. تغطّي التسوية أيضاً الأبعاد الأخرى للجريمة مثل التحايل بمليارات الدولارات على شركات التأمين، خصوصاً مؤسّسة الضمان الصحّي (Medicare).

كلّ هذا ليس بجديد في عالم العدالة في أمريكا. في سنة 1998، تمّ التوصل إلى تسوية مشابهة مع شركات التبغ حصّنت أصحابها من أي تبعة قضائيّة للجرائم التي إقترفوها، والتي تشمل علمهم الموثّق بأنّ التدخين يسبّب سرطان الرئة ويقود إلى موت الكثير من المدخّنين وغير المدخّنين (تقدّر الإحصاءات هؤلاء بنصف مليون شخص سنويّاً في أمريكا وحدها). وتشمل أيضاً الرشاوى الضخمة التي دفعوها إلى سياسيّين، من أجل عرقلة التحقيقات وطمس الأدلّة منذ ستّينيات القرن الماضي.

هناك تسويات كثيرة مماثلة جرت مع شركات كبيرة كان لها دور مباشر في تلويث الأنهار والمياه الجوفيّة في كثير من مناطق أمريكا. كلّ حالة من هذه الحالات تُعطينا مثلاً واضحاً كيف أنّ العدالة موجودة أساساً من أجل حماية مصالح طبقة معيّنة.

وهنا يمكن أن نتساءل عن أسباب تجاهل النظام القضائي الأمريكي للجرائم الماليّة التي اقترفها دونالد ترامب منذ ثمانينيات القرن المنصرم مع علمه الكامل بها. هل ذلك لأنه من الصعب إيجاد أدلة ثابتة ضدّ ترامب، أم لأن الإيقاع به سيؤدّي إلى فضح الفساد في الجهاز القضائي والمالي والسياسي الذي غطّى ترامب ومخالفاته وجرائمه الماليّة؟ إذاً، هل لنا أن نفترض أنّ المماطلة في محاكمته هي من أجل تفادي هذا الكابوس، لعلّه يقتنع بتسوية وضعه، ولو أدى ذلك إلى خسارة بعض ثروته، لكنّها تحصّنه وأفراد عائلته وتوفر في الوقت نفسه الحماية لمن ينبغي حمايتهم؟

إقرأ على موقع 180  "فورين أفيرز": أميركا وإيران.. إمتحان الفرصة الأخيرة

ما أقوله معروف جيّداً لكثير من الأمريكيّين المهتمّين بالشأن العام وبفضح الفساد المستشري في كلّ مكان. لكن ليس لهؤلاء قدرة إلاّ قول: “اللهمّ إشهد أنّي قد بلّغت”. يعرفون جيّداً أن هناك عدالة بخمس نجوم لمن هم من طبقة الـ white collar، أي أصحاب القمصان ذات الياقات البيضاء، وهم أصحاب الشركات والمدراء والميسورون الذين كانوا حتّى زمن قريب جدّاً من الرجال البيض. وهذه العدالة تختلف عن العدالة التي تُطبّق على أصحاب الياقات الزرقاء (blue collar)، وهم إجمالاً من الطبقات الأدنى والذين يحصلون على بعض الأفضليّة وفقاً للون بشرتهم: الأبيض أفضل من البنّي، والبنّي أفضل من الأسود. ونصل هنا إلى العدالة التي تطبّق على السود، والتي تستخدم فيها كلّ أنواع التزوير للأدلّة والحيل القضائية والبوليسيّة من أجل التنكيل بهم وتطبيق أقسى العقوبات بحقهم.

تدلّ الإحصاءات على أنّ الرجل الأسود يحصل على عقوبة أطول بـ 20% من الرجل الأبيض إذا ارتكبا الجرم ذاته. كذلك، نجد 40% من المسجونين هم من السود، بينما نسبتهم من السكان في أمريكا هي 13%

مثلاً، تدلّ الإحصاءات على أنّ الرجل الأسود يحصل على عقوبة أطول بـ 20% من الرجل الأبيض إذا ارتكبا الجرم ذاته. كذلك، نجد 40% من المسجونين هم من السود، بينما نسبتهم من السكان في أمريكا هي 13%. هذا ليس لأن الأسود أكثر إجراماً من الأبيض، بل لأنّ المدّعين العامّين والقضاة على استعداد أكبر لإيجاد تسويات تساعد البيض على تجنّب السجن، بينما تمنع ذلك عن السود.

يمكن أن نقول أنّ كلّ هذا ليس بالمهم أو بالجديد، وأنّنا نجد ذلك أيضاً في كثير من الأنظمة القضائيّة والسياسيّة حول العالم، الآن وعبر التاريخ. هذا صحيح إلى حدّ ما. لكن ما نشهده في هذه الفترة تحديداً من توسّع لغطرسة الولايات المتّحدة وبلوغها مستويات من القباحة والوقاحة لا مثيل لها يُحتّم فتح باب النقاش في هذا الموضوع. تصرّف الولايات المتّحدة وكأنّ قانونها هو القانون وعدالتها هي العدالة هو جريمة بحقّ البشريّة إذا ما أخذنا بالإعتبار التبعات الكارثيّة لنظام العقوبات التي تنتهجه حول العالم والذي على أساسه تسلب أموال البلدان وتلاحق وتسجن من تعتبره منتهكاً لعقوباتها. عقوبات أمريكا تتسبب بأزمات إجتماعيّة وصحيّة وإقتصاديّة وسياسيّة وبيئيّة وربما تكون سبباً في حروب لم يشهد العالم مثيلاً لها من قبل. وفي الوقت نفسه، تدعم أمريكا أنظمة وكيانات وعصابات تنشر القتل والتهجير والسرقة والإرهاب ومخالفة القانون الدولي. هذا لا يعني بتاتاً أنّ المحظوظين من حلفائها تنطبق عليهم عدالة أصحاب الياقات البيضاء، لأنّهم كأحجار الشطرنج تتلاعب بهم عند حاجتها إليهم ثم ترميهم عندما يصبحون عبئاً عليها (كما حدث في كوبا، فيتنام، وأفغانستان و..). لكنها، وفي مواجهة من يقول لها لا، تنتهج العدالة نفسها التي تُطبّقها تجاه الطبقات الدنيوية، وبحنق مقيت لا هوادة فيه.

في الخلاصة؛ يرتبط النظام القضائي كحبل السرّة بنظام سياسي إقتصادي جوهره الدفاع بكلّ ما لديه من قوّة (ناعمة أو غير ناعمة) عن مصالح طبقة مسيطرة لها الحق في عمل أي شيء، وعندما تنفضح أمام الرأي العام، يصبح همّ هذا النظام القضائي فقط إيجاد التسويات لحمايتها بأي شكل أو ثمن ممكن. إنّها عدالة الأنْكِل سام.

Print Friendly, PDF & Email
سليمان مراد

كاتب وأستاذ جامعي مقيم في الولايات المتحدة

Download Nulled WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  الإحتياطي الإلزامي و"حُماة العرين".. تعمية على أصل مُتبخر