أبحثُ عن سعيد عقل.. إحياءً للبنان 

يأخذ الكثير من اللبنانيين (وأنا منهم) على الشاعر سعيد عقل، انزياحه في الفترة الأخيرة من عمره المديد، نحو سلوك سياسي متعارض مع بداياته ومنتصف حياته، وهو الأمر عينه الذي عصف بالمفكر والوزير شارل مالك، فالمقدمات السياسية والفكرية لأبرز وجوه لبنان والعالم العربي، تناقضت مع خاتمة كل منهما، إلا أن ذلك لا يلغي القيمة الإبداعية للرجلين، وتلك القيمة يحتاجها اللبنانيون في لحظة خرابهم الراهنة لإعادة تأسيس لبنان بعيداً عن متاهة النهايات وشرودها.

دائماً، كان يُطعن بسعيد عقل من زاوية فينيقيته ومن جوانب اعتزازه بمدن صور وصيدا وبيروت وجبيل وطرابلس وبعلبك وقرطاجة، بإعتبارها رائدة الحضارات القديمة ومؤسسة للعقل البشري حتى يومنا هذا، وغالباً ما كان يُردّد سعيد عقل أسماء قدموس وفورفوريوس وموخوس وحيرام وأرز لبنان، وعلى ما قال لي مرة الشيخ عبدالله العلايلي “لو فهم الآخرون سعيد عقل لكانوا أفلحوا، ولو تفهم سعيد عقل الآخرين ما كان جم”.

ماذا كان يريد سعيد عقل؟

في مقدمة كتاب “هوية فرنسا” للمؤرخ فرناند برودل Fernand Braudel يقول احد أبرز فلاسفة القرن العشرين جان بول سارتر: “الأمة، أية أمة، لا يمكن أن يتكون لها كينونة إلا عبر البحث المتواصل عن ذاتها، والأمة تتعرف على نفسها في صور مختزنة وفي المعتقدات والمحكيات، وفي وعي باطني لا حدود له، وفي التدفق المشترك لكثير من التيارات الغامضة وفي ايديولوجية مشتركة وأساطير مشتركة وتخيلات مشتركة”.

هذا ما كان يسعى سعيد عقل إليه وما كان يبثه في الوجدان اللبناني، والمقصود عالم الرموز وعالم الخيال المشترك، وهما عالمان أساسيان وضروريان لدى كل الشعوب وإلا ما قامت أمة ولا هوية، ولا تميزت واحدة عن اخرى، ولكن الفارق بين رموز سعيد عقل ورموز غيره من الأمم والشعوب، أن الرموز الفينيقية حقيقة تاريخية يقرها ويعترف بها كل مؤرخي العالم بلا استثناء، بينما رموز الأمم الأخرى تخيلات وخيالات صاغها العقل الطفولي البشري، ومن أمثلة ذلك:

في الميثولوجية الصينية القائمة على الخرافة، ان السماء فوضت لأباطرة الصين مُلك الأرض ولذلك سمّى الصينيون كل إمبراطور حكمهم بـ”إبن السماء”، واعتقدوا وما زالوا بأن الصين مركز الكون، وكلمة “شينغ كيو” ـ الإسم الصيني للصين ـ تعني “مملكة الوسط”، وأن إلهاً كان له أربع أعين هو الذي اخترع الزراعة، وفي روسيا تتحدث الأسطورة عن بداية الحياة في جبال أورال، وفي اليابان يأخذ كتاب “كوجيكي” المقدس صدارة عُليا في الثقافة والسلوك اليابانيين حتى الآن، ويتكرس مضمون الكتاب حول الأصل السمائي للجزر اليابانية وحيث الإمبراطور من سلالة الآلهة، وأما أثينا في بلاد اليونان فقد بنتها الإلهة أثينا، فيما روما عاصمة إيطاليا ومركز الإمبراطورية الرومانية أسّسها رومولوس وريموس، التوأمان اللذان أرضعتهما ذئبة في غابة.

أين سعيد عقل من تلك الخرافات والأساطير؟

كان عقل يُردّد ويقول بأن الفينيقيين ابتكروا حروف الأبجدية، ومن فينيقيا أخذ اليونانيون الأبجدية الفينيقية ونشروها في العالم، وحقيقة الأمر أن هذه المقولة ليست من “اختراعات” سعيد عقل وليست من “هلوساته” كما كان يحلو القول لبعض العدميين والمتطرفين من القوميين العرب والإسلاميين، ذلك أن مجمل نخبة المؤرخين والفلاسفة تُقر بأن الحروف الأبجدية هي ابتكار فينيقي خالص ولا ينازعهم منازع في ذلك.

لنعد إلى أول المؤلفات التاريخية المكتوبة، أي إلى هيرودوتس الإغريقي (القرن الخامس قبل الميلاد) المعترف به بأنه أبو التاريخ العالمي (مع أن سنخونياتن البيروتي سبقه بقرون)، ففي تاريخه يقول “أدخل الفينيقيون برفقة قدموس إلى بلاد الإغريق عدداً من الفنون أهمها الكتابة، وفي تلك الفترة كان معظم الإغريق الذين يسكنون في مناطق أيونيا، قد درسوا هذه الحروف على يد الفينيقيين وظلوا يشيرون إليها على أنها الأبجدية الفينيقية، وقد أصاب هؤلاء القوم بهذه التسمية، ذلك ان الفينيقيين هم من أدخل هذه الأبجدية”.

من يرد على هيرودوتس؟

ذاك تحد مطروح منذ 2500 سنة، وهو تحد مستمر بين أهل العلم وأهل العدم، وإذ لا مجال لمناقشة العدميين، فالأولى الذهاب إلى ما يقوله أهل العلم والعقل، وفي هذا الجانب يقول الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو (1712ـ 1778) في كتابه “محاولة في أصل اللغات” إنه لمن اليسير علينا، عندما نقارن بين الأبجديات القبطية والسريانية والفينيقية، أن نجزم بأن إحداها متأتية من الأخرى، “وقد لا يكون من الغريب أن تكون الأبجدية الفينيقية هي الأصل، وواضح أن الأبجدية اليونانية متأتية من الأبجدية الفينيقية، سواء أكان قدموس هو الذي جاء بها من فينيقيا أوغيره”، ويذهب المؤرخ المعروف فلافيوس يوسيفوس في تاريخه (37م ـ 100)، إلى القول إن الإغريق آخر من تعلم الكتابة، وعلّمهم إياها قدموس الفينيقي، والأمر عينه يراه القديس كيرلس الإسكندري (380م ـ 444) في كتابه “الرد على يوليانوس”، حيث يقول “لم يكن اليونانيون قد عرفوا الكتابة، وقدموس نقل إليهم من فينيقيا الألفباء”، وبحسب شيخ مؤرخي القرن العشرين وول ديورانت في موسوعته الضخمة “قصة الحضارة” أن الفينيقيين “وهم من الآراميين، أدخلوا الأبجدية إلى كل مدن البحر المتوسط”.

يصعب تعداد أهل العلم الذين تحدثوا عن أسبقية أبجدية الفينيقيين، وللدلالة ليس إلا، يُشار (لمن يرغب) إلى ارنولد توينبي في “تاريخ البشرية” والفكر التاريخي عند الإغريق”، وإلى “تاريخ الحضارات العام” الذي أشرف عليه موريس كروزيه مفتش المعارف العام في فرنسا، وإلى مقدمة في “تاريخ الحضارات” للعلامة العراقي طه باقر، والمؤرخ السوري المعاصر احمد داوود في “تاريخ سوريا الحضاري”، وإلى آخر كتاب صادر (2019) في هذا المجال “اللغة الفينيقية/ دراسة مقارنة مع اللغات الشرقية القديمة” للمؤرخ الدمشقي إياد يونس، وقبل إقفال باب الأبجدية من المهم الإلتفات إلى الدراسة القيمة المنشورة في مجلة “المعرفة” السورية (1 ـ 1 ـ2007) بعنوان “قدموس وأصل الأبجدية اليونانية” وفيها “ثمة من يشكك بشكل جدي، إلا أننا نلاحظ وجود دوافع معادية للسامية تدفع مجموعات عرقية لتأكيد أن مبدعي الأبجدية كانوا آريين، وآخرون لا يرغبون بالإعتراف أن اليونانيين تعلموا الحروف من البرابرة الفينيقيين”.

لو يتمعن “أولي الألباب” في ما انتهت إليه خاتمة الدراسة المذكورة آنفاً، وبعد التمعن لا بأس في الحديث عن مجد فينيقيا والفينيقيين كما كان يدأب سعيد عقل، ومرة أخرى، لا بد من التكرار أن ذاك المجد لم يخترعه سعيد عقل وإنما حفظه مما قرأه وتوغل في قراءته، وهذه نماذج شتى:

في الجزء الأول من كتابه “تاريخ المغرب الكبير”، يقول أستاذ الأدب والتاريخ، الجزائري محمد علي دبوز “الفينيقيون فخر البشرية وحاملو نبراس الحضارة إلى الأمم الأوروبية ومنقذو أوروبا من ظلمات الهمجية”، وفي “قوافل العروبة” للقومي العربي، اللبناني محمد جميل بيهم “إن الفينيقيين تحول نبوغهم إلى اكتساح العالم بحراً في الناحية الإقتصادية واتجهت مفاخرهم إلى التقدم في ميدان الحضارة”، وأما يوسيفوس الذي مرّ ذكره فيرى “أن المصريين غدوا معروفين في العالم عن طريق الفينيقيين، وكان هذا أمر كل الشعوب التي اعتاد الفينيقيون أن يروجوا بضائعها”، ولا يبتعد الباحث المرموق في اللسانيات نيقولاس أوستلر في “إمبراطويات الكلمة” عما سبق قوله “فالمدن الفينيقية نشرت بحضورها الواسع إحساساً بماهية المجتمع المثقف، وكان الفينيقيون ناشرين لثقافة وادي الرافدين على نطاق عالمي، ونشروا معرفة النظام الأبجدي، ويحق لهم الإدعاء بأنهم قدموا لأوروبا تعليمها الأساسي”، وبرأي المؤرخ التونسي محمد الهادي الشريف “أن الفينيقيين جعلوا البلاد التونسية وبقية شمال أفريقيا تدخلان ميدان التاريخ”، وفق ما جاء في كتابه “تاريخ تونس”.

لا شك أن شرود عقل السياسي هو خروج عن “العقلانية”، ولكن سعيد عقل المنفتح على محيطه العربي هو ذروة العقلانية، كما أن فينيقية عقل بما تحمله من تاريخ ورموز وعنفوان من أجل إعادة بناء الرابطة الوطنية وإخراج لبنان من حالة الإحتضار الراهنة مطلوبة أكثر من أي وقت مضى، ذلك أن إحياء عالم الرموز هو سبيل أول لإحياء الوطن

قبل ولادة سعيد عقل (1912) بعام واحد، نشرت مجلة “العرفان” سلسلة أبحاث لمؤسسها الشيخ أحمد عارف الزين بعنوان “تاريخ صيدا”، وأعيد طباعة السلسلة بكتاب واحد وبالعنوان نفسه حيث ورد التالي “لا شك بأن الفينيقيين ضربوا المدنية بسهم وافر، وبلغوا مكانا قصرت عن مباراته أغلب الأمم، ولا يُنكر أن فضل الفينيقيين على أوروبا أشهر من نار على علم، وهم الذين أدخلوا معارف المصريين والبابليين والأشوريين وأوروبا، وعلموهم الصناعة والتجارة والملاحة وأبلغوا تمدن الشرق إلى الغرب”.

إقرأ على موقع 180  عندما يريد النظام إسقاط الشعب!

وكتبت مجلة “المقتبس” التي أسّسها العلامة محمد كرد علي في عددها الصادر في الأول من حزيران/يونيو 1911 أن صور وصيدا “كانتا مدينتي صناعة وتجارة، يحمل أبناؤهما مصنوعاتهم ومصنوعات غيرهم إلى الجهات القاصية، وهم وحدهم كانوا ينقلون البضائع في البحر المتوسط مدة قرون طويلة”.

هل هذا كل شيء؟ لا طبعاً.

ماذا عن ثقافة المدن الفينيفية؟

ـ مدينة صور: غالباً ما كان يردد سعيد عقل إسم فورفوريوس إبن مدينة صور، وهذا الفيلسوف الذي توفي في بداية القرن الميلادي الرابع، كان له الفضل في إبقاء فلسفة أفلوطين الإسكندري حية، من خلال كتابه “تاسوعات افلوطين”، تعتبر إحدى اهم ركائز الفلسفتين المسيحية والإسلامية، من القديس اغسطينوس إلى الفيلسوف اللاهوتي توما الأكويني، ومن إبن عربي إلى السهروردي المقتول إلى الملا صدرا.

ـ مدينة صيدا: بحسب الجزء الأول من كتاب “نشوء الأمم” للمفكر الفذ انطون سعادة مؤسس الحزب السوري القومي الإجتماعي “الصيدونيون أول من اكتشف النجم القطبي وأول من أبحر ليلاً”، فيما موخوس الصيدوني (1350ق.م) كان أول من عمل في الذرة، ومن أواخر ما نُشر في هذا الشأن دراسة في مجلة “بقية الله” بتاريخ 19 ـ 2 ـ 2015.

ـ مدينة بيروت: اتفق المؤرخون على توصيفها بـ”أم الشرائع”، وللإستزادة في هذا المجال يُراجع “بيروت من سيدة التاريخ إلى شهيدة الطوائف” على موقع 180post.

ـ مدينة جبيل: من إسمها (بيبلوس) تم اتخاذ إسم الكتاب biblo ـ bible كما يقول جان مازيل “في تاريخ الحضارة الفينيقية الكنعانية” وما يؤكده العلامة وول ديورانت في “قصة الحضارة”.

ـ مدينة طرابلس: هي أولى المدن التي أنشأت اتحادا وكتبت دستورا كما يقول المؤرخان الإغريقيان، ديودروس واسترابون، والقلقشندي في الجزء الرابع من “صبح الأعشى” وياقوت الحموي في “معجم البلدان”.

ـ مدينة بعلبك: ليس ما يماثلها في عظمة تاريخها إلا قلة من المدن العظيمة كما يجمع المؤرخون، والعودة إلى “لبنان المقدس في الروايات الإسلامية” المنشور على موقع 180post، يلقي إضاءات كثيفة على تاريخ هذه المدينة العظيمة.

ـ مدينة قرطاجة: تكفي الإشارة إلى عظمتها من خلال قول الفيلسوف مونتسكيو في كتابه “تأملات في تاريخ الرومان” حيث يقول “في ذلك التاريخ كانت الدنيا وكأنها موزعة على عالمين منفصلين، الأول تتنافس على سيادته روما وقرطاجة، والثاني تمزقه خصومات لا نهاية لها”، والمهم في الأمر أن قرطاجة كانت ندا لروما وتنافسها على سيادة العالم.

أين أخطأ سعيد عقل أو تطرف، طالما أن كل من سبقه أو جاء بعده، يضع الحضارة الفينيقية فوق قمة التاريخ الحضاري والمدني والثقافي والعلمي؟

أخطأ سعيد عقل في تطوافه واعوجاجه السياسي وفي خاتمة مساره، لكن سعيد عقل هو الذي نظم إحدى غرر القصائد بمكة المكرمة وفيها يقول:

غنيت مكة أهلهـا الصيـدا / والعيد يملأ أضلعي عيـدا

يا قارئ القرآن صلـي لـه / أهلي هناك وطيـب البيـدا.

وسعيد عقل نفسه نظم وغنت له فيروز أروع ما كُتب عن سوريا ودمشق، وفي إحداها قال:

قرأت مجدك في قلبي وفي الكتب / شآم؟ ما المجد؟ أنت المجد لم يغبِ.

وللعاصمة الأردنية غنت فيروز من كلماته:

عـمّان في القلب أنت الجمر والجاه / ببالي عودي مري مثلما الآه.

وكتب للحزب السوري القومي الإجتماعي قصيدة، هذا بعض منها:

سوريا – يقظةٌ ملء المدى / بسمة ملء الربيع / سوريا فوق الجميع.

وللقوميين العرب كتب هذا النشيد:

ولنا القولُ الأبي / والسماحُ اليعربي / ولنا هزّ الرماح في الغضوب المشمس/ ولنا صهلة الخيل من الهند الى الأندلس.

إلا أن أكثر قصائده شهرة “أجراس العودة” التي غنتها فيروز، ومن أبرز أبياتها: الآن الآن وليس غداً / أجراس العودة فلتقرع.

كيف يمكن التعامل مع سعيد عقل؟

لا شك أن شرود عقل السياسي هو خروج عن “العقلانية”، ولكن سعيد عقل المنفتح على محيطه العربي هو ذروة العقلانية، كما أن فينيقيا عقل بما تحمله من تاريخ ورموز وعنفوان من أجل إعادة بناء الرابطة الوطنية وإخراج لبنان من حالة الإحتضار الراهنة مطلوبة أكثر من أي وقت مضى، ذلك أن إحياء عالم الرموز هو سبيل أول لإحياء الوطن، أي وطن.

أخيراً عن قرطاجة:

كتب باتريك جيرار في “ملحمة قرطاجة”:

“بعدما حرق الرومان مدينة قرطاجة وترمدت، نثروا الملح على ترابها حتى لا تنبض الحياة فيها مرة أخرى، كتب حسيدروبال وريث هنيبعل: من يعلم؟ قرطاجة ستولد من جديد، ولن يكون هذا إلا تحقيقاً للعدالة، لا يمكن أن يختفي إسم مدينتنا من ذاكرة البشر”.

هل يريدون إعادة بناء لبنان؟

البداية من هناك، من أول المعنى، من فينيقيا.

Print Friendly, PDF & Email
Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  المفاوضات البحرية: إسرائيل مُحرجة، من يُريد جعل لبنان ضحيةً؟