محسن إبراهيم.. الفرادة اليسارية والفلسطينية واللبنانية

إلى تراب أنصار البلدة الجنوبية اللبنانية الوادعة، وعلى مسافة كيلومترات قليلة من فلسطين، عاد محسن إبراهيم. رحلة بدأت فيها وإنتهت هناك.  

نشأ محسن إبراهيم (“أبو خالد”) في أحضان حركة القوميين العرب التي تأسست في مطلع خمسينيات القرن الماضي. في سن السادسة عشرة، كان أحد مؤسسي تنظيم الشباب القومي العربي (1951) مع جورج حبش ووديع حداد وآخرين، متأثرين بالمناخ الذي إستولدته نكبة فلسطين في العام 1948. لاحقاً صار أحد أبرز كوادر ومؤسسي حركة القوميين العرب (بعد مؤتمرها الأول عام 1956). نجح خلال فترة وجيزة في أن يبني صلة مع زعيم ثورة 23 تموز/يوليو 1952 جمال عبد الناصر. يقول الكاتب اللبناني سمير عطالله “كان عبد الناصر في ذروة شعبيته، لا يخفي أمام أحد إعجابه بشاب لبناني يدعى محسن ابرهيم، يوم كانت زعامات لبنان في القاهرة تنتظر موعداً في منشية البكري، واعتقد ان محسن ابرهيم، ضرب سحره جميع من عرف من الزعماء. خال من الكاريزمات التقليدية وآسر الخطاب، تحيط به هالة من الذكاء البرّاق ولمحات الظرف النادر، وبحر من الثقافات، التي يرثها شيعة الجنوب مع الحرمان واغراء التمرد”.

برغم الفارق العمري بينهما، كان عبد الناصر معجباً بمحسن إبراهيم، ولم تقترب شخصية ناصرية لبنانية من عبد الناصر أكثر من “أبو خالد”، حتى أنه إكتفى فقط بدعوة محسن إبراهيم إلى حفل زفاف أحد أولاده. كثيرون كانوا يحتاجون إلى مواعيد وبرتوكولات للوصول إلى عبد الناصر.. إلا “ابو خالد”.

إندمج محسن إبراهيم بالثورة الناصرية الصاعدة، لا سيما بعد تأميم قناة السويس وشن العدوان الثلاثي، وهو مسار إعتبره جزءاً لا يتجزأ من حركية الدفاع عن فلسطين. انفرط عقد حركة القوميين العرب بعد هزيمة العام 1967..

وأغرب ما في علاقة “أبو خالد” بمصر وفلسطين، أنه هو الذي نظّم لقاء “الختيار” (ياسر عرفات) الأول مع جمال عبد الناصر. هكذا، ظلّ محسن إبراهيم حتى آخر لحظة من حياته فلسطينياً، مثلما لم تنقطع علاقته بعرفات حتى يوم رحيل الأخير مسموماً في رام الله في العام 2003.

هذه العلاقة الإبراهيمية بفلسطين، ومثلها علاقة الحزب الشيوعي اللبناني بالقضية الفلسطينية، بعد المؤتمر الثاني الشهير في العام 1968، تركت أثرها العميق عند الشيوعيين عموماً ومحازبي منظمة العمل الشيوعي خصوصاً. ذلك ان الشيوعيين، حزباً ومنظمة، استمسكوا بما اسموه على الدوام “التلاحم اللبناني ـ الفلسطيني”، فإتهمت المنظمة بالتبعية العمياء لمنظمة التحرير الفلسطينية وبمناصبة النظام السوري العداء دفاعاً عما أسمته “استقلالية القرار الوطني اللبناني والفلسطيني”، فيما إختار الحزب الشيوعي اللبناني، أن يذيّل نعي كل شهداء “حرب السنتين” بالعبارة الشهيرة: “سقط دفاعاً عن لبنان وعروبته وتطوره الديموقراطي ودفاعاً عن الثورة الفلسطينية”.

مع خروج منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان في صيف العام 1982، بكّر جورج حاوي ومحسن إبراهيم في ملاقاة ياسر عرفات في المجلس الوطني الفلسطيني في الجزائر. يومها خاطبه حاوي قائلاً: “قائدي ومعلمي”، (وبكى)، حسب جريدة “النداء” في ذلك الزمن

أيضاً تصدى الشيوعيون، سياسياً واعلامياً، لـ”حرب المخيمات” في منتصف ثمانينيات القرن الماضي، فحصدوا كلفة باهظة جداً، لا بل تم إتهام الحزب الشيوعي، غداة حربه مع حركة أمل (1987)، في بيروت، بأنه “كان ينوي وصل الشطر الغربي من العاصمة بمخيمي صبرا وشاتيلا تمهيداً لعودة ياسر عرفات إلى بيروت”!

مع خروج منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان في صيف العام 1982، بكّر جورج حاوي ومحسن إبراهيم في ملاقاة ياسر عرفات في المجلس الوطني الفلسطيني في الجزائر. يومها خاطبه حاوي قائلاً: “قائدي ومعلمي”، (وبكى)، حسب جريدة “النداء” في ذلك الزمن، قبل أن يلاقيه عرفات مجدداً في عاصمة الشمال، ويرعى مجزرة، إرتكبتها حركة التوحيد الإسلامي بحق الشيوعيين، في مدينة الميناء جارة طرابلس!

تراجعت العلاقات بين الحزب الشيوعي وحركة فتح، لكنها ظلت وثيقة الصلة بالجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، حتى يومنا هذا، أما منظمة العمل الشيوعي، وبرغم أنها خرجت من رحم قومي يساري واحد مع كل من الجبهتين الشعبية والديموقراطية، إلا أن “الفتحاوية” ظلت طاغية على هويتها، ولم تنقطع علاقة “أبو خالد” بياسر عرفات، إلى درجة أن محسن إبراهيم كان اللبناني الوحيد الذي واكب إتفاق اوسلو من خلال حضوره المستمر في تونس إلى جانب عرفات وعدد من المفاوضين الفلسطينيين، وكان من دعاة الدولة الفلسطينية مُنطلقاً، بعدما أقفلت الأنظمة العربية أبوابها بوجه فلسطين وثوارها.

محسن إبراهيم اللبناني

غداة نكسة العام 1967، برزت موجة اليسار الجديد او اليسار الماوي. خلطة ايديولوجية هي مزيج من قومية عربية وماركسية. وقومية عربية وماوية. إلتقت حركة الإشتراكيين الثوريين وحركة لبنان الإشتراكي، فكانت منظمة العمل الشيوعي، ليصبح محسن ابراهيم أمينها العام (خمسون عاماً). بعد فترة وجيزة، وقبيل الحرب الأهلية، كان التصدع الأول في المنظمة بعد “انشقاق” وضاح شرارة وأحمد بيضون، فيما أكمل “أبو خالد” قيادة المنظمة، الى جانب نخبة يسارية، وجدت نفسها في اتون حرب مريرة برعاية فلسطينية مدججة بالسلاح والفوضى والعبث والأوهام.

آنذاك، شكل محسن ابراهيم مع كمال جنبلاط وجورج حاوي، ثلاثي الحركة الوطنية اللبنانية الأبرز، مع ان جنبلاط، مثّل رأس حربة ذلك المشروع الذي عبرت عنه وثيقة البرنامج المرحلي. وينقل محسن دلول الذي رافق جنبلاط لعقود بأنه عندما كان يلعب طاولة الزهر وكلما كانت تصدر عن محسن ابراهيم لمعة ساخرة، كان جنبلاط يقول “يا محسن، كم تحت هذه القرعة من عبقرية”.

كان محسن إبراهيم الأمين العام التنفيذي لـ”الحركة الوطنية” (مقرها هو نفسه مقر الحزب التقدمي الإشتراكي في وطى المصيطبة حالياً، وخلفه مقر منظمة العمل ومنزل محسن إبراهيم). موقع سياسي أتاح له أن يكون المنظّر السياسي الأول والمُبلور لمواقف “الحركة الوطنية”، والقادر على إدارة الخلافات والتناقضات بين فرقائها، وقد ضمت البعث والقومي والشيوعي واحزابا ناصرية وشخصيات عديدة بينها من أسميت بـ”المسيحية الوطنية”. كان اغتيال كمال جنبلاط نقطة البداية لسقوط “الحركة الوطنية” التي عاشت يُتما سياسياً. واتى الاجتياح الاسرائيلي للبنان عام 1982 ليقضي على ما تبقى منها اثر خروج منظمة التحرير الفلسطينية الى تونس.

حاول جورج حاوي ومحسن ابراهيم ايجاد مشروع بديل لشد العصب “اليساري” و”الوطني”، بعد النكسات السياسية والأمنية. ولعل البيان الذي صاغه جورج حاوي ومحسن إبراهيم في 16 أيلول/سبتمبر من العام 1982 في منزل كمال جنبلاط في المصيطبة، وأعلنا فيه انطلاق جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية، سيشكل إحدى المحطات الأساسية لاستنهاض اليسار اللبناني. لكن منظمة العمل التي شاركت في إنطلاقة المقاومة وفي عدد من أبرز محطات بداياتها، قلّصت حضورها العسكري فيها منذ منتصف ثمانينيات القرن الماضي.

وثمة نقطة تغيب عن بال كثيرين أن منظمة العمل والحزب الشيوعي كانا من المبادرين لأول أعمال المقاومة منذ سبعينيات القرن الماضي، بدليل الجثامين التي إستعادتها منظمة العمل لعدد من مقاتليها، غداة التحرير في العام ألفين، ممن كانوا مدفونين في عدد من تلال الجنوب الأمامية، بالقرب من مدينة بنت جبيل (تلة مسعود وتلة شلعبون وغيرهما)، في معارك خِيضت إبان إجتياح العام 1978.

لقد إختارت منظمة العمل الشيوعي الخروج مبكراً من الحرب الأهلية في أعقاب إنتفاضة السادس من شباط/فبراير 1984، وذلك بعد أن بدأت تطغى عليها حروب الطوائف والمذاهب وعبث الخيارات الإقليمية.

كان محسن إبراهيم يسارياً بعناوين كثيرة. وهذه العناوين التي أعطته وزناً استثنائياً جعلته ينفرد بخطوة المراجعة النقدية التي حملت مصارحةً لم يُقدم أحد مثيلاً لها

مراجعة نقدية للحرب الأهلية

كان محسن إبراهيم يسارياً بعناوين كثيرة. وهذه العناوين التي أعطته وزناً استثنائياً جعلته ينفرد بخطوة المراجعة النقدية التي حملت مصارحةً لم يُقدم أحد مثيلاً لها. جرأته التي حصرها بحدود المراجعة كانت تقع ضمن الفرادات اللبنانية. فالطوائف اللبنانية كُتل صماء. لا تُراجع جنونها ومغامراتها. طبيعتها فولاذية. كذلك قسوتها وعنفها الأهليين. الأسوأ في الطوائف اللبنانية أنها تقف بالصف وراء بعضها البعض ليحين دور كل منها في أخذ البلد إلى جولات عنف. أبرع مهاراتها استسقاء الدم بالدم، وبلا هوادة. ما يسري على الطوائف يسري على الأحزاب التي ندر أن قامت بمراجعات تاريخية في لبنان والعالم العربي.

أحسن الراحل في اختيار توقيت إطلاق المراجعة النقدية. أرادها مناسبة لإطلاق السياسة مقابل كبت القتل والاغتيال. ففي آب/أغسطس من العام 2005 ولمناسبة ذكرى أربعين اغتيال جورج حاوي، تصدر المشهد في قصر الأونيسكو، ليقدم “نقداً ذاتياً” لتجربة “الحركة الوطنية”، قائلاً في معرض محاكاة الماضي واستنطاقه بأن الحركة “في معرض دعمها نضال الشعب الفلسطيني ذهبت بعيداً في تحميل لبنان من الأعباء المسلحة للقضية الفلسطينية فوق ما يحتمل، طاقة وعدالة وانصافاً”. واعتبر أن الخطأ الثاني “هو استسهالنا ركوب سفينة الحرب الأهلية تحت وهم اختصار الطريق إلى التغيير الديمقراطي”. حاول في حينها أن يقول شيئاً للصعود الشيعي من دون أن يسميه. وحاول أن ينبه إلى أيام حالكة ستأتي إذا ما استمر تحميل لبنان ما لا يحتمل، خصوصاً بعد أن تحررت الأرض (2000)، لكن أحداً لم يكن يريد ان يسمع. وربما انشطار لبنان في حينه بين 8 و14 آذار/مارس، حال دون أن يسمع الجميع أجراس الخطر الذي كان يحاول “أبو خالد” لفت الأنظار إليه.

إقرأ على موقع 180  حقوق الإنسان غير قابلة للمقايضات

ما بين “استسهال ركوب السفينة” و”الاعباء المسلحة للقضية الفلسطينية” سقط لبنان. لا بل احترق كله في دوامة الحرب. سار اليسار اللبناني واثق الخطى نحو تصدعٍ مأساوي. وسقط في مستنقع الدم والعسكرة وميتافزيقيا الثورة والمقاومة. هذا كله جعل آلاف العائلات تعيش المرارة، فيما جروح الذاكرة وندوبها لا تتوقف عن النزيف. لقد تحول النقد الذاتي نوعاً من طقس كتابي في الوسط اليساري. والنقد في جوهره، يبدو أقرب إلى تمجيد الذات والدوران حولها وربما عبادتها. ما يسمونه “مرارة الحرب” في مقالاتهم، سرعان ما يطلقون عليه “نضالاً”. أو “مقاومة”. أو “وفاء”، حتى أن البعض، لا بل الكثير من اليسار، صار أسير الماضي و”ندبياته” ولا يطيق مقاربة الحاضر بوقائعه وقواه ومفرداته الجديدة.

لقد اعتذر جورج حاوي بعد نهاية الحرب الاهلية. وزار مقر القوات اللبنانية في غدراس ومقر الكتائب في بكفيا، ساعياً الى مصالحة وطنية شاملة من دون أية قاعدة منطقية يبنى عليها. اخترع مقولة “الطائف الشعبي”. وهذه من مهارات حاوي. كان يريد “طي صفحة الماضي” على عجل وعلى قاعدة عفا الله عما مضى. فجأة نسي 15 سنة من الحرب ونسي دوره فيها. نسي من سقط. ونسي آلام عائلاتهم. تناسى الأحلام الكبرى التي صاغها وهو يودع رفيقاً تلو آخر. راح يبحث عن موجة جديدة يُطلق عبر أثيرها ما يعيد له مجداً ضاع مع إقرار السلم الأهلي البارد، فكان مطلب تعيينه عن أحد المقاعد النيابية، في جبل لبنان، هو العنوان الثاني بعد “المصالحة الوطنية الشاملة”، لكنه العنوان الأول المضمر.

وعلى هذا المثال، سار سمير جعجع في العام 2008. أطل على اللبنانيين يرطن بلغة القديسين. باشر مكاشفته بمجاملة الاعتذار. كان الاعتذار مبتسراً حد فقدان المعنى والمضمون. لم يُقدم جديداً يردع الطوائف عن ميلها الفطري للعنف. أفظع ما في اعتذار جعجع وهو أشرس ما قدمته المارونية السياسية، أي محاولته تجميل ما حصل في الحرب الاهلية التي دارت بين 1975 و1990. يومها وقف غير خَجِلٍ بماضيه. قال بدون تردد :”لم نكن مهيئين للدفاع عن البلاد بأفضل ما يكون، وعندما سقطت الدولة حاولنا انقاذ ما يمكن انقاذه بكل صدق والتزام وحمية وجل من لا يخطئ”. ما أسماه محسن ابراهيم “استسهال ركوب سفينة الحرب”، أسماه جعجع “محاولة انقاذ”.

وقائع الحرب اللبنانية تفترض أخلاقياً بكل من انخرط فيها أن يتنحى ويبتعد إلى غير رجعة عن الحياة السياسية. لكن ما يحصل هو العكس فكل منهم يتحول اقنوماً مقدساً

“الاستسهال” و”محاولة الإنقاذ” كانت حصيلتهما الخراب المديد والعميم. حتى في مثل هكذا لحظة، استسهل جعجع توصيف مرارة الحرب وكراهياتها بعبارة “جل من لا يخطىء”. أما الارتباكات المهولة والشنيعة فقد نُسِبًت إلى مخالفات افراد. اختصاره تاريخ “المارونية السياسية” كان حصراً لإرث الرئيس بشير الجميل. وللقائد القواتي المنفي من “المنطقة الحرة” (الشرقية) إيلي حبيقة. كان كل القتل “خلال أدائنا لواجباتنا الوطنية”. واللبنانيون أصحاب واجبات وأفضال لا تُحصى في هذا السياق.

وإلى هذا، وذاك، وذينك، كان وليد جنبلاط قد وقف في حرم الجامعة اليسوعية (26 كانون الثاني/يناير 2005)، ليقول “لا بدّ من الخروج من دوامة تبادل التهم، مع الاعتراف بمسؤوليتنا في دائرة العنف، ومسؤوليتنا عن نتائجها. ولكن، في الوقت نفسه، لا بدّ من الاعتراف بأن أيّاً من المتقاتلين لم يحرز نصراً، إذ لا يمكن لأحد أن ينتصر على مواطنيه وجيرانه وإخوانه بتدمير تعايش عمره آلاف السنين”.

المؤلم أن أطراف الحرب جميعهم الذين “قاتلوا وقَتَلوا وقُتِلوا” اعتبروا “الاعتذار” بعد أجيال على انقضاء الحرب براءةً من جنونها وهستيريتها التي استُعملت فيها الخناجر والسكاكين.. وأبشع الاعتذارات تلك التي أحالت الحرب إلى خارج ما، تصارع فينا وعلينا وبنا.

ما يفوق كل ذلك سوءًا، أن مساحة الاختلاف لا تزال تتوسع. والذاكرة لا تني تستحضر الماضي الرهيب حتى ولو تعلق الأمر بتعيينات وظيفية من الفئة الرابعة. أكثر من ذلك، فهذه المساحات تتغذى بمضامين جديدة، وبأحقاد أكثر عمقاً مما سبق، ما يعزز شروط اندلاع حرب جديدة متى اكتملت شروطها الداخلية مع نظيرتها الخارجية. لقد صار استحضار الضحايا سبباً إضافياً للذهاب إلى الجحيم. وهذا بالتحديد ما يرفع القلق من جميع السياسيين بلا استثناء. جميعهم لديهم ذرائع سياسية. وكلهم عندهم مسوغات أيديولوجية ودينية. كلهم يصدرون على الحاضر باستنكار الماضي. ولو استطاعوا انكاره لفعلوا.

وقائع الحرب اللبنانية تفترض أخلاقياً بكل من انخرط فيها أن يتنحى ويبتعد إلى غير رجعة عن الحياة السياسية. لكن ما يحصل هو العكس فكل منهم يتحول اقنوماً مقدساً. وجميع من تصدوا لـ”مراجعات” و”اعتذارات” ساقوا ما ارادوه هم، وبما يحقق غاياتهم. وهذا أيضاً شأنٌ من شؤون العالمين العربي والاسلامي. فكلما غاص القائد في دوامة الدم، زاد حضوره البطولي وسط جماعته.

تأسيساً على هذه الثقافة المخيفة، يُزَوِر قادة الحروب عندنا ماضيهم بحاضرهم. والقائد الشيوعي محسن ابراهيم، “المتمرد” وسليل العائلة الدينية الشيعية، الذي قدم “بشائر” نقده الذاتي عام 2005، يستحق التقدير. لكن هذا لا يُسقط من الاعتبار تأخره المديد، واستمراره في العمل السياسي كما أمراء الحرب الذين تصدروا السلطة السياسية. بقي في دائرة الانكفاء والسر الغامض والسطوة التي يمارسها على ما تبقى من كادر حزبي، ومعظمه من جيل الحرب وما قبل. لم يتخل محسن ابراهيم عن موقعه حتى الموت، حتى في السنوات الأخيرة، اذ بدأت منظمة العمل تدعو الى “اشتراكية ليبرالية” أو على الطريقة الاسكندنافية ومن دون كلمة “شيوعي”، بقي محسن ابراهيم “خطا احمر”، أو أيقونة في وجدان مناصريه القلّة، واسمه ملازم لمنظمته.

الظرف السياسي

طوال مرحلة ما بعد الحرب الاهلية، كان كثيرون ينتظرون بوح الأمين العام لمنظمة العمل الشيوعي بأسراره. وبكواليس علاقته بعبد الناصر والقومية العربية. وطبيعة ما جمعه بياسر عرفات والمقاومة الفلسطينية. بكمال جنبلاط والحركة الوطنية. بجورج حاوي وجبهة المقاومة. لكن “أبو خالد” على ما يحب مناصروه مناداته آثر الصمت والانكفاء، ولو أنه أسرّ مرة إلى رئيس تحرير “السفير” طلال سلمان أنه كتب مذكراته، ولكنه قرر أن لا ينشرها.

جرت محاولات حثيثة لاستنطاق محسن ابراهيم، لكنه تهرب من المقابلات والإغراءات على أنواعها. ولم يصدر تجربته في كتاب على نحو ما فعل أقرانه سواء في منظمة التحرير الفلسطينية او في منظمة العمل الشيوعي أو في حركة القوميين العرب. ربما يكون ترك “كنز اسراره” إلى ما بعد رحيله.

منذ أكثر من ثلاثين عاماً، قرر محسن إبراهيم الانزواء والانكفاء. صارت الحلقة المحيطة به ضيقة جداً، سواء على الصعيد الحزبي أو السياسي، ولو أنه لم يبارح المشهد الفلسطيني واليساري العربي، بتواصله المباشر مع أصدقاء كثيرين في أقطار عربية عدة، وبالطبع، ظلّ وفياً لصداقات وأصدقاء من مشارب كثيرة.

الظرف السياسي لمحسن إبراهيم جعله من أحب الشخصيات إلى نبيه بري. كان الأخير يطمئن إليه دائماً ويحرص على سماع أخباره. حاله كحال آخرين أبرزهم جان عبيد وتوفيق سلطان وطلال سلمان وفؤاد شبقلو. ظل هؤلاء، بالمفرق، يطمئنون إلى أخبار “أبو خالد” الذي لم يتردد في العام 2018، أن يكون جزءاً من صورة جمعته بآخرين ممن تحلّقوا حول “أبو راشد” (توفيق سلطان) المرشح الذي نال حوالي مئتي صوت في إنتخابات طرابلس النيابية!

أما محسن إبراهيم ووليد جنبلاط، فلهما حكاية مختلفة. ورث الأخير علاقة والده ووالدته الراحلين بـ”الأمين العام”. كلما إلتقيا على مائدة العشاء في المختارة (إلى ما قبل سنوات قليلة، ظل “أبو خالد” يزور الدارة الجنبلاطية في الشوف سنوياُ بذكرى رحيل كمال جنبلاط) أو في بيروت، جمعتهما “الحساسية السورية”، ورغبة جنبلاطية بأن يتعرف “الورثة” (تيمور وأصلان وداليا) على ذاكرة حديدية، وعلى منسوب من الظرف السياسي ندر أن تجد مثيلاً له سوى عند ثلة لا تتعدى اليد الواحدة من سياسيي هذا الزمن اللبناني البائس.

محسن إبراهيم عاصَرَ قامات عربية من قماشة عبد الناصر وياسر عرفات وهواري بومدين وأحمد بن بله وحافظ الأسد وجورج حبش ووديع حداد وكمال جنبلاط وقادة اليمن الجنوبي كلهم. من سيحل محله أميناً عاماً لمنظمة العمل الشيوعي، هل يمكن أن تتسع معارفه أكثر من بيروت؟

Print Friendly, PDF & Email
Download WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  وفي البدء كانت.. "جمّول"!