يكفي أن يرفع قائد الكرملين عصاه حتى يعلو صوت موسيقى الحرب ثم يُنزلها فينساب اللحن نزولاً، أما الكلمات فهي من نسج أوهام كاتب واحد هو رئيس أوكرانيا فولوديمير زيلينسكي الذي يُريد حرباً تمنحه لقب “البطل الوطني”!
نعم، زيلينسكي اليوم أشبه ببطل رواية “صحراء الترتار” للمؤلف دينو بوتزاتي، حيث البطل جيوفاني دروجو راح ينتظر عشرات السنوات حرباً قد تجعله بطلاً لكن لم تأتِ الحرب الموعودة لا اليوم ولا غداً ولا بعد سنوات أو عقود.. ولم يصبح دروجو بطلاً!
زيلينسكي سينتظر طويلاً على الأرجح، لكنه لن يصبح “البطل الوطني” الموعود، لأن الحرب ليست وشيكة، كما يتوهم ويتأمل!
يقف خلف مئات آلاف الجنود الروس المتمركزين قرب الحدود الروسية الاوكرانية، تاريخ طويل مجبول بالدم والتضحيات. تاريخ يقول لنا إن الحرب ليست عسكرية وحسب. حرب تصير حروباً اقتصادية اقسى من أي حرب كان يُمكن أن تبدأ أو تنتهي بطلقة نار او قذيفة مدفع!
لقد إعتاد العالم على معادلة رابح وخاسر في أي حرب، غير ان التاريخ لطالما اثبت ان كل مشارك في أية حرب هو خاسر بالضرورة. هناك خاسر على المدى الطويل وهناك خاسر على المدى القصير، حتى أن من يمكن أن يرفع شارة النصر، سيدفع الثمن دماً ودماراً ولا شيء يكون بالمجان.
بعد الحرب العالمية الثانية، احتفلت الدول الحليفة المنتصرة على النازية وتمكنت من إبعاد المانيا بكل ادوات الاقصاء الاقتصادية والسياسية وغيرها.. لكن أين هي المانيا اليوم؟ هي دولة رابحة اقتصاديا وسياسيا وتترأس الإتحاد الاوروبي وتتحكم بقراره كما بالاقتصاد الأوروبي وحتى العالمي.
بالمقابل، اين هو الاتحاد السوفياتي؟ أقله صار “سابقاً” ومشرذما دولاً متوزعة بين الشرق والغرب.
فلاديمير بوتين الذي حكم روسيا ما بعد الانهيار، اذكى من ان يُزيّن الامور بأدبيات القرن السابق، أو أن يقوم بعرض عضلات قد يطيح بامكانية فوزه بولاية جديدة عام 2024 (اذا كان يرغب بذلك).
ولو عدنا إلى الحرب الجورجية ـ الروسية عام 2008، لم تمض أيام قليلة حتى وصل الجيش الروسي الى اوسيتيا الجنوبية وأجبر الجيش الجورجي على الانسحاب شيئاً فشيئاً، ولو ارادت روسيا، حينذاك، الدخول الى تبليسي لكانت قد تمكنت من فعل ذلك خلال ايام، الا أنها إختارت أن تنسحب لا أن تعلق في فخ الرئيس ميخائيل ساكاشفيلي.
هذا الفشل أسقط القناع عن شخص ساكاشفيلي الذي كان يعتبره الغرب “اول نموذج ديموقراطي” في فضاء الاتحاد السوفيتي السابق وما لبثت أن تراجعت الدول عن اعتباره حصان طروادة الذي سيُسقط روسيا ونظام بوتين.
زدْ على ذلك أن وجود مناطق نزاع (اوسيتيا الجنوبية وابخازيا) على الحدود الجورجية ـ الروسية، قلّل من رغبة حلف الناتو بضم هذه الدولة، وقتذاك، إليه.
يسعى الرئيس الاميركي جو بايدن بكل طاقته لايجاد بديل للغاز الروسي لأوروبا. يحور ويدور في طول الكرة الأرضية وعرضها لحبك وتركيب شبكة شبكة أنابيب تؤمن الغاز لاوروبا ما يسمح بالاستغناء عن الغاز الروسي وصولاً إلى جعل موسكو هدفاً مباشراً لثورة ملونة يكون الإنهيار الإقتصادي والنقدي والمالي في صلب مقدماتها
اذا ما سلمنا جدلا باقوال الغرب ان روسيا موجودة في لوغانسك ودونيتسك في أوكرانيا فما الذي يمنعها من الدخول غداً الى كييف عاصمة أوكرانيا؟ وهل سيتدخل الغرب عسكرياً لدعم زيلينسكي الذي قد يكون ساكاشفيلي الجديد؟
لنعد إلى دروس الماضي. احتفالات التاسع من أيار/مايو في روسيا، يوم النصر على النازية، لا تستهدف ذاكرة من عاشها، بل اطفال روسيا وشبابها وأجيالها المقبلة.
روسيا لا تزال تعيش أسيرة تاريخها الستاليني. تكشف وتغطي وتكسو وترمم. روسيا لا تزال تعيش أمجاد وإخفاقات ماضيها، وأقربها الدرس الافغاني، الذي تعلمه الاتحاد السوفياتي، ولم يكن فلاديمير بوتين بعيداً عنه.. ومهما عظم جيشك، لن ينجح في اجتياح بلد لا يرحب به.. والشعب الاوكراني منقسم اليوم مناصفة تجاه روسيا.. لذلك، يصبح الوصول الى كييف مغامرة ليس معروفاً بعدها إذا كانت ضمانة النجاح أو الفشل تنتظر روسيا هناك.
بعد ذلك، هل يصح سؤال هل ستندلع الحرب؟
الحرب مندلعة عملياً بين الغرب وروسيا، منذ دخول روسيا الى الميدان السوري في خريف العام 2015 وقبلها منذ حرب جورجيا. لذلك، يصح القول إن زيلينسكي يرمي الهوية الاوكرانية محاولاً ارتداء هوية اوروبية أو أطلسية ليست على مقاسه، نظرا لأوضاع بلاده الاقتصادية، لكن حتى الآن، فإن انضمام اوكرانيا الى الاتحاد الاوروبي ليس بالامر المطروح لانها لا تفي بمواصفات الدولة الاوروبية “المثالية”، كما أن انضمام اوكرانيا الى الناتو ليس بالامر الممكن لاعتبارها بلدا يصنف بمعظمه في خانة “منطقة نزاع”، كما كان الحال مع جورجيا قبل 14 سنة.
ليست أوكرانيا بذاتها سبباً لشن حرب عالمية. عين الغرب مفتوحة اليوم على اوكرانيا بوصفها فقط وسيلة لعزل روسيا اقتصاديا عن العالم الخارجي وإضعافها.. كما تم تهميش ايران من قبل، وكما تريد أميركا أن تؤدب أي دولة لا تقبل بالإنضواء في مندرجات نظام دولي صاغته قبل ثلاثة عقود ونحن نشهد في هذه المرحلة أيامه أفوله الأخيرة.
العين الأميركية مفتوحة تحديداً على الغاز الروسي. يسعى الرئيس الاميركي جو بايدن بكل طاقته لايجاد بديل للغاز الروسي لأوروبا. يحور ويدور في طول الكرة الأرضية وعرضها لحبك وتركيب شبكة شبكة أنابيب تؤمن الغاز لاوروبا ما يسمح بالاستغناء عن الغاز الروسي وصولاً إلى جعل موسكو هدفاً مباشراً لثورة ملونة يكون الإنهيار الإقتصادي والنقدي والمالي في صلب مقدماتها.
هنا نقطة الضعف، ذلك ان روسيا لم تطور اقتصادها الداخلي المعتمد بغالبيته على قطاعي النفط والغاز.
لا شك ان روسيا شهدت تضخماً تخطى توقعات البنك المركزي، ولا شك ان روسيا تجد بعض الصعوبات على مستوى الاقتصاد الداخلي والخدمات الاجتماعية، ما يعد امراً مربكاً قبيل الانتخابات الرئاسية المقبلة، واي ضربة من الخارج قد تتمكن من اضعاف، وليس هدم هرم الداخل، الا ان كل الاحتمالات واردة في اطار المعطيات الراهنة.
خلاصة هذا العرض أن روسيا ليست بحاجة لحرب، بل بحاجة لقول الكلمة الاخيرة.
كما الاب الذي يرفض باللاوعي ابتعاد الابن الاكبر، ويريد ان يفهمه بين الحين والآخر ان رب المنزل ما زال على قيد الحياة.
هي حرب اعصاب قد تتمكن من كشف حقيقة زيلينسكي، الذي يبدو حتى اللحظة مكتوف الأيدي أمام الغرب وليس لديه ما يعطيه بل يطلب الكثير وربما المستحيل.
هي حرب اعصاب قد تتمكن على المدى الطويل من حشد شعبية اكبر لمرشح روسيا للانتخابات الاوكرانية المقبلة.
ولكن ربما تبدأ هذه الحرب غدا.. وحده بوتين من سيعلن هذا اليوم او لا يعلن.