الثورة بحدوثها، أسبابها ونتائجها (1)

الثورة حدثٌ، زلزالٌ، غضبٌ، انفجارٌ. يهب المجتمع بمختلف طبقاته، من الدنيا الى الوسطى، للثورة والاعتراض على النظام. الحدث لحظة. اللحظة لا برنامج لها. البرنامج وهم. الثورة في أذهان أهل السلطة ومثقفيها. على الأقل يقترحون أن يكون هناك مقدمات ثقافية. تؤهلها الثقافة. ثقافة المجتمع للثورة. كأن هناك مجتمعات قابلة للثورة وغيرها غير قابلة بحكم ثقافتها الضاربة في الماضي.

يُميّز الفقيه أبو اسحق الشيرازي بين العرض والجوهر. العرض هو ما لا يتكرر. الجوهر هو ما لا ينقسم. هو النواة الثابتة التي لا يصيبها التغيير. يقول جاك غولدستون بأن ثورات الغرب في التاريخ تؤدي الى التقدم في تغيير المجتمع والسلطة. أما ثورات الشرق، كما في الدولة العثمانية، فهي لا تترك أثراً. تعود الأمور كما كانت عليه من قبل. قال تروتسكي بالثورة الدائمة لتعم العالم. كان هم لينين بناء الدولة بعد الثورة البلشفية. قام الانجليز بثورتين في القرن السابع عشر. ذبحوا الملك بعد واحدة منهما، واستوردوا ملكاً من هانوفر بعد الأخرى. ثورة التحرر الوطني الأولى ضد العثمانيين جاءت بملك ألماني في اليونان. الثورتان الفرنسية والروسية، الأولى في نهاية القرن الثامن عشر، والثانية في بداية القرن العشرين، أدت كل منهما الى قتل العائلة المالكة. الثورة العباسية أدت الى قتل الأمويين وملاحقتهم. ولم يسلم الطالبيون من الملاحقة والقتل. الثورة الإسلامية في إيران قتلت أعداءها وحلفاءها، وما زالت تسمي نفسها ثورة إسلامية، وتعتبر نفسها حقبة لا حدثاً. الثورة الأفغانية هجّرت الملك. في كمبوديا تم التخلّص من الأمير سيهانوك، الذي كان يحب الموسيقى، وكان شعبه يحبه. ثورة الميجي ميشن اليابانية في ستينيات القرن التاسع عشر أبقت على الامبراطور وغيرت كل بنى الدولة وبعض البنى الاجتماعية، وانتهجت حداثة غير مسبوقة. الولايات المتحدة الدولة الوحيدة التي بدأت بطرد البريطانيين، أنشأت جمهورية فيدرالية. لا ننسى الدولة الهندية. أسسها غاندي بثورة سلمية ثم قتله بعض الهندوس من قومه لتعصّب قومي ديني. لكنها ما زالت تجري انتخابات ديموقراطية كل أربعة أعوام منذ عام 1948. ثلاث دول قامت على أسس دينية، وما استطاعت واحدة منها أن تنشئ دستوراً: السعودية (الشريعة حسب المذهب الحنبلي)؛ باكستان (إعلان دستوري)؛ واسرائيل (إعلان دستوري). ثلاث دول دينية. الأولى أنشأها مسلمون على أساس الدين، الثانية أسسها مسلمون لكي تستوعب مسلمي الهند، وما زالت الأقلية المسلمة في الهند توازي باكستان، الثالثة أنشأتها الصهيونية من أجل اليهود. الثورة عندما تدوم لعدة سنوات مع السيطرة على بقعة من الأرض تتحوّل الى نظام للسلطة تنازع السلطة الرسمية شرعيتها.

ثورة الغضب لا وقت لديها لوضع برنامج. هي مؤهلة فقط لرفع شعارات. أهمها إسقاط النظام الذي يفقد مبرر وجوده باحتلال الجماهير الغاضبة للمجال العام؛ والنظام أساسا فاقد الشرعية لأنه استبداد وطغيان وإلغاء لإرادة الناس

تكون الثورة عندما يشارك عدد كبير من الناس في الشارع والمجال العام. يطرحون مطلبا، أو مطالب، شعاراً أو شعارات قليلة تعبر عن غضب المجتمع. ليس ممكنا أن يكون للثورة برنامج. البرنامج يضعه عدد قليل من الناس. عند ذلك يكون الأمر أشبه بالانقلاب. يصعب أن يكون للثورة قيادة لأنها فجائية؛ حدث تلقائي. لحظة تاريخية ولو امتدت أياماً؛ يعود بعدها الناس الى حياتهم العادية. المهم أن تُحدِث الثورة أثرا يعتبر به أهل السلطة. غالباً ما يكون هؤلاء من أصحاب جلد التماسيح. بلا شعور أو تعاطف مع الناس.

في بلدان الاستبداد يعتبر الطغاة أن الناس أدوات لهم. يمنون عليهم بأن يكونوا هم أنفسهم حكاماً بسلطة معطاة من السماء. يعتبر الطغاة أنفسهم أبديين. حتى لو كانوا منفتحين لأجل محدود فهم يتلاعبون بالدستور لإعادة “انتخابهم” في عملية اقتراع تكون نتائجها محسومة سلفاً. يمتاز الطغاة بمستوى عال من الجبن والخسة. هم جبناء يخافون من الجماهير حين تأخذ زمام المبادرة بالنزول الى الشارع. عندما يطالبون الجماهير بالبرنامج، هم أعرف الناس أن الذين يصوغون البرنامج نخبة من المثقفين، وهؤلاء بمعظمهم أسكتوا، أو سجنوا، أو أعدموا. ومن بقي منهم يكونون تحت جناح السلطة. يعرف أهل السلطة أن مطلب البرنامج هو مطب للثورة. ثورة الغضب لا وقت لديها لوضع برنامج. هي مؤهلة فقط لرفع شعارات. أهمها إسقاط النظام الذي يفقد مبرر وجوده باحتلال الجماهير الغاضبة للمجال العام؛ والنظام أساسا فاقد الشرعية لأنه استبداد وطغيان وإلغاء لإرادة الناس. تذاكيهم بمطلب البرنامج هو مطب للثورة للإيهام بأنها مجرد محاولة انقلاب. يوصم الانقلاب بالمؤامرة المدبرة من الخارج. والاستبداد يؤسس نفسه على الإيهام بضرورة وجوده لمواجهة المؤامرات الخارجية. يحذرون دائما من الخارج. طهرانية المجتمع يحافظ عليها بالانقطاع عن الخارج. يفرضون العزلة على المجتمع. ينتهون به الى الانغلاق على أفكار قديمة تتحوّل على أيدي الطغاة الى أوامر. يساعدهم على تثبيت القديم رجال الدين. هؤلاء يبررون وجودهم بما هو قديم أو ما يُسمى التراث. الحكم بالأمر والقسر والإكراه مهمة الطغاة. تقسيم عمل مناسب. حتى لو قاتل أصحاب الدين أصحاب الحكم. يكون الأمر صراعاً على السلطة. صراع تغيب فيه مصالح الناس.

التهمة بالمؤامرة حاضرة دائما عند هؤلاء وأولئك. من غير الأجنبي القريب يحرّك الناس ضد النظام الذي عادة ما يعتبر نفسه متماهياً مع الناس ورغباتهم ومصالحهم؟ فهم يعرفون ما في صدور الناس أكثر مما يعرف هؤلاء أنفسهم. لكل ثورة شعار والبرنامج مطب لها. يفخخ (من فعل فخخ) الطغاة الثورة بمطلب البرنامج. وهذا مستحيل. فيضعون السلاح بطريقة أو بأخرى بأيدي الناس لتحويل الثورة الى عنف في سبيل الحرب الأهلية!

الثورة فعل. ليست نصاً. النص يأتي فيما بعد. النص عمل أهل السلطة القديمة أو الجديدة. كان يجب أن يكون إصلاحاً. الإصلاح ليس تصميم نصوص. هو إنتاج، تطوّر، تطوير، إدارة، شغل. سلطة الاستبداد أيضاً تحوّل الإصلاح بالفعل الى نص لا تعمل بموجبه. للاستبداد آلية داخلية تخالف النص الإصلاحي الذي تعبر عنه القوانين والدستور. عنف الاستبداد يخالف نصوص السلطة التأسيسية. دائما تريد السلطة الاستبدادية نصوصاً كي تخالفها. النصوص جامدة. حروف على ورق. الفعل يعطيها الحياة. تتوزّع الحياة بين فعل الناس وفعل السلطة، بين الثورة والثورة المضادة. الثورة فقيرة النفس. فقر الناس، والحاجات اليومية، تجبر الناس على الانسحاب من المجال العام. تملؤه الثورة المضادة. هي تواطؤ على الناس. أجهزة بيروقراطية ومخابرات وقوى أمنية. تأمرهم السلطة بقتل وتعذيب أبناء طبقتهم من أهل الثورة. المؤامرة هي تقسيم العمل بين الناس ليصيروا بعضهم “أهل الناس” وبعضهم “أهل السلطة”، أعداء يقاتلون بعضهم كي يحافظ الحكام وذوو السلطة على أنفسهم أحياء وعلى ثرواتهم مكتنزة. تنفصل السلطة عن الناس. تتحوّل الى الحكم بالأمر والقسر والإكراه. الأوامر المكتوبة، النصوص القانونية والدستورية للاستعلاء. الأوامر غير المكتوبة هي فعل السلطة. لا سلطة إلا وهي ظالمة وتعاني انفصاماً، تتحكم به الجبانة والخساسة. النبل سمة الناس. من خصائصهم أنهم لا يتآمرون ولا يخضعون لتوجيهات خارجية. يوجههم الضمير فقط. نبالتهم أساسها أن الناس مجتمع مفتوح. السلطة مجتمع مغلق. علاقات الناس شبكات من الود والتعاون والصداقة. غريزة البقاء تستلزم التعاون والتبادل. غريزة السلطة تستلزم التواطؤ والتآمر والإستعانة بمن هو خارج المجتمع، من أجل بقاء الاستبداد. الحرية دائماً داخلية. تنبع من داخل المرء والمجتمع. الاستبداد يستدعي الخارج دائماً. هو خارج الضمير. خارج على الضمير وعلى إنسانية البشر. السوق للناس. تبادل قيمة بقيمة. أقرب للمقايضة. مبادلة شيء لا تحتاجه بشيء تحتاجه. الرأسمالية تبادل شيء ذي قيمة بمال قيمته وهمية، حقيقة في أوهام التسلط. الرأسمالية استبداد مباشر أو مقنّع. يتفاقم تراكم الثروة مع الرأسمالية. يستحيل ويصير غير ممكن مع السوق. سوق العامة للأشياء. سوق الرأسمالية بورصة للمضاربات، حيث المال يخلق المال. في سوق العامة العمل يخلق الأشياء. والأشياء للتبادل والتداول. الرأسمال للاحتكار. لم يُبتدع الرأسمال إلا لتحويل الأشياء المنظورة والملموسة الى ما هو غير منظور، أي المال. يخجل أصحاب المال من فقدان نبالتهم، فيعمدون الى إخفاء ما لديهم وراء جدران خزناتهم، في المصارف أو خارجها. يتحالف الرأسمال مع الاستبداد ورجال الدين في نظام ديموقراطي أو غير ديموقراطي. المهم أن يكون مغلقاً. المفتوح للعامة. المغلق لنخبة رأس المال، خاصة الرأسمال المالي.

النزاعات العربية-العربية ايديولوجية في الغالب. ايديولوجية في خدمة أهداف سياسية. الأهداف السياسية ليست بالضرورة ما يرسمه الحكام بل ما يُرسم للحكام. أنظمة تخاف شعوبها، فتستعين عليها بالخارج أو تستخدم الدين في الخلاف والاختلاف أي اصطناع الخلاف

تلقائية الثورة تعكس علاقات بين الناس ترفضها الثورة المضادة؛ هذه المتمثلة في سلطة مغلقة؛ سلطة الاستبداد والاستغلال. لا يكون الاستبداد إلا من أجل الاستغلال. في التلقائية علاقات إنسانية بين البشر؛ علاقات أفقية. يفضل الاستبداد علاقات عامودية بين كل واحد من الناس والسلطة. تراقب سلطة الاستبداد الناس. تريد الناس أتباعاً لها، لا أتباعاً لبعضهم البعض. يحاصر الاستبداد الناس فرداً فرداً. عندما تترسّخ علاقات الناس فيما بينهم فإنهم يحاصرون السلطة. لا ضير في ذلك سوى أن السلطة تهدف الى السيطرة على الناس. سيطرة قائمة لا على المواطنية. المواطن بالتعريف، عندما يتحوّل من كونه رعية الى كونه شريكاً، يحتاج الى سلطة تعبّر عنه في علاقاته مع الآخرين. لا تعبر سلطة الاستبداد عن الناس إذ لا تعترف لهم بحق أن تكون لهم إرادة يجري التعبير عنها بالدولة. الناس عند الاستبداد قطيع يقادون كما يقود الكبش قطيعه. علاقات الناس فيما بينهم تتحدى احتواء السلطة لها، وتحكّم أجهزة الاستخبارات بها، سواء كانت هذه أمنية أو بيروقراطية. تلقائية الثورة تعني احتلال الناس المجال العام وسلخه من تحكّم السلطة وصيرورة المبادرة الى غير ما تشتهيه إدارة الحكم.

إقرأ على موقع 180  حبذا لو نُنزِل تاريخنا العربي "المقدس" من عليائه!

أهمية الثورة لا تنبع مما تحدثه في بنية النظام. هي تحوّل في بيئة الفرد؛ في اعتباره لنفسه قادراً على تغيير بنية النظام السياسي. يُقحم الفرد نفسه في السياسة. يعلن نفسه شريكاً في النظام وقراراته؛ يعلن أنه صار مواطناً. يعلن أن الدولة والفرد يتماهيان. تصير سلطة النظام خارج هذه العلاقة. يتزعزع هيكل النظام. تبدأ أعمدته بالتفسّخ. الدولة ومؤسساتها. الفرد وضميره. والدولة ومؤسساتها في جهة، والنظام والسلطة السياسية وعائلاتها والرأسمال ومصارفه في جهة أخرى. عندما هرّب أرباب السلطة والمال أموالهم الى الخارج أقروا أنهم صاروا خارج علاقة الناس بالدولة. هم ومن يحمونهم في الداخل من طوائف وأكباشها، وأحزاب دينية وفسادها الذي تعتنقه وتدعي محاربته، والايديولوجيا السائدة، ومقاومة تدعي الممانعة، ومثقفو السلطة، ومروجو أفكار وتعليمات أربابها، ومهرجو التحليل السياسي الذين يحتلون الشاشات وبقية وسائل الاعلام، الخ.. هم أختان الخارج. انحيازهم للامبراطورية العظمى والامبراطوريات العظيمى مستبطن. انحيازهم للامبراطورية الرثة في إيران هو المعلن. محادثات فيينا بين العظمى وغير العظمى مع العظيمى تشبه مؤتمر برلين في سبعينيات القرن الثامن عشر. المتفاوضون حينذاك لم يكونوا حلفاء بل أخصاماً. الفرق أن مؤتمر برلين كان موضوعه العالم برمته. مفاوضات فيينا موضوعها المركزي المنطقة العربية وامتدادات الدين الإسلامي في العالم. تقسيم المنطقة العربية، بالأحرى مناطق النفوذ فيها، يعود الى الاعتبار. أحلام الامبراطوريات العظيمى وأوهامها ترمي العودة الى الوراء. تدوير دولاب الدهر باتجاه قرون مضت. يصعب تغيير الحدود. الاعتماد الآن على تخريب ما داخل الحدود، في داخل كل بلد عربي. كل قطر عربي أقر بوستفالية العربية التي شكلها وفرضها الغرب في جامعة الدول العربية. الصراع الآن بين الناس والمنظومة الحاكمة عربياً. الصراع على الحدود بين الأقطار العربية نادر الحدوث. إذا حدث يكون لأسباب غير جغرافية. مساحة كل بلد عربي ثابتة تقريباً. النزاعات العربية-العربية ايديولوجية في الغالب. ايديولوجية في خدمة أهداف سياسية. الأهداف السياسية ليست بالضرورة ما يرسمه الحكام بل ما يُرسم للحكام. أنظمة تخاف شعوبها، فتستعين عليها بالخارج أو تستخدم الدين في الخلاف والاختلاف أي اصطناع الخلاف.

إذا حدثت ثورة في بلد عربي، وقد حدثت كما في 2011 في كل البلدان العربية تقريبا، ليس العيب في عدم استمرارها بل العظمة في حدوثها. استمرار الثورة مشبوه. تستمر الثورة حين يحوّلها الحكام الى حرب أهلية. ما كان إدخال العنف في ثورات 2011 إلا على يد الأنظمة العربية. تستعين بأهل الدين ومؤسساتهم على ذلك. الثورة حدث أشبه بالزلزال. تُزعّم الثورة الإسلامية في إيران لأسباب لا تتعلّق بالثورة بل بالحكم بعد الثورة. هي أشبه بالأنظمة العربية التي جاءت بعد “ثورات” التحرر الوطني. استبداد مقنّع بالدين والدعوة؛ وتلك استبداد مقنّع بالاشتراكية ومزاعم التقدم وطمس المطالب التي تأسست عليها. تتحالف الأنظمة “الثورية” فيما بينها. واحدة إسلامية وثانية علمانية كما تدعي. على كل حال لم تعد العلمانية تتعلّق بالعلاقة بين الدولة والدين، بل بعلاقة نظام الاستبداد بشعبه. كما الدين لم يعد يتعلّق بالإيمان بل بالعلاقة بين حكم نظام الثورة وشعبه. الدين لديهم أداة أو سلعة. في الحالتين تطغى العلاقة بخارج ما على مطالب الناس وحاجاتهم.

(*) غداً الجزء الثاني والأخير

Print Friendly, PDF & Email
الفضل شلق

مثقف وكاتب لبناني

Premium WordPress Themes Download
Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  الكتابة في أيام الغيوم مشقة