في الإنتخابات العراقية السابقة، لم يجرِ الإهتمام بالبعد الأمني كثيراً. على العكس من ذلك تماماً. كان التزوير سمةً مرافقة لأي استحقاق انتخابي، وقيل أنه بلغ مبلغاً قياسياً في انتخابات العام 2018، وكان سبباً من الأسباب الرئيسية لأحداث تشرين الأول/اكتوبر 2019 وما تلاها من سياقات داخلية، بدا معها إيقاع الشارع في حالة إنفصام عن “الشرعية الجديدة”.
يبدو الأمر مختلفاً حالياً. نزاهة الانتخابات أولويّة دوليّة قبل أن تكون مطلباً محلياً ولا سيما للجيل الجديد. أما الطاقم السياسي، فيعتريه خوفٌ دائمٌ تفرضه طبيعة التغيّرات في المزاج الانتخابي، كما التغير في القانون الانتخابي نفسه أيضاً، ومسارات العملية الانتخابية؛ الأمر الذي يجعل هذا الطقم يذهب بعيداً في التعويل على الرموز العشائرية وغيرها، فيبادر إلى ترشيحها لضمان الحصول على الأصوات الكافية للإستمرارية.
ويظهر الأميركيون اهتماماً كبيراً بمسألة “النزاهة” الانتخابية، على قاعدة “منع تكرار تجربة الـ 2018 في العراق”. هم أبلغوا المعنيين بأنّ “النزاهة” شرطٌ أساسيّ وضروريّ من شروط قبولهم بنتيجة الانتخابات، ودون ذلك عدم اعتراف منهم بالنتائج أصلاً!
هذا التوجه الأميركي ـ الدولي، إلى جانب عوامل أخرى داخلية، بما فيها الواقع الذي فرضه الضغط الشعبي وتأزم الاوضاع الداخلية، إقتصادياً وصحياً وإجتماعياً ومالياً، يفسر الكثير من الإجراءات المحيطة بالعملية الانتخابية، إلى درجة دفعت برئيس الوزراء الحالي مصطفى الكاظمي اعتبار مهمة الامن الانتخابي “مهمة تاريخية”، وذلك خلال اجتماعه بأعضاء مفوضية الانتخابات واللجنة الأمنية العليا. واللافت للنظر أن الكاظمي تعهد أمام الحاضرين بأنه سيشرف شخصياً على الإجراءات الخاصة بتأمين الانتخابات ومتابعة جميع التفاصيل المتعلقة بالخطة الأمنية، ذلك أنه من شأن نجاح العملية الانتخابية أن يجيّر لمصلحته مثلما سيرتد الفشل سلباً عليه، كما أن هذه الانتخابات الخامسة في تاريخ العراق الحديث (عراق ما بعد الغزو الأميركي في العام 2003) والأولى بوصفها “انتخابات مبكرة”، إذا حققت النجاح المرجو بمعاييرها كافة، ستُسجَّل بوصفها انتخابات تقطع مع سابقاتها، وتؤسس لما هو مختلف، وإن من باب النزاهة أولاً.
منذ تأليفها قبل سنة ونيف، سعت حكومة الكاظمي إلى إنجاز البطاقة البيومترية، فيما تمّ إتلاف ملايين بطاقات الاقتراع الالكترونية القديمة لصالح الحصول على البطاقات الجديدة التي سيصعب معها حدوث اختراق أو تزوير، خصوصاً وأنها تتميز بوجود البصمات الثلاثية والبيانات النصية وصورة الوجه.
باتت مسألة نزاهة العملية الإنتخابية هي عنوان الفوز بشرعية الداخل العراقي من جهة وشرعية الخارج الذي سيحدد موقفه من الكثير من العناوين في ضوء نتائج الإنتخابات من جهة ثانية
وتتعدى الإجراءات الأمنية مسألة البطاقة الإنتخابية لتشمل فرض حظر التجوال ومنع التجمعات البشرية وعدم السماح بدخول الهواتف النقالة والاسلحة إلى مراكز الاقتراع، بالإضافة إلى إغلاق جميع المنافذ الحدودية البرية والجوية.. في حين أوضحت رئيسة بعثة الأمم المتحدة في العراق جينين ـ هينيس بلاسخارت أن نحو 900 من الخبراء وموظفي الدعم الدوليين والمحليين يسهمون في الجهود الانتخابية (خمسة أضعاف من شاركوا بمراقبة إنتخابات 2018)، مؤكدة أن “مساعدتنا الانتخابية تركز على ما هو ضروري للانتخابات وهو مصداقيتها”.
وفي حين يرى البعض أن المفوضية العليا للانتخابات تتعرض لضغوط خارجية تؤثر في عملها، فإن المتحدثة باسم المفوضية نفت ذلك منوهة إلى وجود “رقابة محلية وأممية ضابطة وضامنة لعدم التدخل والتأثير الخارجي على عمل المفوضية”.
على أن اهتمام بعض الناخبين بمسألة النزاهة يبدو مستجداً، فالمناخ العام عند الناخب العراقي غير المنتسب إلى الأحزاب التقليدية كان مناخاً يائساً وانعكس في الإنتخابات السابقة عزوفاً عن التصويت، لولا ما أحدثه بيان المرجعية الدينية العليا (آية الله السيد علي السيستاني) من فارقٍ في هذا الخصوص، فقد أعطى بعداً جديداً للاستحقاق الراهن. إذ عدا عن كونه جاء داعياً إلى إجراء الانتخابات “في أجواء مطمئنة” وأن “يحافظوا على أصوات الناخبين فإنها أمانة في أعناقهم”، فإنه رسم للمواطنين العراقيين مسارين لا ثالث لهما، إما “المشاركة الواعية والمسؤولة في الانتخابات القادمة” حتى لو كانت “لا تخلو من نواقص”، وبذلك يتم “تفادي خطر الوقوع في الانسداد السياسي”، وإما “بخلاف ذلك فسوف تتكرر إخفاقات المجالس النيابية السابقة والحكومات المنبثقة عنها، ولات حين مندم”.
البيان حشر الناخبين. حشرهم أولاً في أصواتهم، فإما المساهمة في المسيرة التغييرية عبر التصويت للأكفاء، وإما المساهمة في الانسداد السياسي عبر المقاطعة الانتخابية او انتخاب “المجربين”. وحشرهم ثانياً في الواقعية: صحيح أن الانتخابات لا تخلو من نواقص لكن بالدفع نحو نزاهتها قد يتحقق المرجو. والخلاصة أن البيان شجع على المشاركة، شرط أن تجرى في اجواء من النزاهة والأمن. هذا التشجيع إنعكس نوعاً من المسؤولية المقرونة بالأمل بعد اليأس.
وتجدر الإشارة إلى فكرة يجري تداولها مؤخراً على مواقع التواصل الاجتماعي بعنوان “التصويت العقابي”، أي تعقيد المهمة على الكتل التي تتطلع لحصد العدد الاكبر من المقاعد، وهي مطابقة لما حصل في المغرب في أيلول/سبتمبر الماضي، لتتحول بذلك فكرة المقاطعة عند هؤلاء من مقاطعة الانتخابات إلى مقاطعة الفاسدين.
هل الإجراءات الهادفة إلى ضمان عدم حصول تزوير انتخابيّ كافية، أم أن إمكانية التزوير ما زالت متاحة؟
برغم حديث الأمين العام لـ”عصائب اهل الحق” قيس الخزعلي عن وجود إرادة لتزوير الانتخابات البرلمانية، الكترونياً وميدانياً، إلا أن بعض المقربين من المفوضية العليا يستبعدون ذلك. يقول مسؤول عراقي إن الاحزاب التقليدية العراقية نفسها باتت تدرك صعوبة تزوير الإنتخابات، ولهذا لجأت إلى الأساليب الأخرى المشروعة لكسب الأصوات. أما في حال تم الادعاء بحدوث تزوير، فإن أمر الطعن في الانتخابات يأخذ مساره القانوني الذي من المفترض ألا يتجاوز مدة شهر من تاريخ الانتخابات النيابية، على ما يقول الخبير القانوني الدكتور مصدق عادل لـ 180 بوست، بحيث تتدرج دعوى الطعن من مجلس المفوضين إلى الهيئة القضائية للانتخابات ثم تصادق المحكمة الاتحادية الدستورية على النتائج النهائية. وخلال هذه المدة تبقى الحكومة السابقة في عملها كحكومة تصريف أعمال إلى حين البت بالنتيجة، فإما تعاد معها الانتخابات التشريعية أو يتم الاعتراف بالمجلس النيابي الذي انبثق عن العملية الانتخابية.
الجدير ذكره أن وزراء خارجية الولايات المتحدة، أستراليا، كندا، الدنمارك، فنلندا، ألمانيا، إيطاليا، هولندا، نيوزيلندا، النرويج والسويد أصدروا بياناً مشتركاً للمرة الأولى رحبوا فيه باستعدادات المفوضية العُليا المستقلة للانتخابات في العراق لإجراء انتخابات مُبكرة “هي فرصة للناخبين العراقيين لتقرير مستقبلِهم على نحوٍ ديمقراطي”.
وشدد البيان على دعم “جهود الحكومة العراقية الرامية لضمان بيئة انتخابية آمنة وحرة وعادلة وشاملة لجميع العراقيين بمن فيهم النساء والشباب الذين طالما واجهوا العنف والترهيب في سعيهم للإصلاح”. كما ابدى البيان دعمه لجهود الحكومة العراقية لضمان مشاركة الأشخاص النازحين داخلياً بشكل آمن في الانتخابات”.
في الخلاصة، باتت مسألة نزاهة العملية الإنتخابية هي عنوان الفوز بشرعية الداخل العراقي من جهة وشرعية الخارج الذي سيحدد موقفه من الكثير من العناوين في ضوء نتائج الإنتخابات من جهة ثانية.