منذ أن رأت وثيقة الوفاق الوطني النور عام 1989 واللامركزية عنوان جاذب وحلم يتطلّع الكثير من اللبنانيين إلى تحقيقه. فرضت اللامركزية الإدارية نفسها إصلاحاً رئيسياً في وثيقة الوفاق الوطني تحت البند الثالث “الإصلاحات الأخرى”، وهي نوع من التنظيم الإداري للدولة الموحدة يقوم على نقل صلاحيات إدارية من الدولة المركزية إلى وحدات محلية منتخبة مباشرةً من الشعب. وفي وقتٍ كان يُنظر إلى اللامركزية الإدارية كمطلب لأطراف سياسية معيّنة، أضحت اللامركزية بعد إتفاق الطائف عنواناً وحاجةً وطنية من شأنها تعزيز المشاركة والتنمية المحلية والإنماء المتوازن للمناطق اجتماعياً واقتصادياً، ويعتبرها الدستور “ركناً أساسياً من أركان وحدة الدولة واستقرار النظام”.
وإذا كانت السلطة الـمركزية تـمنح الوحدات المحلية المنتخبة صلاحيات واسعة، إلا أنها تُبقيها ضمن الدولة الواحدة بعيداً عن أي منحى تقسيمي. فلا يجوز أن تصطبغ هذه الوحدات بأي لون طائفي ولا أن تعكس الواقع الطوائفي، وإلا انتفى مفهوم اللامركزية الإدارية التنموية لصالح المنحى التقسيمي الفدرالي على غرار ما قد يحصل في الولايات المتحدة الأميركية التي قد يتهدّدها خطر التفكك في حال تقسيم ولاياتها بحسب الأصول العرقية المتنوعة.
لا لامركزية قوية في ظلّ غياب دولة قوية وجيش قوي وسياسة خارجية قوية ومالية قوية
تتمتّع الوحدات المحلية المنتخبة مباشرةً من الشعب باستقلالين: استقلال إداري بصلاحيات واسعة وصلاحيات مالية متوازنة. لا شكّ في أنّ اللامركزية الإدارية تُشكّل معبراً نحو تحقيق التنمية وتطوير الحياة الاقتصادية في المحافظات والأقضية وتترك أثراً إيجابياً في مختلف الوحدات من تطوير السياحة والصناعة والزراعة وغيرها. إنّ الإدارات اللامركزية، إذا ما توافرت لـها الإمكانيات البشرية والـمالية ومُنحت الصلاحيات الضرورية، فبوسعها أن تضطلع بدور مُساعد وداعم للسلطة الـمركزية على مستوى التنمية الـمحلية التي هي عنصر أساسي من عناصر الإنـماء الـمتوازن.
ولا يقتصر دور السلطات اللامركزية على تقديـم الـخدمات الضرورية على الصعيد الـمحلي، وتنظيم وإدارة الشأن العام في إطار عملها الـجغرافي فحسب، إنـما يتوسع دورها ليشمل إنشاء واستثمار بعض الـمرافق الاقتصادية التي تغذي موازنتها السنوية بالـمال، وتـمكنّها بالتالي من رفع الأعباء الـمُلقاة على عاتقها، فتلعب دوراً ريادياً في عملية التنمية الـمحلية وبالتالي في مـجال الإنـماء الـمتوازن (إمكانية إقامة مشاريع ذات طابع إقتصادي؛ إنتاج الطاقة؛ إنشاء الطرقات وصيانتها؛ تأمين المياه والكهرباء؛ وتحقيق الشراكة بين القطاعين العام والخاص لتنفيذها).
في موازاة اللامركزية الإدارية، وإلى جانب أهميتها كوسيلة لممارسة الديموقراطية على المستوى المحلّي بحيث يتمتّع المواطن بدور فاعل في انتخاب الإدارة المحلية، فإنّها ترتدي أهميةً إذ تساهم في تحقيق العدالة والمساواة بحيث تقلّص الفجوات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية بين المناطق، وتكسر الجدران التي تفصل المناطق الميسورة عن المناطق المعوزة مما يؤدّي إلى تحقيق الإنماء المتوازن، وتخفّف من النزوح إلى العاصمة.
ولا يمكن تصوّر لامركزية مالية إلاّ إذا اقترنت بعائدات مركزية مالية متوازنة وعادلة تؤمّن الإنماء المتوازن بين كل المناطق وليس العكس، شرط أن يبقى استقلال السلطات المحلية اللامركزية المالية استقلالاً نسبياً ومحدوداً وأن تخضع لسلّم القوانين والنظم الوطنية التي تعلوها وتشكل إطاراً حاضناً لها. وهكذا تحتفظ السلطة المركزية بحقّ الرقابة على قرارات السلطات المحلية اللامركزية التي يُحدّدها القانون ضماناً لانسجام المصلحتين الوطنية والمحلية.
ليس صحيحاً على الإطلاق أنّ مشروع اللامركزية الإدارية يرمي إلى إفراغ الدولة من مضمونها. ومن شروط نجاح اللامركزيّة الإدارية وجود دولة مركزيّة قويّة تدعم اللامركزيّة وتقوم بوظائفها الأساسية. إنّ سلوك مفهوم اللامركزية سبيله إلى التطبيق يتطلّب حضوراً أكبر للدولة ودوراً قوياً تضطلع به. فلا لامركزية قوية في ظلّ غياب دولة قوية وجيش قوي وسياسة خارجية قوية ومالية قوية.
تكلّلت تجرية اللامركزية بالنجاح في الكثير من البلدان المتقدمة التي سلكت طريقاً طويلاً لتحقيق حلم اللامركزية الذي لم يتحوّل إلى واقع بين ليلة وضحاها بل كان وليدة التحوّلات والتغييرات الجذرية التي شهدتها وثمرة إصلاحات جوهرية حقّقتها هذه الدول حتى أرست النظام اللامركزي. ففي فرنسا، لم ترَ سياسة اللامركزية النور حتى العام 1982 مع إقرار قوانين غاستون ديفير (Gaston Dever) التي تفوّض صلاحيات كبيرة للهيئات المحلية والإقليمية ومع إقرار الإصلاح الدستوري عام 2003 بشأن التنظيم اللامركزي للدولة الفرنسية. وفي ألمانيا، تطورت اللامركزية من خلال تحقيق سلّة من الإصلاحات، منها الإصلاح الإقليمي الذي تم تنفيذه من 1965 إلى 1977 وقد ساهم في تقليص عدد البلديات من 25000 إلى 8500. واليوم، تعترف استراتيجية الاستدامة الجديدة للحكومة الألمانية المحلية صراحةً بالبلديات باعتبارها “جهات فاعلة رئيسية وساحات للتنمية المستدامة” انسجاماً مع جدول أعمال 2030 للتنمية المستدامة.
تشكّل اللامركزية الإدارية جرعة أكسجين ومساحة حرية للمناطق لتيسير شؤونها الحياتية في ظلّ فشل المنطومة الحالية، في بلد يخوض اليوم امتحاناً صعباً ويئنّ تحت وطأة تحديات جسيمة
بدورها، تُعتبر المملكة المتحدة، وإنكلترا بصورة خاصة، من بين الدول الكبرى الأكثر مركزيةً على المستوى الدولي وقد حقّقت المملكة المتحدة مستوى مستقرّاً نسبياً من اللامركزية بين عامي 1950 و1986، ومن ثم عادت وخضعت لمزيد من المركزية حتى أواخر التسعينيات من القرن الماضي، واستقرّت عند مستوى أعلى نسبياً. ومن سمات اللامركزية في بريطانيا تعديل قانون الحكم المحلي 2016 الصادر عن البرلمان البريطاني ويهدف إلى تفويض الصلاحيات من الحكومة البريطانية إلى بعض المدن في انكلترا والمقاطعات للسماح بتعزيز سلطة رؤساء البلديات المنتخبين مباشرةً داخل السلطات المحلية في انكلترا وويلز بحيث تؤول اختصاصات الإسكان والنقل والتخطيط والشرطة لهم.
على الرغم من أنّ لبنان يعقد آمالاً كبيرة على تحقيق اللامركزية، فإنّ اللامركزية ليست مفتاح الحلّ ولا العصا السحرية لحلّ أزمات لبنان الشائكة والمتعددة الأوجه كترابط الداخل اللبناني بالخارج، وأطماع العدو الإسرائيلي، وغياب دولة مدنية حديثة وعصرية، وتفشي الطائفية، وسيطرة زعماء الطوائف وأحزابهم على مقدّرات الدولة، إلا أنها بلا شكّ تشكّل جرعة أوكسيجين ومساحة حرية للمناطق لتيسير شؤونها الحياتية في ظلّ فشل المنطومة الحالية، في بلد يخوض اليوم امتحاناً صعباً ويئنّ تحت وطأة تحديات جسيمة. فهل تتحقّق اللامركزية بالرغم من المطبّات والعثرات أم تبقى حبراً على ورق من أوراق اتفاق الطائف؟