يروي برنارد شو هذه الأقصوصة في مذكّراته. يشبّهها بما يحصل، غالباً، في مجال السياسة. بحيث، تتغيّر المواقف عند الانتهازيّين، بناءً على مَن يدفع لهم أكثر. فإذا انخفض “أجرهم”، انقلبوا إلى نقيض ما هُم عليه. دفعةً واحدة. وأكثر. يبدؤون بالوعظ في ما تعنيه الوطنيّة والمبادئ والشرف!
العِبرة، التي يستخلصها برنارد شو، أنّه بمثل هؤلاء الساقطين تتلوّث الأوطان. ولبنان وطنٌ ملوّث. على كلّ الأصعدة. لكنّ تلوّثه السياسي قد يكون الأشدّ فتكاً ببيئته. غير أنّ ما جذبني في “الصفقة” التي عرضها برنارد شو على الفاتنة، هو جملته الأخيرة: “لقد عرفتُ مَن تكونين. لكن يا سيّدتي اختلفنا، فقط، في قيمة الأجر”. هنا بيت القصيد والمفارقة الفظيعة. أي، حينما يجادل مَن يبيع نفسه في قيمة الأجر الذي سيتقاضاه. من عمليّة بيعه لنفسه في سوق غيره!
هي عمليّة معادلتها بسيطة. تتمّ على أساس “نظريّة العرض والطلب”. إحدى أبسط وأهمّ النظريّات الاقتصاديّة، على الإطلاق. نظريّة تقوم، على أنّ العرض المنخفض والطلب الكبير “لسلعةٍ ما”، يزيد من سعرها. وبالعكس. إذْ يؤدّي العرض الكبير وقلّة الطلب لتلك السلعة، إلى انخفاض سعرها. وعليه، يتحدّد سعر السلعة من خلال التوازن في ما بين الكميّة المطلوبة منها من قِبَل المشترين، مع الكميّة المعروضة منها من قِبَل البائعين. هكذا بمنتهى البساطة. وهناك طُرفة تقول، إنّه لو علَّمتَ ببغاء أن يقول “عرض وطلب”، فسوف يتمكّن من الإجابة على أيّ سؤالٍ اقتصادي! تصوّروا!؟
لكن، لماذا إقحام الاقتصاد في هذه السطور؟
لأنّ ما يُسمّى برجال السياسة في لبنان، إنّما ينشطون بمثل أسلوب فاتنة برنارد شو، بالضبط. طبعاً، لا يتوهمّ أيّ كائنٍ بشري أنّ هؤلاء الرجال (أو أشباههم) يشتغلون في السياسة! فالسياسة وُجِدت، بمفهومها المبدئي، لخير المجتمعات ورفاهيّتها. لإرساء السلام والمساواة بين البشر. ولحلّ النزاعات والمشاكل الاجتماعيّة بالطرق السلميّة. إذاً، العمل السياسي يجب أن يهدف إلى تطبيق هذه المبادىء، عمليّاً. بغية التوجّه بالمجتمعات نحو مستقبلٍ أفضل. لكن من الصعوبة بمكان، استشراف مستقبلٍ أفضل للبشريّة من دون مواكبة العمل السياسي بالشكل الصحيح. غير أنّ “السياسة”، بالمفهوم اللبناني، أمرٌ مختلف، جذريّاً.
في بلادنا، يا أصدقاء، حتّى هويّة المُحتلّ نختلف عليها. إذْ كلٌّ له “مُحتلّه المفضّل”. و”مُحتلّه المرفوض”. جماعة تمجّد احتلالاً، وتعادي آخر. وجماعة تعادي مَن تمجّده الجماعة السابقة، وتمجّد مَن تعاديه. نعم. نتعاطى مع هويّة المُحتلّ على القطعة. ومع مفهوم السيادة، كذلك الأمر
لا يعني العمل السياسي في لبنان، إلاّ شيئاً واحداً فقط. إيجاد السُبل الكفيلة في الوصول إلى السلطة. بشكلٍ إفرادي أو جماعي. ومن ثمّ التنعُّم بهذه السلطة. والتأبُّد فيها. وهذا التنعُّم وذاك التأبُّد يُفضيان، وبشكلٍ حتمي، إلى تزوير “رجل السياسة” للواقع. وتشويه سمعة الأشخاص المناوئين له. هو الانحراف بالسياسة، لا اسم آخر له. وبات “الانحراف السياسي” ظاهرة الظواهر في لبنان. صار الأساس والقاعدة، لا الاستثناء. انحرافٌ، ينشط وفق “نظريّة العرض والطلب” الاقتصاديّة إيّاها. فجوهر انشغالات سياسيّي لبنان يتلخّص، في متابعتهم المحمومة للبورصة السياسيّة في الخارج. في دول الجوار وما وراء البحار والمحيطات. ارتفع هذا المؤشِّر. وانخفض ذاك. اشترِ. بعْ. وهكذا دواليك. يبيعون ويشترون أنفسهم على وقع أسعار المؤشِّرات. ومن دون أيّ مجادلة بخصوص الأجر. أجرهم. ما هو أجرهم؟ وكم يبلغ؟
هم يقبضونه على دفعات. وعلى المديَيْن المتوسّط والطويل. أجرهم هو مساعدة هذا الخارج لهم، الماديّة والمعنويّة، للوصول (الأكيد) إلى السلطة. ومهما كان الثمن. وأكثر. ضمانة البقاء في هذه السلطة، ما أمكن. أقلّه، حتّى يتمكّن “الواصل” من الإمساك بخيوط اللعبة. أي، إتقان ممارسة كلّ الموبقات التي تساهم في تأبيده، مع شجرة عائلته، في “جنّة السلطة”. أمّا الشقّ الثاني من الصفقة، فهو ما يقدّمه السياسي عندنا للشاري. ماذا يقدّم يا ترى؟ الولاء الأعمى. وكلّ ما يعنيه ويتطلّبه هذا الولاء. وتبعاً للظروف التي تستدعي “تظهيره”. بخاصّة، عندما يكون هناك منافسون لذلك الـ”بائع لنفسه”. يتنافس معهم على قلب الشاري وعقله وجَيْبه. فلا تنسوا، “المنافسة” هي ركنٌ مركزي في “نظريّة العرض والطلب”.
لكنّ المُحزِن، في هكذا نوعٍ من الصفقات، ليس بيع السياسي اللبناني لنفسه. ما همّنا وهمّه؟ “في ستّين داهية”، كما يقول إخواننا المصريّون. إنّما تتجلّى الكارثة، في كونه يبيع معه قرار الجزء الذي “يمون” عليه في البلد. بما فيه ومَن فيه. وتترافق عمليّة البيع، دوماً، مع “قرّادي” عن الحريّة. والمِنْعة. والكرامة. والوطنيّة. والسيادة. وهذه الأخيرة، بالتحديد، هي الكلمة المفتاحيّة لسرّ عبقريّة رجال السياسة في لبنان. لعهرهم. فأفصح ما يكون سياسيّو لبنان، حين يحاضرون في السيادة. وأحدهم لخّص حالنا مع هذه السيادة بالقول: “لا شريك للّبنانيّين في السيادة على بلدهم”! يا إلهي.. أسمعتَ هذا الوقح؟
تعرف البشريّة، قاطبةً، أنّ لبنان هو بلدٌ مُنتَهَك السيادة. فكلّ طوائفه وحُكّامه وأحزابه وسياسيّيه يرتبطون، مباشرةً أو مواربةً، بدولةٍ ما. بنظامٍ ما. بمرجعيّةٍ ما، في هذه المعمورة. يوالونهم ويتبعون لهم تبعيّةً كلّيّةً أو جزئيّة. وسواء أكان ذلك، في الجوانب السياسيّة أو الاقتصاديّة أو الاجتماعيّة أو الدينيّة. أو كلّها مجتمعة. هي تبعيّة لبنانيّة كاملة الأوصاف، لتحقّق أغراض تلك الدولة. ذلك النظام. تلك المرجعيّة. يقولون لهم كونوا فيكونون. نفّذوا فينفّذون. و”يلّي بياكل خبز السلطان.. بحارب بسيفه”، يقول المثل الشعبي اللبناني. لكنّ الأمانة تقتضي منّا التمييز بين تبعيّةٍ وتبعيّة. فبالتأكيد، تختلف درجات التبعيّة، بين جهةٍ وأخرى في لبنان. وتختلف معها مستويات إشهارها أو إخفائها.
فهناك مَن يخجل. وهناك مَن يفاخر. الفرق واضح، بين مَن لديه فوائض القوّة. وبين مَن يرزح تحت فوائض ضعفه. أمّا بالنسبة لمعنى التبعيّة للخارج ومخرجاتها، فهي تعني، بالمنطق الحسابي، التوقيع لـ”هذا الخارج” وعلى صكٍّ أبيض ليفعل بنا ما يريد. ليغتصب سيادتنا، ساعة يشاء. وليس بالضرورة عبر احتلال الأرض. فلقد أمسى المحتلّون أذكى بكثير في تنفيذ “الاجتياحات”. صاروا يجتاحوننا عن بُعد. ينتهكون الكرامات والسيادة بـ”الريموت كونترول”. وفي زمننا الرقمي هذا، حتّى الاحتلال بات من اليسير أن يكون افتراضيّاً! وبعد؟
لبنان بيتٌ بمنازل كثيرة. فهو بلدٌ فيه تعدّديّة طوائفيّة، هذا معروف. ولبنان بيتٌ باحتلالاتٍ كثيرة. فهو وطنٌ فيه تعدّديّة ولاءات. هذا معروف أيضاً. من ولاءٍ إلى ولاء. ومن احتلالٍ إلى احتلال. في بلادنا، يا أصدقاء، حتّى هويّة المُحتلّ نختلف عليها. إذْ كلٌّ له “مُحتلّه المفضّل”. و”مُحتلّه المرفوض”. جماعة تمجّد احتلالاً، وتعادي آخر. وجماعة تعادي مَن تمجّده الجماعة السابقة، وتمجّد مَن تعاديه. نعم. نتعاطى مع هويّة المُحتلّ على القطعة. ومع مفهوم السيادة، كذلك الأمر.
لبنان بيتٌ بمنازل كثيرة. فهو بلدٌ فيه تعدّديّة طوائفيّة، هذا معروف. ولبنان بيتٌ باحتلالاتٍ كثيرة. فهو وطنٌ فيه تعدّديّة ولاءات. هذا معروف أيضاً. من ولاءٍ إلى ولاء. ومن احتلالٍ إلى احتلال
ما يُدمي القلوب، أنّ هذا النظام الذي يبارك ويستجلب كلّ تلك الاحتلالات، ثبت أنّه قادر أن يهزم الجميع. رغم كلّ أزماته. وكلّ صراعاته البينيّة. أي، في ما بين مُستجلِبي شتّى صنوف الاحتلالات. وبين بائعي السيادة الوطنيّة. بأبخس الأسعار. والأنكى، أنّ كلاً منهم ينادي “أنا أمّ الصبي” فانتبهوا! أنا مَن يقدّم الأضاحي على مذبح الوطن. فداءً لهذا الصبي. آه على حكاية أمّ الصبي. تخطر ببالي كثيراً في هذه الأيّام. كانت ترويها لي جدّتي عندما كنتُ طفلة. تقصّها عليّ بحماسةٍ كنتُ أستشعرها وأنا أتّكئ برأسي على حضنها. هل تعرفونها؟
تقول الحكاية، إنّ امرأتيْن كانتا تتنازعان طفلاً صبيّاً مجهول النسب. إحداهما كانت الأمّ الحقيقيّة للطفل، والثانية كانت تدّعي أمومته. لجأت الإمرأتان إلى الملك سليمان ليحكم بينهما. فهو النبي المعروف بحكمته التي لم يؤتَ أحدٌ مثله بها. بدأت كلٌّ من الإمرأتيْن تحشد الحجج التي تؤيّد أحقيّتها في أن تكون أمّ الصبي. إحتار الملك الحكيم في أمره. فلا أدلّة ماديّة تُثبِت الأمومة (يا سعدنا بنعمة الـ DNA). ولا شهود لديهما، أيضاً. فنظر إليهما بيأس، وأمسك بالطفل وقال للإمرأتيْن: “سأقطع هذا الصبي قطعتيْن. واحدة لكلٍّ منكما”، ونادى مساعده كي يأتيه بالسكين. فإذا بإحدى المرأتيْن تصرخ متضرِّعةً: “لا واللهِ يا سليمان لا تفعلْ.. أتوسّل إليك لا تفعلْ.. لتأخُذْهُ هي. فأنا لا أريده”! وعلى الفور، عرف سليمان أنّ هذه المرأة التي تتوسّله ليست إلاّ الأمّ الحقيقيّة. فأعطاها طفلها وأمر بسجن الإمرأة الثانية. هنا، تنتهي حكاية جدّتي. فأطلبُ منها باكيةً أن تعيد روايتها لي. فهذا ما يفعله الأطفال، غالباً، أليس كذلك؟ بلى. لكنّ ما يُبكيني اليوم هو أنّ أحداً من مسؤولي وسياسيّي وحُكّام هذا البلد لا يصرخ: “أنا أمّ الصبي”! لماذا لا يُنقذه ويُنقِذ سيادته المُمرّغة بالوحل، من حدّ السكين؟!
كلمة أخيرة. من المفترض أن تسلمّ الدولة اللبنانيّة، اليوم، أجوبتها على البنود العشرة لما سُمّي “مبادرة عربيّة دوليّة”، كان قد حملها إلى بيروت وزير الخارجيّة الكويتي. فهل ستتجرّأ دولتنا العَلِيّة على مجرّد لفظ كلمة “سيادة وطنيّة” في ردّها؟ إقتضى التساؤل.