أمسك وسام بيدي قبل عشر سنوات مُصراً على أن اخوض تجربة الصحافة الى جانبه في جريدة “السفير”، “لا تخافي سأعلمك”. خفت كثيراً لكنه علّمني أكثر بكثير.
كان وحده يعمل كخلية نحل.. خلية نحل متجسدة بشخص يكتب ويحرر ويقرر ويشرح ويحلل وينفذ الصفحات.. يفعل كل ذلك ضاحكاً. كنا اذا اغمضت عيناه خمس دقائق في مكتبنا من شدة التعب، نمشي على رؤوس اصابعنا كي لا نزعجه. وحده كان يستحق أن يرتاح قبل أن يصحو وتصحو معه ابتسامته وتلك القهقهة الساحرة.
كان دائما آخر المغادرين بسيارته الحمراء المتعبة من اكتظاظ الجريدة وضجيج اصواتنا تسأله عن رأيه في فكرة مقال او أن يحرّر لنا نصاً ويقرأ مواضيعنا ويساعدنا في اختيار الصور وحتى كتابة العنوان، وبمبادرة منه قد تكون محظوظاً برسم غرافيك يرافق مقالك من صنع وسام.
ممنوع علينا ان تمر فترة طويلة دون أن يرى اسماءنا واردة في الجريدة، “يا بت يا ربى هتكتبي ايه؟” “صفحة افكار واخبار الك الاسبوع الجاي، يلا”. كانت صفحة “افكار واخبار” تحفته الفنية، “يمزمز” فيها حتى يضمن نجاحها وتميزها.
يناقشني ويطرح علي افكارا حتى استسلم. كان يتمعن بمقالاتنا او حتى طريقة تحريرنا لنصوص المراسلين، يطرح علينا تعديلات. يشرحها لنا بصبر لا مثيل له، وروح خفيفة “زي السكر”، العبارة المفضلة التي يرددها يومياً.
يضع لمساته الأخيرة على صفحات القسم العربي والدولي، ثم على الصفحة الاولى ويمضي إلى سهرة، لكن الخروج من باب الجريدة، لا يمر من دون نكتة مع فايز عجور وربما دعوة لنا الى فنجان قهوة في المقهى المجاور.
ومن يعرف وسام مرة يصبح مدمناً على صداقته، قبل “السفير” وخلالها وبعدها. مدير واستاذ وصديق في آن، وقلائل هم القادرون على الدمج بين هذه وتلك بكل خفة وحب و”زي الفل”!
على احد جدران شقتي، نسخة من عدد “السفير” الصادر في تاريخ ميلادي موضوعة في برواز خشبي اخضر، هدية صديقي وسام في عيد ميلادي..
من يعرف وسام مرة يصبح مدمناً على صداقته، قبل “السفير” وخلالها وبعدها. مدير واستاذ وصديق في آن، وقلائل هم القادرون على الدمج بين هذه وتلك بكل خفة وحب و”زي الفل”!
وسام ليس صديقاً عادياً. وسام سوبرمان الصداقة، يفهم علينا قبل أن نتلفظ بكلمة، يحفظ اهتماماتنا ولا يهنأ له بال إلا بعد أن يُجبرنا على الابتسام.
يرمي نكتة هنا وضحكة هناك وخلال ثوان يتحول محاوراً جدياً. يشرح عن مصر وخباياها. عن روسيا وأسرارها. عن الجزائر وتاريخها. الصين وكوريا.. واكثر بكثير. وسام مرجع متنقل. قرأ كثيراً ولم يشبع. صاحب طموحات لا حدود لها. مشاريع كتابة ومواقع الكترونية، ولا شيء غير قابل للتنفيذ، كله ممكن، ولا يهنأ حتى يحقّق ما يريد.
يقول لي محمود مروة “اكتبي مقطعين عن وسام”. لكن ماذا اكتب في مقطعين عن استاذي وصديقي ومرجعي؟ اقول دائما اني لا اقوى على التعبير عن مشاعري خاصة في الكتابة، وها انت يا وسام تجبرني كعادتك على الفعل الأصعب.
مرت أشهر من دون تواصل مع وسام. الحياة تُشغل الناس عن بعضها البعض. هكذا يقولون لي. لا، لا يجب ان تشغلنا عن الاصدقاء. لم يكن يجدر بها أن تشغلني عن فنجان قهوة مع وسام. لكني اليوم افضل الاعتقاد بأنك مشغول، بأننا نعيش في مدينة واحدة ومشغولين بهمومها، على أن أفكر ان هذه المدينة الكئيبة لن تجمعنا مجدداً. من سيهدئ الغضب التي يتملكنا مع كل إنهيار جديد في هذا البلد، من سيسخر ويتآمر معنا، من سيقول لي “تيجي نروح مصر”!
لا أنسى صورتنا، انا وانت وعلي شقير ومحمود مروة وعمر سعيد في الحمرا بعد يوم عمل مرهق، كتبت في تعليقك عليها “معكم خمس ساعات. يا ثورة يا موت. أنا طالع ارتاح قبل الثورة وقبل الموت”. مرّت الساعات الخمس يا وسام. حبيبي وسام.