عن سامي الجميّل “الثوري” الحالم بالسلطة!  

لم يعد النائب الشاب المُستقيل سامي الجميّل يُجسد صورة تاريخية لحزبه، إذ نراه يُحاول رسم وتسويق صورة جديدة عنه وعن حزبه، فخطاب وريث زعامة حزب الكتائب ينسلخ بشعبويته المبالغ فيها عن كل أثقال تاريخ حزب يقترب عمره من التسعين، إلى حد الإنفصام الفاقع عن الواقع والتاريخ.

بلغ الأمر بالفتى سامي الجميّل ليس استثمار خطاب ثورة 17 تشرين والتماهي معه بل حد تصنيف حزبه الذي ورث رئاسته من ضمن “معارضة المجتمع المدني” التي نشأت منذ أكثر من سنتين. فتجديد صورته وصورة حزبه والترويج لهما من خلال تبنّي ما يُسمى “خطاب الثورة”، ما هو إلا طريقة مدروسة للإنضمام مجددًا عبر خطابه “الإصلاحي” هذا إلى مقاعد السلطة التي “أُخرج” منها “ثائرًا” و”مُمتعضًا”، ليعود إليها لكن هذه المرّة من بابٍ آخر.

يبدو الجميّل اليوم في حالٍ من القطيعة مع تاريخ حزبه الذي شارك في الحرب اللبنانية عام 1975، كما في التأسيس لها ولكل الحروب التي تلتها حتى العام 1988 تاريخ إنتهاء ولاية والده أمين الجميل. يُصوّر الجميل الإبن حزبه منذ الانتخابات النيابية الأخيرة (2018) بوصفه حركة تغييرية إصلاحية. استراتيجية هدفها الوصول إلى محطة الانتخابات النيابية المقبلة وممرها الإلزامي إستثمار أحداث ولحظات مثل لحظة 17 تشرين/أكتوبر، انفجار 4 آب/أغسطس، الانتخابات النقابية (مهندسون ومحامون وأطباء إلخ)..

إعادة تموضع

بدأ سامي الجميّل، ولأسباب مُختلفة، مساره “التغييري” و”الإصلاحي” عشية الانتخابات النيابية عام 2018. حينذاك، تمّ تسخير كل الإمكانات التسويقية والترويجية لإظهار الحزب ووريثه في حلّةٍ جديدة. “منتجٍ جديدٍ وعصري”، مع الحرص على طمأنة الناخبين الكتائبيين، ولا سيما القدامى منهم، بأنّ أفكار وأيديولوجية الحزب الأساسية ما تزال نفسها. ففي وقت ظهر سامي بصورة “الثوري” و”المعارض” قبل أربع سنوات، تعمّد المزج بين المبادئ الأساسية للحزب ومبادئ “فريق 14 آذار” مثل السيادة والاستقلال والوقوف بوجه سلاح حزب الله. اليوم، هذا ما يُحاول الجميل تسويقه أيضًا لا سيما أنّ العديد من مجموعات “المجتمع المدني” تُشارك حزبه هذا التوجه. كما يحاول توسيع دائرة تأثيره للوصول إلى من يُغردون خارج سرب الطبقة السياسية التقليدية، وخاصة فئة الشباب التي زاد اهتمامها بمجموعات المجتمع المدني.

يلجأ سامي الجميل بشكل ٍعام في إطلالاته إلى استخدام الثنائيات الضدية: الـ”نحن” مقابل “هم”. وذلك لتأكيد طلاقه مع المنظومة السياسية

في العام 2018، تضمنت حملة سامي الجميل الإنتخابية الكثير من الإنسلاخ عن الواقع اللبناني، فخروج حزب الكتائب من الحكومة باستقالة وزرائه عام 2016 ليس تبريرًا كافيًا لينطلق الجميّل للترويج لنفسه ولحزبه كبديل جديد لكل أحزاب السلطة، في وقت هو وريث حزبٍ شارك في كل السلطات المتعاقبة. كما شُكّك بنوايا حزب الكتائب من خلال خريطة التحالفات الإنتخابية التي نسجها، وخذلان المستقلين عبر التحالف مع الأحزاب في عددٍ من الدوائر الإنتخابية لمصالح إنتخابية بالطبع. لذا يمكن القول بأنّ الجميّل في تلك المرحلة لم ينجح في إقناع الجمهور المُستهدف بطلاقه التام مع السلطة السياسية، زدْ على ذلك رفض المجتمع المدني له.

اليوم تبدو الصورة مُغايرة بعض الشيء، فهناك قبول أكثر للحزب وما يُحاول رئيسه الترويج له. الدليل أن بعض مجموعات 17 تشرين أبدت إستعدادها للتحالف مع حزب الكتائب برغم أنها كانت تعتبره دائمًا جزءًا من المنظومة السياسية الحاكمة، وذلك في إطار سعيها إلى تشكيل لوائح مُكتملة (للمعارضة) في الانتخابات النيابية المقبلة. وهذا أيضًا يعرفه الحزب وسيُحاول بالطبع استثماره. فيما بعض المجموعات الأخرى ترفض بشكلٍ نهائي التحالف مع حزب الكتائب وبالتالي سيتسّع الشرخ بين الطرفين مُستقبلًا. وهذا كلّه شهدناه في الانتخابات النقابية مُؤخرًا، بوصفها “بروفا” مُصغّرة نوعًا ما للانتخابات النيابية القادمة.

تطويع خطاب 17 تشرين

رأى الجميّل في اندلاع 17 تشرين/أكتوبر (2019) فرصة يجب اقتناصها، في محاولةٍ منه لتكملة النهج الجديد الذي بدأ بالتسويق له منذ العام 2018. لذا كان حزب الكتائب موجودًا بشكل فعلي في ثورة 17 تشرين، محاولاً أن يعكس جزءًا من دينامية الشارع اللبناني “المُنتفض” اليوم، ولا سيما منه “الشارع المسيحي”. هي محاولة واضحة من رئيس الحزب لتسلّق هذه الثورة.. وصولًا إلى تقديم نفسه متحدثًا بإسم “التغيير”، وتحديدًا بإسم “الثورة” أو مجموعة منها. فخطاب الجميّل يلتقي بمكانٍ ما مع جزء لا يُستهان به من مطالب المنتفضين.

يُحاول الجميّل منذ 17 تشرين من خلال إطلالاته الإعلامية أو من خلال مواقع التواصل الاجتماعي تكوين فاعلٍ جديد من خلال خطابه السياسي، وذلك إنطلاقًا من استراتيجيات خطابية وإقناعية ودرجات مُختلفة من التلاعب. فيلجأ بشكل ٍعام في إطلالاته إلى استخدام الثنائيات الضدية: الـ”نحن” مقابل “هم”. وذلك لتأكيد طلاقه مع المنظومة السياسية. هنا يمكن الرجوع إلى كتاب “الخطاب والسلطة” للباحث توين فان دايك الذي يقول إنّ أسلوب الإستقطاب في الخطاب المُتمثل بـ”نحن” و”هم”، هو أسلوب أنموذجي للحوار السياسي عبر تقديم الذات إيجابًا والآخر سلبًا. وهذا ما يفعله الجميّل بالضبط. إذ يُقدّم خطابًا مُنقسمًا بين ضدين: خيار الكتائب (نحن)، الذي يظهره الجميّل على أنّه الحل لبناء لبنان الجديد و(هم) المنظومة السياسية نفسها التي أوصلت لبنان إلى ما هو عليه اليوم.

حزب الكتائب يريد كسب عقول وقلوب الجمهور المُعارض للمنظومة السياسية الحاكمة وهدفه أن تُصبح هذه المجموعات وجمهورها معبرًا إلزاميًا للحزب للعودة إلى السلطة، من بوابة الانتخابات النيابية

يستخدم الجميّل أيضاً ثنائية الماضي والمستقبل، في معرض الإضاءة على “اقترافات” و”خطايا” السلطة السياسية التي يفصل نفسه عنها، بدليل استقالة وزراء الكتائب من الحكومة من قبل، ونواب الكتائب من المجلس النيابي أيضًا.

ويُوظّف الجميّل في خطابه السياسي ضمائر الجمع “نا” أو “نحن”. هذا التوظيف هو محاولة للخروج من الفردية وتقديم الولاء إلى مؤسسة ـ جماعة عن طريق خطاب إصلاحي يُبنى لهذا الغرض الاستراتيجي السياسي بالتحديد. من هنا، ينقل سامي الجميّل الخطاب من الذات إلى الجماعة، أي إلى كل “الثوار” اللبنانيين!

إقرأ على موقع 180  الدول الصغرى والأحلاف الكبرى.. لا بد من طريق ثالث

ولطالما حاول الجميّل في خطاباته الحشد للانتخابات عبر دعوة اللبنانيين إلى توحيد صفوف “المعارضة” من أجل “إعادة بناء لبنان” على حد تعبيره، فيتماثل ويتماهى مع خطاب الثورة عبر تصوير نفسه وحزبه بحالة صراعٍ وحربٍ مع هذه الطبقة الحاكمة. إلى جانب التصويب الدائم على التسوية الرئاسية التي حصلت عام 2016 (ضمنًا على تفاهم معراب بين ميشال عون وسمير جعجع) كما يعمل رئيس الكتائب على تأطير صورته بشكل مُستمر كمتحدث بإسم قوى 17 تشرين، فيُظهر نفسه بمثابة الحل لتحويلها من انتفاضةٍ فقط إلى تجربة حزبية ثورية وتغييرية، بإمكانها إختبار نفسها في امتحان الانتخابات النيابية المُقبلة.

منذ العام 2018 لا بل قبله، أي بعد إخراج نفسه من السلطة (2016)، عمل الجميّل على أن يُعيد تموضعه عبر قولبة خطابه وخطاب حزبه بوصفهما “أهل القضية”. إستوجب ذلك تعبيرات عاطفية في محاولة لطمأنة من يشكّكون بأهدافه الحقيقية، حتى بات اليوم يُصنّف نفسه ضمن المعارضة التي انبثقت من رحم إنتفاضة 17 تشرين.

الانتخابات النقابية نموذجًا

وجد رئيس حزب الكتائب في الانتخابات النقابية مدخلًا أساسيًا له للمشروعية  في صفوف المُعارضة ولجس نبض الشارع المُعارض أيضًا. فبدأ هذا الأمر قبل عامٍ تقريبًا حيث ضمن وجوده ضمن ما عُرف بـ”جبهة المعارضة” التي تضم عددًا من المجموعات التغييرية، وذلك تحضيرًا لخوض الانتخابات النقابية إلى جانب المجتمع المدني، تمهيدًا للاستحقاق النيابي الآتي.

ففي انتخابات نقابة المهندسين في بيروت مثلًا، وبعد أن عملت “النقابة تنتفض” على تشكيل ائتلاف واسع يخوض معركة انتخابات النقابة ضد أحزاب المنظومة السياسية، رضخ حزب الكتائب لمطالب المجموعة هذه، لكي يضمن وجوده فيها، فاضطر بالتالي لسحب مرشحيه الحزبيين، بما يتناسب مع الفكرة التي يُحاول الحزب “المُنتفض” إثباتها، بأنه ليس جزءًا من “المنظومة” برغم أنه كان في صلبها منذ الإستقلال حتى الأمس القريب.

في المُقابل، كان المشهد مُختلفًا في انتخابات نقابة المحامين. إذ أدّت هذه الأخيرة إلى حصول قطيعة جديدة بين حزب الكتائب ومجموعات المجتمع المدني، وذلك بعد انسحاب مرشح حزب الكتائب ونقل أصواته إلى المرشح المدعوم من الأحزاب السياسية (ناضر كسبار) وحصوله على منصب النقيب بالأخير. ثمة نموذج ثالث شهدته نقابة الصيادلة، فقد ضمّت لائحة “نقابتي سندي” مرشحين كتائبيين وآخرين مدعومين من القوات اللبنانية ومن التيار الوطني الحر. بالإضافة إلى مرشّح مقرّب من الثنائي الشيعي (حزب الله وحركة أمل). وقد فاز الصيدلي جو سلّوم، التابع للكتائب بمنصب النقيب. وبالتالي لا يُمكن التعويل فعليًا على إستراتيجية واضحة في التعامل مع الإنتخابات النقابية.

الأكيد أنّ فشل سامي الجميل في الانتخابات النيابية المقبلة سيفرض على حزبه إجراء مراجعة فعلية وحاسمة لاستراتيجياته السياسية منذ توليه رئاسة الحزب، فإما أن يبقى في “الصيفي” أو يلتحق بـ”مجموعات الثورة” في بيروت وجبل لبنان وبعض زوايا لبنان

ما الذي تغيّر؟ 

لقد تغيّرت المشهدية العامة للكتائب في عهد سامي الجميّل، فتحوّل من حزب بتوجهات يمينية شارك في الحرب الأهلية اللبنانية إلى حزبٍ أكثر انفتاحًا. فعمل هذا الحزب عبر استراتيجية تسويقية طويلة الأمد هدفها تبديل صورته وصولاً إلى ما وصل إليه اليوم.

يترقّب الجميّل ومعه حزب الكتائب الانتخابات النيابية لربما تُنصفه، بعد أن ضعُف هذا الحزب على صعيد قاعدته الشعبية وتمثيله السياسي، على الرغم من نفي رئيس الحزب هذا الأمر بشكل متكرر. يريد سامي من خلال التحشيد السياسي والخطابي وبالوسائل الترويجية التقليدية وغير التقليدية أن يتحوّل إلى Trend. أن يَلْمع ويتفرّد، في وقتٍ بات لاستثمار “الحدث” أو لـ “قطفه” مقصدية تأثيرية؛ وفي زمنٍ بات الجمهور أكثر عرضة للتأثّر والاختراق، بسبب تأزّم الوضع العام من جهة، وتزعزع ثقة اللبنانيين بالأحزاب السياسية من جهة أخرى.

لكن يُظهر لنا الشرخ بين مجموعات المجتمع المدني وحزب الكتائب الذي لمسناه في عددٍ من محطات الانتخابات النقابية، وجود خلافات حقيقية بين المجموعات المدنية والحزب. لذا، قد لا تنجح محاولاته للم شمل المعارضة لخوض الاستحقاق النيابي تحت رايته. فبعض مجموعات المجتمع المدني ترفض كليًا التحالف مع حزب الكتائب ضمن لوائح مُشتركة باعتباره جزءًا من السلطة السياسية. وهذا بالطبع ينعكس على الجمهور الذي لن يقترع كلّه للوائح المُعارضة في حال ضمّت حزب الكتائب أو تحالفت معه المجموعات المدنية والتغييرية.

الإلتحاق بالثورة هو الوسيلة الوحيدة أمام رئيس حزب الكتائب لإعادة إنتاج مسار يفضي به إلى السلطة مُجددًا. حزب يسوّق لإستقلاليته وثوريته ولكنه لا يستطيع أن يسبح إلا في فضاء سلطة كان على مدى سنوات طويلة جزءًا لا يتجزأ منها. حزب يريد كسب عقول وقلوب الجمهور المُعارض للمنظومة السياسية الحاكمة وهدفه أن تُصبح هذه المجموعات وجمهورها معبرًا إلزاميًا للحزب للعودة إلى السلطة، من بوابة الانتخابات النيابية.

هو الشيء ونقيضه، فهل ستشكل انتخابات 2022 النيابية ـ إذا حصلت في موعدها ـ محطة فارقة في تاريخ الحزب المُعاصر؟ وهل ستنجح استراتيجية رئيسه التأثيرية والإقناعية؟

الأكيد أنّ فشل سامي الجميل في الانتخابات النيابية المقبلة سيفرض على حزبه إجراء مراجعة فعلية وحاسمة لاستراتيجياته السياسية منذ توليه رئاسة الحزب، فإما أن يبقى في “الصيفي” أو يلتحق بـ”مجموعات الثورة” في بيروت وجبل لبنان وبعض زوايا لبنان.

Print Friendly, PDF & Email
مارتا قاصوف

صحافية لبنانية

Download WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
Download Nulled WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  "أتلانتك" عن حزب الله وإسرائيل: سؤال الحرب.. متى تقع؟