حين يخوض “ثوّار لبنان” حروب إلغائهم!

عندما كنتُ آتي من غربتي إلى لبنان للزيارة، في بداية التسعينيّات، كانت تدهشني حمّى شعبيّة من نوعٍ آخر. كان الناس يتناقلون، وبشغفٍ وإعجابٍ عابريْن للمناطق والطوائف، آخر أخبار وفصول وتفاصيل قصّة عشقٍ مكسيكيّة. كان مسلسلاً "ملحميّاً" بعنوان Tú o nadie أي "أنتَ أو لا أحد".

يروي المسلسل، الذي شكّل باكورة اجتياح الدراما المكسيكيّة لشاشتنا الصغيرة، مغامراتٍ شيّقة. ولطالما شغلت الصبيّة الفقيرة “راكيل” وزوجها وحبيبها الثري المتواري عن الأنظار “أنطونيو”، بال اللبنانيّين وفضولهم.  كانوا يتحرّون، بشوقٍ موصوف، تطوّرات حياتها. ويرصدون ما إذا كان “ماكس مليانو” شقيق “أنطونيو” الشرّير، سيستطيع تحقيق مآربه في خداع “راكيل” وامتلاك قلبها. باختصار، كان مصير “تلك العائلة المكسيكيّة الخياليّة” يقضّ مضجع أهل لبنان. أكثر بكثير من مصير مفاوضات السلام العربيّة – الإسرائيليّة (التي كانت تنعقد بالتزامن مع بثّ ذاك المسلسل).

أجل. كانوا قلقين على مصير “راكيل”، أكثر بكثير أيضاً، من قلقهم ممّا إذا كانت إسرائيل ستتمكّن من تطويع لبنان للدخول معها في تفاوضٍ مباشر. في مدريد. ومن ثمّ في واشنطن. وأكثر. كانوا يهتمّون بأحداث “أنتَ أو لا أحد” أضعاف اهتمامهم، كذلك الأمر، بعمليّة “إعادة إعمار لبنان”. وبما كان يُخطَّط له، حينذاك، بين رئيس حكومة لبنان الراحل رفيق الحريري ونظام الرئيس السوري الراحل، أيضاً، حافظ الأسد. لماذا هذه المقدّمة؟

لأنّ Tú o nadie كان له فضلٌ عظيم على سياسيّينا. فهُم اجترحوا، من وحيه، معادلة نادرة لحُكم لبنان. معادلة، اختزلت الحياة السياسيّة اللبنانيّة في بضع شخصيّات. وفي بضعة أحزاب. ينهلون، جميعهم، من المنهل ذاته. من القاموس الميليشياوي الحربي عينه. من الأسلوب الإلغائي في النزاعات نفسه. “أنا أو لا أحد”. كانت تلك معادلتهم في السلطة. في الوجود كلّه. معادلة، شكّلت إحدى متحوّرات “حكمة” الإخوان المكسيكيّين “أنتَ أو لا أحد”. هو شعارٌ بسيط، بلا ريب. غير أنّه، وعلى الرغم من بساطته، مُعبِّر جدّاً. بليغٌ للغاية. يشبه ما يسمّيه اللغويّون “السهل الممتنع”. ذاك الذي لا يهبه الله لجميع البشر.

أمّا أن تحذو القوى التي انبثقت من ساحات الثورة (معظمها؟) حذو حُكًامنا، فلَعَمْري هو حدثٌ مُستَهجَن! وأن تُكمل تلك القوى مسار الثورة المضادّة التي شنّتها السلطة على جموع 17 تشرين، فهي نهاية الدنيا، بنظري!

لكن، ماذا نقرأ في طيّات هذه المعادلة الشَرْطِيّة؟

عندما يرفع حُكّام لبنان سُبابتهم للتوعّد (يرفعها حاكمٌ واحد في الحقيقة بالنيابة عنهم) ممّن تسوِّل له نفسه التجرُّؤ على “كراسيهم”، فهذا، منطقيّاً، مفهوم. أي، بمنطق احتكارهم لكلّ السلطات والمواقع في بلادنا! وعندما تنشغل أحزاب السلطة في التهام بعضها بعضاً، وترتكب شتّى الموبقات في حروب إلغائها لبعضها البعض، فهذا سلوكٌ مفهوم، كذلك الأمر. فلقد سفكوا الدماء. وأفسدوا الأرواح. وحطّموا النفسيّات. وزرعوا القلق. وصنعوا المآسي. وأطفؤوا الأنوار. وأبادوا المؤسّسات. ودمّروا الدولة. وبدّدوا الودائع. ونهبوا مقدّرات الوطن. وفجّروا مرفأ بيروت. وشتّتوا اللبنانيّين بين غربةٍ وطوائف. وأجهضوا كلّ الحراكات الشعبيّة. وقمعوا ثورة 17 تشرين، كُرمى لهذا المنطق الاحتكاري والإلغائي إيّاه. أمّا أن تحذو القوى التي انبثقت من ساحات الثورة (معظمها؟) حذو حُكّامنا، فلَعَمْري هو حدثٌ مُستَهجَن! وأن تُكمل تلك القوى مسار الثورة المضادّة التي شنّتها السلطة على جموع 17 تشرين، فهي نهاية الدنيا، بنظري!

لنضعْ بعض النقاط على الحروف.

مطلع هذا الأسبوع، أقفل باب تسجيل اللوائح الانتخابيّة في لبنان على 103 لوائح. وعلى  718 مرشّحاً سيخوضون المعركة على 128 مقعداً نيابيّاً. هذا العدد الكبير للمرشّحين واللوائح، كان أمراً غير مسبوق في تاريخ لبنان. ولا سيّما، لجهة مشاركة ما يُسمّى “القوى التغييريّة”. تسمية فضفاضة، لا تمتّ شعارات أصحابها بأيّ صلة لتغييرٍ محتمل في النظام. وفي الأسبوعيْن اللذيْن سبقا إقفال باب تسجيل اللوائح، حصل ما كان متوقَّعاً.

إذْ تبيّن أنّ خلافاتٍ جسيمة تعيق إيجاد لوائح موحّدة للقوى المذكورة، في كلّ لبنان. وبدا الانقسام حادّاً وعموديّاً في ما بين “الحلفاء”. سرعان ما ظهّرته المناقشات الداخليّة للعلن. فإضافةً إلى رفض عددٍ من المجموعات وجود “حزب الكتائب” معها “في الخندق الواحد”، برزت حالة تململ، أيضاً، حيال “الوافدين الجُدد” من السياسيّين التقليديّين، إلى كنف المعارضة (اعتراض وجيه بالتأكيد). فهؤلاء، ممّن خرجوا أو خرج آباؤهم من الباب، عادوا ودخلوا إلى “الحلبة السياسيّة” من شبّاك استغلال “الحالة الثوريّة” الناشئة في لبنان. وصاروا يتشدّقون بشعاراتٍ “ثورجيّة إصلاحيّة” جوفاء، ظنّوا أنّها ستساعدهم لإعادة تجديد حضورهم النيابي. “على ظهر” الثورة وقواها. لكنّ أهمّ و”أخطر” ما حصل، تمثّل في سعي معظم المجموعات للحصول على مقاعد انتخابيّة يفوق عددها عدد المنتسبين إليها!

أيُعقَل؟ نعم.

كانت هذه المجموعات تدرك تمام الإدراك، أنّه، وعلى مستوى الحسابات السياسيّة، لن يكون لهذه الغزارة في عمليّات ترشّح عناصرها انعكاساتٌ جيّدة على مصيرها! ربطاً بالتشتّت الحاصل في ما بينها. ونزول “المستقلّين” بوجه بعضهم في الدوائر الانتخابيّة. وكانت هذه المجموعات تدرك تمام الإدراك، أنّ “الأنا” المتضخّمة في صفوفها، ستصعّب وصول “التغييريّين” ككتلةٍ فاعلة داخل البرلمان. والأسوأ، أنّهم نُبِّهوا، وباكراً، إلى محاذير اللعب في منطقة الخطر!

إقرأ على موقع 180  مأزق اليسار الشيوعي.. تحليل الطبقات والتشكيلات الاجتماعية!

فلم يبقَ خبير في دراسات الجمهور واستطلاعات الرأي في لبنان، إلاّ وأكّد بالأرقام (التي استقصاها) أنّ ما سُمّي بـ”القوى التغييريّة” ستحصل على نتائج مُبهِرة. لكن، فقط، إذا توافقت وتوحّدت حول برنامجٍ انتخابيٍّ واحد. ومشروعٍ سياسيٍّ واحد. وإذا ترشّحت على لوائح واحدة من الجنوب إلى الشمال. ومن البحر إلى الجبل. ومن السهل إلى البقاع. أعلن الخبراء ومستطلعو الآراء على الشاشات وكرّروا الإعلان، أنّ نِسَباً مئويّة وازنة سيحصدها المرشّحون المنبثقون عن ثورة 17 تشرين، في البرلمان المقبل. لكن، فقط، إذا اتّفقوا وتعالوا على تناقضاتهم ومناكفاتهم وخلافاتهم.

الكلّ يخوّن الكلّ. والكلّ يعتقد بالتفوّق على الكلّ. وبأحقّيّته الثوريّة. وبأسبقيّته في استقطاب الناخبين. يا إلهي! انظروا إليهم ينادون الواحد تلو الآخر؛ “أنا أو لا أحد”. “أنا مرشّح الناس المحبوب” وليس غيري. أتذكرون؟ بلى. إنّها معادلة السلطة إيّاها!

لماذا التناقض، يا الله، إذا كانوا يؤمنون بثورةٍ واحدة؟ لماذا الخلاف، وهم يعلمون أنّ جدّيّة الاستحقاق تطرح أمامهم تحدّياً مصيريّاً؟ لماذا الانقسام، وهم واثقون أنّ تشرذمهم لن يخدم إلاّ أولئك الجاثمين على صدورنا؟ أولئك الذين يتلذّذون بعذاباتنا؟ ويحتقرون ثورتنا؟ تلك الثورة التي اعتقد اللبنانيّون أنّها ستنقل البلاد، من حالٍ إلى حال. لكنّهم لم يكونوا يتصوّرون، وفي أبشع كوابيسهم، أن يساهم “أهل الثورة” في سرقتها. وفي دفن آمالنا وإيماننا بها. ها نحن اليوم، وبعد نحو ثلاث سنوات على ذاك اليوم المجيد المزلزل، وكأنّ شيئاً لم يحدث! وكأنّ شلاّلات البشر التي فاضت بها الساحات وجعاً ونقمةً وغضباً، لم تحدث. وبعد؟

سياسيّو لبنان ليسوا وحدهم مَن احتقر ناس الثورة. فمعظم مُدّعي “أبوّة” 17 تشرين احتقروهم، أيضاً. بل أكثر بأشواط. هم خدعوا الشعب (الذي لا يناصر أحزاب السلطة طبعاً)، عندما لم يصارحوه بافتقارهم لآليّات العمل السياسي التي تتناسب مع المرحلة الحاليّة. ولرؤية واضحة عن مرحلة ما بعد “كلّن يعني كلّن”. ويحٌ لهم. لقد حوّلوا أجمل ثورة في العالم، لخدمة أجنداتٍ سياسيّة. قزّموها إلى مجرّد بضعة مطالب ماديّة فئويّة بعيدة كلّ البُعد عن أيّ أطروحةٍ إصلاحيّةٍ تنمويّةٍ تغييريّةٍ شاملة.

وأعني بكلامي، حصراً، أولئك الطارئين على ساحات الثورة. وعلى العمل الثوري. هم يعرفون، إذا ما قرؤوا هذه السطور، أنّهم المقصودون بالكلام. وأنّ الناس المقهورين يصبّون عليهم اللعنات. لأنّ لهفة معظمهم للوصول إلى الكرسي، كانت أقوى بكثير من صدى ذاك الهدير البشري التشريني. ولأن جشع معظمهم لدخول جنّة الحُكم، ضيّع على اللبنانيّين المنفذ الوحيد المتاح، راهناً، لإحداث تغييرٍ ما في المشهديّة النيابيّة. ولأنّ الانحدار الأخلاقي لمعظمهم (في الاتهامات والمزايدات التي يسوقونها لبعضهم البعض)، غطّى على السقوط الأخلاقي المدوّي للسلطة. الكلّ يخوّن الكلّ. والكلّ يعتقد بالتفوّق على الكلّ. وبأحقّيّته الثوريّة. وبأسبقيّته في استقطاب الناخبين. يا إلهي! انظروا إليهم ينادون الواحد تلو الآخر؛ “أنا أو لا أحد”. “أنا مرشّح الناس المحبوب” وليس غيري. أتذكرون؟ بلى. إنّها معادلة السلطة إيّاها! يبدو أنّ تغيير القناعات الشخصيّة يتطلّب معجزة، يا أصدقاء!

كلمة أخيرة. سيحلّ موعد الانتخابات بعد خمسة أسابيع. قد تحصل عمليّات الاقتراع أو تؤجَّل. لكنّ المرجّح، أن يعيد اللبنانيّون انتخاب مَن ذبحهم وأذلّهم وجعلهم رهائن لمحاور السياسات الخارجيّة. فلقد جوّعوهم لكي يلهثوا وراء اللقمة وينسوا كرامتهم وثورتهم، مثلما يلهث كلب الصيد السلوقي وراء الفريسة. أمّا مَن علّقوا عليهم الآمال لإنقاذهم من براثن القَتَلة، فأحبطوهم بعد أن فشلوا في تقديم نموذج أفضل من السلطة التي ثاروا عليها. وعليه، ابتكرت مافيات السلطة توازن رعبٍ استراتيجيّاً بينها وبين الناس. توازن يقوم على أنّ الحدّ الأقصى من اللصوصيّة والبطش والإجرام يواجَه، حصريّاً، بالحدّ الأقصى من التفاهة والهشاشة والأنانيّة. يقول جورج أورويل المُصنَّف كأحد أعظم كتّاب هذا العصر: “إنّ الشعب الذي ينتخب الفاسدين. واللصوص. والخونة. والمحتالين. والدجّالين. لا يمكن اعتباره ضحيّة. بل إنّه، ببساطة، متواطئ”. إقتضى التمييز.

Print Friendly, PDF & Email
وفاء أبو شقرا

أستاذة في كلية الإعلام في الجامعة اللبنانية

Premium WordPress Themes Download
Free Download WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
Premium WordPress Themes Download
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  فلسطين أقوى من الأديان.. والآلهة