بيروت مدينتي.. وليست مدينتي!

جرت العادة أن يكون الزمن خير أنيس للمفجوعين. يطوي سنة بعد سنة شيئاً من وجعهم. وجع أحبة فقدوهم. لكن مع بيروت، لا يبدو أن هذه العادة ستتكرر. يقولون إننا "نستذكر الرابع من آب"، لكن مَن قال لهم أصلاً إننا سننسى؟  

أكثر من مائتي شهيد، أكثر من ستة آلاف وخمسمائة جريح، مئات آلاف اللبنانيين يقيمون في لحظة 4 آب. يعيشون وجع اللحظة في كل لحظة. عندما ينظرون في المرآة متحسسين ندبة او جرحاً لم يختف بعد. عندما ينظرون الى صورة حبيب او حبيبة أو أحبة غابوا في ومضة ضوء. عندما يتحسسون أشياءهم وألبومات صورهم فلا يجدون إلا الركام.

السادسة وسبع دقائق من مساء 4 آب هي لحظة خذلان. في ثوانٍ معدودة ادركت ان ثمة ما ثبت وجهي على سطح الطاولة الخشبية التي كنت اجلس امامها في أحد مقاهي العاصمة.

في تلك اللحظة، وانا ارى الزجاج يتطاير قبل ان يستقر وجهي على طاولة تحت ثقل واجهة زجاجية، خطر لي ان المدينة تنبذني، وكأنها تقول لي أنتِ لست بأمان هنا. أنا التي اقنعت مركز عملي في لندن ان بيروت مدينة آمنة، وان التحذيرات التي تصدرها السلطات الرسمية في أوروبا ما هي الا تضخيم لواقع ليس بهذا السوء، وان مثل هذه التحذيرات تستهدف الاجانب عادة وليس ابناء البلد، وانا بنت البلد، اعرف المخاطر وقد اختبرتها كمواطنة وصحافية. اعرف كيفية التعامل معها وسبل تفاديها بمساعدة أهل واصدقاء وزملاء. اعرف قراءة ما يسبقها، لكن انفجار 4 آب هزّ قناعاتي. لم أعد أشعر بأن بيروت مدينتي وأن المخاطر محسوبة ويسهل التعامل معها. تاريخ الإنفجار هو تاريخ كشفنا وإنكشافنا. لا منظومة أمان تحمينا. لا في المكتب ولا في المنزل ولا في الشارع. في الحرب أنت تقاتل وتختار أن تموت لكن كيف للموت أن يطاردك في فراشك أو أثناء تناولك كأساً مع شلتك؟

بيروت لم تزل مدينتي، لكنها لم تعد مدينتي، كيف وهذه الطبقة السياسية تحتلها. مدينتي محتلة من فاسدين ومرتزقة وقتلة. أصبحت أخاف بيروت، أخاف استسلامها لجلاديها وقاتليها، أخاف كيف تجذبنا لتسلمنا إليهم، أخاف مصيدتها، عقدة الذنب التي نستشعرها عند غيابنا عنها

ثمة قادة يُطلق عليهم عندنا زورا لقب النخبة الحاكمة. هؤلاء يؤتمنون في بلدان اخرى على حياة مواطنيهم وصالحهم كما الصالح العام. بالمقابل، فاق هؤلاء عندنا كل التوقعات في فسادهم وتقاعسهم وجبروتهم ونرجسيتهم. هم شغّلوا زر التدمير. قنبلة شُغّلت قبل ست سنوات، وزر التفعيل يعمل ويعد الثواني والدقائق والايام والسنوات. كأن بيروت ليست مدينتهم. لم يخطر على بالي انا وصديقاتي ان هذا الصوت الزلزالي نتج عن استهتار من تبوأ السلطة وحولها مصدرا للنفوذ والجبروت والمنفعة الشخصية. لم تذهب مخيلتنا ابعد من غارة اسرائيلية، او تفجير ارهابي. لكن الدم الذي سال من وجهي ومن اجساد الآلاف من أمثالي.. و”التروما” الجماعية لاكثر من مليون ساكن في هذه المدينة سببه هُم وليس أي عدو آخر. عندما كان وجهي راقداً بين الزجاج والخشب واصدقائي يحاولون رفع الواجهة الزجاجية عن كتفيّ، رفضت في عقلي فكرة الضحية، هل سأتحول أنا الصحافية التي غطت حروباً في بلدها الى مادة للتغطية الصحفية؟ رفضت ان اصدق ان هناك اذى في وجهي، وأن الدماء التي بدأت تسيل عندما تمكنت من التحرر من الواجهة الزجاجية ما هي الا نتيجة نزيف في الانف من وقع الضربة. رفضت ان اصدق انها جروح، وان الذهاب الى المستشفى والتقطيب امران لا مفر منهما. في تلك الدقائق التي تلت الانفجار، أصبح وجهي المغطى بالدماء وبقعة الدم التي تكونت تحت قدمي عنصر جذب لهواتف نقالة ارادت التصوير والبث، انا التي طالما حاضرت بضرورة حفظ خصوصية وكرامة المصابين في هكذا حالات، وجدت نفسي اصرخ بوجه باباراتزي وسائل التواصل الاجتماعي ممن بات همهم، حصد اللايكات والمتابعات وإشباع الذات والتلذذ بتعذيب الآخرين، كما حكامنا، على حساب معاناة شعبهم ومآسيه. لا ادري من اين أتت قدرتي على الصراخ بوجههم واحدا تلو الآخر، كلما اقتربوا من وجهي.

حتى تكون بيروت مدينتي أنتظر منها أن تثبت أنها أقوى من القتلة.. وبيروت ليست مدينتي إذا إستمر الإفلات من العقاب

عندما وصلت إلى آخر مستشفى في محلة رأس بيروت، بعد رفض ثلاث مستشفيات استقبالي لان جروحي تنتمي إلى فئة يطلق عليها اسم “الجريح القادر على التنقل سيراً على الأقدام”، أدركت ان العدو المسؤول عن تشظينا وتشظي مدينتنا هم من يطلق عليهم لقب الحاكم والزعيم والرئيس، وفي موازاتهم باباراتزي السوشيل ميديا. حتى باحة الطوارئ في المستشفى لم تنجُ منهم. وهم لم ينجوا من صراخي وصراخ أصدقائي. اذكر جيدا عبارة قلتها في وجه احدهم “هيدا دمي شو خصك في”.

بيروت لم تزل مدينتي، لكنها لم تعد مدينتي، كيف وهذه الطبقة السياسية تحتلها. مدينتي محتلة من فاسدين ومرتزقة وقتلة. أصبحت أخاف بيروت، أخاف استسلامها لجلاديها وقاتليها، أخاف كيف تجذبنا لتسلمنا إليهم، أخاف مصيدتها، عقدة الذنب التي نستشعرها عند غيابنا عنها. بيروت لم تزل مدينتي، بيروت جرح لم يندمل بعد، بيروت 4 آب 2020 تروما توّجت صدمات كثيرة عايشناها منذ ولادتنا حتى أصبحنا شبابا وشابات. حروب أهلية، احتلال إسرائيلي، هجمات إرهابية. كل الصدمات التي عشناها وعايشناها في كفة وصدمة 4 آب 2020  في كفة مقابلة.

إقرأ على موقع 180  سلبية التواريخ.. وتاريخية الهزائم!

بيروت لم تزل مدينتي. بيروت لم تعد مدينتي حتى تلفظهم كلهم، حتى تحقق لنا العدالة.

لن تعود ثقتي بمدينتي الا عندما تتوقف عن لفظ اولادها وانا منهم، بدلاً من لفظ كل الذين تسببوا بتدميرها وقتل روحها ومحاولة إنتزاع أرواحنا.

حتى تكون بيروت مدينتي أنتظر منها أن تثبت أنها أقوى من القتلة.. وبيروت ليست مدينتي إذا إستمر الإفلات من العقاب.

Print Friendly, PDF & Email
زاهرة حرب

أستاذة في جامعة سيتي، بريطانيا

Download WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  التحرير الـ 21.. عيدٌ بأي حال عُدتَ يا عيدُ!