عندما ذاع الفيديو الذي صوّر نواباً أردنيين يتعاركون بالأيدي والشتائم، تناقلت وسائل الإعلام الأردنية فوراً خبراً مفاده أن السبب هو خلاف على كلمة الأردنيات التي تم إدخالها على المادة 6 من الدستور الاردني والتي كانت تنص على الآتي: “الأردنيون أمام القانون سواء لا تمييز بينهم في الحقوق والواجبات وإن اختلفوا في العرق أو اللغة أو الدين”، فأصبح التعديل “الأردنيون والأردنيات”.
بداية، ثمة مغالطة كبيرة يعتقد بها المنادون بحقوق المرأة في الأردن (إذ لا يوجد مناضلون لأجل قضية المرأة في الأردن منذ ثلاثين عاماً بل منادون بحقوق المرأة فقط)، وهو أن إنصاف المرأة يبدأ بالتشريعات، وأن هذه متاهة تسير بها المنظمات منذ ما يزيد على الثلاثين عاماً وليست إلا تيهاً حقيقياً في قضية المرأة، لأن المنادين بحقوق المرأة يتناسون عوامل أخرى، سياسية وإقتصادية وإجتماعية وثقافية سلبت المرأة حقوقها في المجتمع.
نقول “عوامل (…) سلبت المرأة حقوقها”، لأن المجتمع الأردني المكون في أغلبيته من الفلاحين والبدو، تمتعت فيه المرأة بحقوق بموجب ممارسات تحترم المرأة جذورها ضاربة في تاريخنا العربي والأردني. بدءاً من الآلهة عشتار التي أنجبتها منطقتنا، إذ بدأت عبادة المرأة الآلهة في مدينة أريحا (وهي مدينة تتوسط فلسطين والأردن) قبل الميلاد بكثير، مروراً بثقافة الفلاحين والبدو التي كان للمرأة فيها مكان حاضر، وصولاً إلى تاريخنا القريب، الذي شهد حضوراً للمرأة في الحياة العامة، عندما كانت الأحزاب اليسارية والقومية منبراً للمرأة. بقيت المرأة تتقدم في مجتمعنا حتى السبعينيات الماضية، التي شهدت تصاعداً للفكر الديني السلفي في العالم العربي.
تتجاهل المناديات بحقوق المرأة أهمية أن يبدأ تحرر المرأة الأردنية استناداً إلى تاريخها الذي يضم نماذج مشرفة لنساء قبضن على الحرية، قبل “أجندات” التمويل الغربي
وللأسف فإن المنظمات النسائية الأردنية تتعامل بضحالة مع تاريخ المرأة، وتربط تقدم المرأة بالمظاهر المدنية الفارغة، وكأن عمل المرأة في الحقل الزراعي ليس عملاً، وأن العمل الوحيد هو في المكاتب الفارهة! وتتجاهل المناديات بحقوق المرأة أهمية أن يبدأ تحرر المرأة الأردنية استناداً إلى تاريخها الذي يضم نماذج مشرفة لنساء قبضن على الحرية، قبل “أجندات” التمويل الغربي.
لقد بدأت رحلة سلب المرأة الأردنية حقوقها، عندما بدأ التدين الوهابي يجد طريقه إلى البيوت الأردنية في منتصف القرن الماضي، بفعل الحرب الباردة بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة، فكان تطرف الناس سلاحاً شعبياً في وجه ما أسمي “المد الشيوعي” ممثلاً بالأحزاب الشيوعية واليسارية والقومية في الوطن العربي، التي كانت بدورها حاضنة للمرأة الحرة.
وكان رأس الحربة في ما سبق تيار “الاخوان المسلمين” في العالم العربي عموماً والأردن لم يكن بعيداً عن كل هذا. وهنا بدأت الردّة، وبعد أن كان الدين الاسلامي في بلاد الشام ودوداً منصفاً للمرأة متوائماً مع تاريخ منطقتنا التي أنجبت الحضارة الأمومية، أصبح قاسياً وظالماً لها.
هنا عندما تجعل المنظمات النسائية من القوانين والدستاتير مدخلاً لإنصافها ولا تعمل على الأرض كما كانت جداتنا وأمهاتنا يعملن بين الناس عند تأسيس اتحاد المرأة الأردنية في أواخر النصف الأول من القرن الماضي، فإنهن يضعن المرأة في متاهة كبيرة.
في ظل ما سبق، يعلم الجميع أنه حتى لو تم إدخال لفظ “الأردنيات” على المادة 6 من الدستور، ستبقى الممارسات ضد المرأة حاصلة، لأن المرأة تقف ضد نفسها في مجتمعنا، والمنظمات لا تجرؤ على وضع يدها على الجرح الحقيقي لمداواته. أين هي المنظمة النسائية التي تجرؤ على القول إن أشكال التدين المعاصرة تسعى لتحطيم المرأة والرجل معاً؟ أين المنظمة النسائية التي تدير ظهرها للتمويل الأجنبي وتبحث في جذورنا لتصل إلى نساء قويات حفرن في تاريخ هذه الأرض الكثير؟
الفكرة التي يجب التشديد عليها هي تمكين الأردنية من منح الجنسية لأبنائها، لكن يُمنع منح الفلسطيني والفلسطينية الجنسية الأردنية حفاظاً على حقهم بالعودة إلى وطنهم، وحماية للأردن من خطر التوطين
إذ أردنا وضع ما جرى أمس (الثلاثاء) في سياقه، فعلينا أن نعلم أن قضية المرأة كانت المشجب الذي يُعلق الجميع عليه نواياه.
قبل ما يزيد على الاثنتي عشرة سنة، كان هنالك خلاف بين تيار المحافظين في الأردن وتيار آخر لا يضيره موضوع التجنيس، حينها كان موضوع منح الأردنية الجنسية لأبنائها مشجباً لتعليق الخلافات السياسية بين التيارين.
ويشار إلى أن تيار الحرس القديم في الأردن تبنى مواقف وطنية تتمثل في الوقوف إلى جانب الدولة السورية في حربها، واعتبار عدم التدخل في الحرب السورية جزءاً من حماية أمن الأردن، كما كان له دور مهم في إفشال ملف التوطين في الأردن، لكن كان ذلك من خلال استمرار ظلم المرأة ومنعها من منح الجنسية لأبنائها، ومن المعلوم أن ثمة نسبة كبيرة من الأردنيات المتزوجات من فلسطينيين، نظراً لتقارب الشعبين، لكن السؤال إذا الرجل الأردني من فلسطينية وهؤلاء نسبة كبيرة أيضاً، يمكنه أن يمنح الجنسية الاردنية لزوجته وأبنائه، وهنا تكمن المفارقة، إن تفريغ فلسطين من النساء لا يُعد تفريغاً، لكن تفريغها من الرجال يُعد تفريغاً! حتماً يعكس ذلك نظرة دونية حقيقية للمرأة.
الفكرة التي يجب التشديد عليها هي تمكين الأردنية من منح الجنسية لأبنائها، لكن يُمنع منح الفلسطيني والفلسطينية الجنسية الأردنية حفاظاً على حقهم بالعودة إلى وطنهم، وحماية للأردن من خطر التوطين.
إن وجهة نظر تيار الحرس القديم، لا تعد جريمة نكراء، لكنها تعكس نظرة مجتمع بأكمله، ومن هنا يجب تغيير منطق المجتمع قبل الدستور والقوانين، فالعيد من القوانين صِيغت في الأردن لمصلحة المرأة، لكن المرأة لا تقوى على الاستعانة بها بعد.
إن معركة المرأة الحقيقية ليست في كلمة “الأردنيات”، بل إنها في منظومة سياسية لا حدود جغرافية لها، تريد للأديان بشكلها الحالي أن تُطبق على الناس وتسلبهم الإرادة سواء أكانوا رجالاً أو نساءً.
لا نقول ذلك لنخلع الأديان عنّا، لكن أديان بلاد الشام كانت أقرب إلى الحياة والانصاف من أسلوب التدين الحالي الذي صيغ لمواجهة الاتحاد السوفياتي السابق، ولتحقيق مآرب سياسية أخرى، على رأسها تدمير سوريا الدولة.
يكفي أن رجل الدين الاسلامي كان قبل ثمانين سنة صديقاً ونصيراً للضعفاء، هذا عندما كان الدين يشبه مناخ ومزاج بلاد الشام.
الخلاف الحقيقي في البرلمان الأردني لم يكن لأجل حقوق المرأة لكنه مستور في مكاتب النواب الذين استضافوا زملاءهم بعد الأزمة، لكتابة فصول حل هذه المهزلة التي أخجلت الأردنيين
تقول حنان عسلي شهابي في كتابها “المرأة الفلسطينية في عهد الإنتداب البريطاني”، “أما سائدة جار الله، ابنة القاضي حسام جار الله، فقالت إنها وأخواتها كن من أوائل الفتيات اللواتي نزعن الحجاب في القدس. ولما سألتها امرأة عن سبب عدم ارتدائها الحجاب، وعما إذا كان زوجها في المستقبل سيقبل بذلك، ردت عليها قائلة: إذا كان الشيخ حسام جار الله قد أعطاني الإذن برفع الحجاب، فليس هنالك من إنسان يستطيع اجباري على ارتدائه”.
وتروي الشهابي في كتابها عن تظاهرات نسائية في الثلاثينيات الماضية حملت مطالب نسوية اجتماعية منها خلع الحجاب.
وحال الأردن كان كما فلسطين كما سائر بلاد الشام حينها، إذ كانت المنظمات النسائية تعرف مصالحها في ضوء المطالب الوطنية، ولم يكن وجهتها التمويل الأجنبي كما اليوم، وهنا نفتح الباب على سؤال كبير بعد ما يسمى الربيع العربي “لماذا لم تدفع المنظمات الغربية الأموال لمحاربة الفكر المحافظ في بلادنا على مدى الثلاثين سنة الماضية؟ ولماذا كانت المنظمات المتمولة تغازل الأديان بصورتها الحالية”؟، الإجابة متمثلة في الشارع العربي ومحاولات الغرب فرض خيار الاسلام السياسي على منطقتنا.
خناماً لا بد من قول أخير إن الخلاف الحقيقي في مجلس النواب الأردني يوم أمس (الثلاثاء) لم يكن لأجل حقوق المرأة، فنحن في مجتمع لا تعني له هذه الملفات كثيراً، لكن الخلاف مستور في مكاتب النواب الذين استضافوا زملاءهم بعد الأزمة، لكتابة فصول حل هذه المهزلة التي أخجلت الأردنيين.