ودخل «محمد حسنين هيكل» إلى قلب المعركة بكتابه «لمصر لا لعبد الناصر».
بتعبيره: «إذا سألتنى عن أهم كتاب كتبته، فهو ذلك الكتاب حتى لا يُقال إن كل رجاله خانوه».
بتوصيف شيخ المؤرخين الدكتور «يونان لبيب رزق» لـ«هوجة المذكرات»، التى تصدى لكتابتها فى السبعينيات من لم يسمع عنهم من قبل وأسندت إلى أصحابها أدوارا بطولية لم تحدث، فإنها «ظاهرة لم تعرفها مصر على هذا النحو الواسع من قبل».
«لأن ما تم فى عهد عبد الناصر كان كبيرا، فقد كان من الطبيعى أن يجىء رد الفعل بحجم الفعل، وأن تُشارك جبهات عديدة فى ضرب الحقبة الناصرية» ــ كما فسَر تلك الظاهرة.
وسط تلك الحملات الممنهجة، التى شاركت فيها صحف أصدرت فى لندن خصيصاً لهذا الغرض قبل غيره، وصنعت أفلاماً أغلبها أقرب إلى أعمال المقاولات وأنتجت مسرحيات تجارية تشهر بالتجربة كلها، تبدّى سؤالان ملغمان كأنهما طلقات بارود.
الأول؛ هل كنا فى غيبوبة سياسية وها هو الوعى يعود من جديد مع فتح «ملف عبد الناصر»؟
وقد طرحه «توفيق الحكيم» فى كتابه «عودة الوعى» ــ (١٩٧٤).
والثانى؛ هل كان «عبد الناصر» حقاً يده نظيفة وذمته فوق مستوى الشبهات، أم أنه تورط فى قضايا تربح دون وجه حق؟
وقد طرحه «جلال الدين الحمامصى» فى كتابه «حوار وراء الأسوار» ــ (١٩٧٦).
كان الكتاب الأول صاعقاً بقدر وزن كاتبه، والصورة التى ارتبطت به كأحد ملهمى فكرة الثورة والتغيير عند «جمال عبد الناصر»، الذى تأثر فى شبابه الباكر بروايته «عودة الروح».
فى ذلك الكتاب ــ (٧٦) صفحة من القطع المتوسط ـــ تلخصت ثورة «يوليو» فى الجرائم والهزائم والسجون والمعتقلات، هاجم أية إيجابيات منسوبة إليها مثل السد العالى وتأميم قناة السويس، الذى تسبب فى العدوان الثلاثى، ومجانية التعليم والإصلاح الزراعى، حتى بدا «الحكيم» ضد «الحكيم» ــ بتعبير الناقد الأدبى «فتحى عامر» ــ فهو من دعا فى «عودة الروح» إلى الحاكم القوى العادل، الذى يبعث مصر من رقدتها «الكل فى واحد».. وهو من حكم فى «يوميات نائب فى الأرياف» على نظام ما قبل «يوليو» بالفساد السياسى والبرلمانى والحزبى.
بالنظر إلى الصورة التى ترسخت عنه كـ«ملهم» لـ«عبد الناصر» كانت ردات الفعل بنفس قوة الصدمة.
تصدى للرد عليه الأستاذ «محمد عودة» بكتابه «الوعى المفقود».
انزعج «الحكيم» من بعض الأوصاف والتشبيهات التى لحقت به فى صدر كتاب «عودة»، فطلب من صديقهما المشترك الدكتور «لويس عوض» أن ينقل ذلك الانزعاج المعاتب.
لم تكن محض مساجلة حادة بين كاتبين كبيرين، بقدر ما كانت أزمة بلد لا يعرف هل استعاد وعيه أم فقده؟
أهدرت النتائج العسكرية لحرب أكتوبر بمقولتى: «٧٠٪ من الصراع مع إسرائيل نفسي».. و«٩٩٪ من أوراق اللعبة فى يد الولايات المتحدة». كانت النتائج وخيمة على الدور الإقليمى المصرى بالانخراط فى الصلح المنفرد مع إسرائيل والخروج من الصراع العربى ــ الإسرائيلى
وكان الكتاب الثانى تجاوزا لكل حد، نشرته «أخبار اليوم» على حلقات حتى يأخذ تأثيره أبعد مدى ممكن.
انطوى ذلك الكتاب على اتهام صريح لـ«عبد الناصر» أنه قد اختلس لنفسه وهرب إلى الخارج مبلغ خمسة عشر مليونا من الدولارات قدمها الملك «سعود بن عبدالعزيز»، خمسة منها تبرعاً للمجهود الحربى، والعشرة الباقية قرضاً لمصر!
كانت القصة مختلقة بالكامل، فلا حساب سرياً فى الخارج، ولا اختلاس لأموال عامة، كل شىء جرى فى النور، حسبما أكدت وثائق البنك المركزى برئاسة «أحمد زندو».
انفجر غضب طلابى فى كلية الإعلام بجامعة القاهرة، قسم الصحافة بالخصوص، الذى كان يشرف عليه «الحمامصى»، وهو أستاذ مقتدر فى مجاله.
طلب منه، أو هو قرر من تلقاء نفسه، التغيب عن إلقاء أي محاضرات داخل الكلية الغاضبة.
لم يكن ذلك مقبولاً من عميد كلية الإعلام فى ذلك الوقت الدكتور «عبدالملك عودة» وتوجهاته على النقيض تماما.
كان الحل المؤقت، الذى أمكن التوصل إليه، نقل محاضراته إلى إحدى قاعات مؤسسة «أخبار اليوم»، الذى تولى أكثر من مرة رئاسة تحرير طبعتها اليومية «الأخبار».
فى بدء المحاضرة حاول أن يشرح موقفه غير أن الأسئلة حاصرته وبدا أن هناك اتهاماً مشرعاً بأنه قد جرى توظيفه، اعترض على التعبير وغادر القاعة.
شهدت «أخبار اليوم» على سلالمها، وطلاب الصحافة يغادرونها، هتافا جماعيا باسم «عبد الناصر».
بعد تلك الواقعة غادر «الحمامصى» كلية الإعلام للأبد.
كان فتح «ملف عبد الناصر» تمهيداً لسياسات تمددت من الانفتاح الاقتصادى بالطريقة التى جرت بها إلى الصلح مع إسرائيل بالتنازلات التى انطوى عليها
قبل أن يغادر طلب عبر زميلتى «ليلى عبد المجيد»، عميدة كلية الإعلام في ما بعد، أن يلتقينى فى بيته على كورنيش جاردن سيتى.
لم أكن مقتنعا بجدوى الحوار، لكنى غيرت رأيى بعد أن نشرت الطبعة الأولى لصحيفة «الجمهورية» قبل منتصف الليل وثائق البنك المركزى التى تفند ما تورط فيه.
فى ذلك الوقت المتأخر، ذهبت مع زميلىَّ «حمدين صباحى» و«محمد الشرايدى» إلى منزله وتركنا ورقة تقول إننا سوف نعود فى صباح اليوم التالى للحديث معه.
جرى حوار مطول حول الواقعة وتداعياتها، طلب مساندة تلاميذه فى شرح موقفه.
قلنا: «جرى توظيفك يا أستاذ جلال، والآن سوف يتخلصون منك».
اقترح مواصلة الحوار معه ونشره دون أن يُدرك أن كل شىء قد حسم بوثائق البنك المركزى.
في ما بعد أصدر جزءاً ثانياً من كتابه «حوار وراء الأسوار» ضمنه حواراً تخيلياً مع من أسماهم «زوار الفجر» قاصداً طلابه الثلاثة!
كان فتح «ملف عبد الناصر» تمهيداً لسياسات تمددت من الانفتاح الاقتصادى بالطريقة التى جرت بها إلى الصلح مع إسرائيل بالتنازلات التى انطوى عليها.
بتعبير المشير «عبد الغنى الجمسى» عن مفاوضات الكيلو (١٠١)، التى استبقت زيارة الكنيست بفترة طويلة نسبيا: «كنت أتفاوض مع وزير الخارجية الأمريكى هنرى كيسنجر.. بينما النتيجة معدة سلفا بينه وبين الرئيس السادات».
أكد «كيسنجر» فى مذكراته ما قاله «الجمسى»: «لم أعد وسيطا بين مصر وإسرائيل.. بل بين السادات وإسرائيل من جهة والوفد المصرى من جهة أخرى».
أهدرت النتائج العسكرية لحرب أكتوبر بمقولتى: «٧٠٪ من الصراع مع إسرائيل نفسى».. و«٩٩٪ من أوراق اللعبة فى يد الولايات المتحدة».
كانت النتائج وخيمة على الدور الإقليمى المصرى بالانخراط فى الصلح المنفرد مع إسرائيل والخروج من الصراع العربى ــ الإسرائيلى.
الحقيقة التى يجب أن تقال بعد نحو نصف القرن على فتح ملف «عبد الناصر» أن القضية لم تكن الرجل بقدر ما كانت فى مشروعه.
المشروع قبل الرجل والمستقبل قبل التجربة.
بقدر تناقض السياسات مع ما يمثله تبدت شراسة الحملات واتصالها عبر العقود.
ليس بوسع أحد أن يتكهن بتاريخ ما تتوقف فيه المساجلات المحتدمة حول ملف «عبد الناصر»، طالما ظل مشروعه ملهما لفكرة التغيير فى العالم العربى.
(*) بالتزامن مع “الشروق“