بإمكان أي مُدقق في تطورات المشهد العراقي وتعقيداته، داخلياً وخارجياً، أن يدرك أن ذلك ليس ذماً بالعمل السياسي، إذ ما من قوة أو حزب أو كتل متنافسة، تشعر بالراحة والإطمئنان لأحوالها وثقة ناخبيها المحتملين بين الـ23 مليون عراقي المخولين الإدلاء بأصواتهم. لذلك، فان هؤلاء السياسيين، منفتحون تماماً على كل أنواع التسويات والتفاهمات، ما يتيح لهم ضمان حصة مُرضية في لعبة تقاسم السلطة والكراسي.
لهذا، يمكن القول إن الأيام التي تلي إغلاق صناديق الإقتراع لن تكون مكشوفة أمام احتمال القدرة على قراءة ما جرى، أو ما يجري فعلياً. حتى النتائج الأولى التي بدأت تظهر لن تتيح ذلك، ذلك أن نسبة المشاركة المنخفضة تشكل صدمة لكل الشارع السياسي العراقي وأيضاً للمرجعية الدينية العليا التي حثت الناخبين هذه المرة على المشاركة الفاعلة “وإنتخاب الأصلح والأنزه والأحرص على سيادة العراق”. هذه الصدمة ستتحول إلى صفعة لكل المراهنين على أن تشكل الإنتخابات بداية تحول ما في مسار عراق ما بعد العام 2003، وحتماً ستفتح الأبواب أمام مراجعات لن تستثني أحداً من المكونات العراقية.
في الوقت نفسه، لا يستبعد العديد من المراقبين أن تنشط دهاليز التفاوض على امتداد أسابيع عدة حول نقطتين أساسيتين: الأولى، صياغة التحالفات البرلمانية المحتملة للتكتلات. والثانية، التفاوض على اسم وصفات ومواصفات رئيس الحكومة المقبل، ليس على قاعدة رؤياه الاقتصادية-المعيشية، والسياسية، وحسب، وإنما ما ستتنزعه الكتل منه من “مكاسب” في الوزارات والإدارات والمشاريع.
مساومات الليل..
وبرغم ذلك، فإن هذا لا يعني أن اليوم التالي لإغلاق صناديق الإقتراع، ليس مهماً. فالنتائج يمكن أن تساعد على إستشراف وتحليل طبيعة “المساومات الليلية” التي ستجري لاحقاً في الكواليس وبعيداً عن الأنظار وكذلك استشراف هوية الأطراف المشاركة فيها، ومآلاتها المحتملة.
ومع بدء احتساب الأصوات، تقدمت “كتلة سائرون” (التيار الصدري) التي كانت قد تصدرت أيضاً في انتخابات 2018، وستُبيّن النتائج النهائية في الساعات المقبلة ثقل هذه الكتلة البرلماني النهائي. وبالتأكيد، فإن زعيم التيار الصدري السيد مقتدى الصدر، وبرغم تقدمه على الآخرين، لن يتمكن وحده من إختيار رئيس الحكومة المقبل، وهو مضطر، كما تقتضيه الوقائع الانتخابية والأحجام، أن يبحث عن حلفاء آخرين في مجلس النواب. وتذهب بعض التحليلات إلى التقدير – في الوقت الراهن – بأنهم سيمثلون الاتئلاف القائم بين السيد عمَّار الحكيم ورئيس الوزراء الأسبق حيدر العبادي.
لكن ذلك لا يعني بالضرورة أن “السائرون الصدريون” منغلقون تماماً على تحالفات أخرى قد تضمن مصالحهم. فليس سراً مثلاً أن مقتدى الصدر لا يتبادل مشاعر الإعجاب مع نوري المالكي. وما زال كثيرون يذكرون جيداً كيف أن الصدر عرقل في العام 2010 مسار المفاوضات السياسية لرفضه منح أصوات نوابه لترشيح المالكي لولاية ثانية، ما استدعى يومها وساطات إقليمية لإقناع الأخير بالعدول عن موقفه. وهذا ما جرى في النهاية.
و”صولد” الصدر!
مقتدى الصدر منفتح على المساومات إذن. وقد يميل إلى إعادة ترشيح مصطفى الكاظمي الذي أبدى إهتماماً لافتاً للإنتباه بقرار الصدر المفاجئ قبل نحو شهرين بمقاطعة الانتخابات والخروج من المشهد السياسي، ثم عدوله عن ذلك. إذ تحرك الكاظمي لحث القوى والشخصيات الوازنة على السعي لإقناع الصدر بالعدول عن موقفه، وهو ما جرى أيضاً.
وقد يجد الصدر فرصة لتأكيد تفوقه السياسي، إذا أخفق “تحالف الفتح” المشكل من فصائل الحشد الشعبي، في ضمان حصة وازنة برلمانياً، ليلقي عندها الصدر ورقة “الصولد” الحاسمة باختيار الكاظمي (مدعوماً من الحكيم-العبادي وربما غيرهما).
وليس سراً أنه برغم “تطبيع” العلاقات بين الكاظمي والحشد الشعبي، إلا أن الأمور ليست بأحسن أحوالها بينهما، وهو ما يتيح مساحة مريحة للصدر ليمارس “اللعبة اللئيمة” إذا شاء ذلك، بالإنحياز مع تحالفاته الممكنة، لتعزيز حظوظ الكاظمي.
وبرغم ذلك، فإن الفكرة بحد ذاتها ليست ميسرة كما قد توحي. إذ أن إنحيازاً قد يبدو مريباً للصدريين والكاظمي وحلفائه، بهدف معلن أو مبطن، لتقويض ما قد يتبقى لـ”تحالف الفتح” (يُمثل هيئة الحشد الشعبي) من نفوذ سياسي-برلماني، سيشكل رسالة بالغة السلبية إزاء إيران وحلفائها العراقيين. وليس محسوماً ما إذا كان مصطفى الكاظمي أو مقتدى الصدر، بوارد الذهاب بعيداً في إظهار “النأي بنفسيهما” عن طهران وحلفائها بهذا القدر، فيما طبيعة “إنهاء المهمة القتالية” للقوات الأميركية في العراق (المقرر موعدها بعد شهرين) لم تتضح معالمها حتى الآن..
تأزم الأمور بين الكاظمي والحشد” يتيح مساحة مريحة للصدر ليمارس “اللعبة اللئيمة” والإنحياز مع تحالفاته لتعزيز حظوظ الكاظمي
إلا أن الحال هو ذاته بالنسبة إلى فصائل الحشد الشعبي، التي قد تجد فرصة لزعزعة دور “بيضة القبَّان” الذي يمارسه مقتدى الصدر، وبالتالي تقليم أظافر الكاظمي، من خلال صفقات الليل، مع حلفاء آخرين برلمانياً، بما في ذلك مع نوري المالكي وربما مع أحد طرفي “الساحة السنية” المتمثلة برئيس البرلمان محمد الحلبوسي وخميس الخنجر، لإحكام مشهد “المؤامرات” المتبادلة، علماً بأن الرجلين، نسجا العديد من خيوط التناغم مع “الحشد الشعبي” خلال السنوات الماضية، من دون أن يعني ذلك أن تحالفاً حقيقياً، قائم بينهم.
ولهذا، فإن الباب، وإن كان مفتوحاً على مصراعيه من أجل تبادل اللكمات.. والطعنات، ما إن أُغلقت صناديق الإقتراع، إلا أن السياسة العراقية، اظهرت تشابها ظرفياً مرات عديدة مع اللعبة اللبنانية، وقد تغلب فكرة “تدوير الزوايا” فنجد “الصدريين” و”الحشديين” فجأة في كفة واحدة، يعيدان ربما من خلالها الكاظمي إلى رئاسة الحكومة، وبرهم صالح إلى رئاسة الجمهورية، ويحكمان وحدهما قبضتهما “ميكيافلياً”، على الدولة وإداراتها، وعلى شريحة كبيرة في الشارع باغتت الجميع باحتجاجات مُحرجة ومُربكة قبل عامين، وصارت تتطلب ممارسة اللعبة السياسية بقدر أكبر من الحكمة والتعقل.