مع ألبير كامو وصاحبة الجلالة
لا يكفي أن نقول أن فلاناً صحافيٌ، لكن حين نقول نصري الصايغ سنقول إنه صحافي لامع، لغته سلسة وجريئة في الآن. إنه يقتنص الخبر ليصنع منه مادة مؤثّرة ومقنعة ومحرّضة وفاعلة، أليس شيخ الثوريين الأوائل هو القائل إن الصحافة هي محرضة ومنظمة وهي وسيلة تغيير في آن؟
لكن نصري الصايغ ينطلق من الأرضية ذاتها التي وقف عليها ألبير كامو حين اعتبر أن الصحافي مؤرّخ اللحظة. إنه يشكّل المادة الأولى للتاريخ وللتدوين وللرواية وللسوسيولوجيا والسايكولوجيا وللقانون وللتربية وللدين وللأخلاق.. إنه الحدث الذي ينقله الصحافي إلى الناس ليفعل فعله حسب وعيهم وحريتهم ودرجة تطوّرهم وطبيعة النظام السياسي.
وهكذا يتفاعل التاريخ ويزدحم بأحداثه وروايته واستخلاصاته، ولكلّ تاريخ فلسفة، بل لكلّ علم فلسفة، ونصري الصايغ صاحب فلسفة، والفلسفة والتاريخ هما عدّة الصحافي اللّامع، اللّماح، الطليعي، ومدخله إلى العلوم الأخرى والمجالات والحقول المختلفة.
هكذا تعامل نصري الصايغ مع صاحبة الجلالة “السلطة الرابعة“، تعامل معها من داخلها ومن خارجها، أثّر فيها مثلما أثّرت فيه، وشاطرها الهوى بالهوى في علاقة حميمة، حتى وإن عشق أجناساً أخرى، لكنّ عشقه للصحافة ظلّ رابطاً بينه وبين الأشياء، صغيرها وكبيرها، إنه يخضعه لمنظومة خاصة يوليها عناية كبيرة، يسقيها من روحه ويبثّها همومه ويسهر عليها كي تنمو شجرتها وتكبر.
في كتابة نصري الصايغ هناك لغة تحرير، إنها تحرير للروح، والأدب هو محرّر الروح وهو نقيض الكراهية، إنه طافح بالمحبة بقدر ما هو ممتلئ بالإباء، وهو فعل مقاومة وإن اختار القلم والكلمة والحرف وسائل سلمية ولاعنفيّة للمواجهة، وحياة نصري كلّها حروف وكلمات
الكتاب وطن
أما الكتابة فهي حقله الآخر، خصوصاً ونحن نتعامل مع الحروف والورق والأقلام وننتمي إلى عالم الكتب، والكتاب وطن أيضاً فما بالك حين نتعامل معه بأسلوب باذخ وبرقّة وحنان ومثلما نحتويه يحتوينا، نلملم بعضنا على بعضنا، حتى نكون شيئاً واحداً، فهو منّا مثلما نحن منه، يخلقنا ونخلقه وحسب محمود درويش “فبعضي لديّ وبعضي لديك.. وبعضي مُشتاق لبعضي.. فهلّا أتيت؟” إنه “عمر أكلته الحروف” وفقاً لنجيب المانع، وهو عنوان مذكّراته غير التقليدية.
الكلمة ميزان لدى نصري الصايغ. إنه يحيكها ويرسمها ويلوّنها ويهندسها ويبنيها ويعتني بها، وكلّ كلمة له لديها معنى، لا يلقي كلمة جزافاً، ومن نثره تعرفه وتتلمّس ملامحه، لغته متماسكة وجريئة وواثقة، ولا كتابة حقيقية دون جرأة ووثوق وتماسك، وسبق لي أن قلت: أن أية كتابة لا تخلخل ما هو سائد ليست بكتابة، ولا تجربة حقيقية دون نقد، فالإنسان هو ما يفعل.. وبالتالي ما يراجع وما يغيّر ويتغيّر وكلّ شيء نسبي وهذا هو المطلق الوحيد مثل الموت.
داهم نصري عالم الكتب وديّاً فأسره وتآخى معه، لثماً وشمّاً وإحساساً، عاش فيه وله وأخرج دزينات منه ولم يزل في شبابه، بل في فتوّته يتهجّى الحروف ويسير إثر النقطة والخط المستقيم، وحسب الحلاّج: النقطة أصل كل خط، والخطّ كلّه نقط مجتمعة فلا غنى للخطّ عن النقطة، ولا للنقطة عن الخط. وكل خطّ مستقيم أو منحرف هو متحرّك عن النقطة بعينها، وكل ما يقع عليه بصر أحد فهو نقطة بين نقطتين، وهذا دليل على تجلّي الحق من كل ما يُشاهد وترائيه عن كل ما يُعاين.
وبقدر ما اقتحم عالم الكتب، فقد وجد فيه لذّة ومتعة وفائدة، وعلى الرغم من الانحطاط العربي، فقد ظلّ يبشّر بوعي عربي جديد ينتظر ولادته.. ربما في نثر نصري الصايغ أكثر من جواب على نقد رداءة النثر العربي التي تنتقل بالعدوى مثل الغباء على حدّ تعبير الشاعر سعدي يوسف، لأنه نثر يخلو من لغة ومن فلسفة ومن رؤية، وهذا ما يؤرّق نصري لأنه مفكّر رؤيوي ونثره أداة توصيلية وصلة حميمية بينه وبين جمهوره، ويأسف لما هو سائد من لهاث ولغو وألفاظ هاربة وامتناعات أدائية وتشاعرية على حدّ قول طه حسين.
المعجون بالعروبة ولبنان
في كتابة نصري الصايغ هناك لغة تحرير، إنها تحرير للروح، والأدب هو محرّر الروح وهو نقيض الكراهية، إنه طافح بالمحبة بقدر ما هو ممتلئ بالإباء، وهو فعل مقاومة وإن اختار القلم والكلمة والحرف وسائل سلمية ولاعنفيّة للمواجهة، وحياة نصري كلّها حروف وكلمات، ولكلّ كلمة وزن وثقل وجسم وحركة وروح وامتداد، وفي كلماته غنىً وامتلاءً وتحققاً ودلالةً.
نصري لا يحب الاعتيادية والروتينية والمحافظة، كلماته تمرّدية نقدية استشرافية، ومثلما فيها عقلانية ملغّمة باللّامرئي من الأشياء، لأنه لا يحصر نفسه بأسوار أو سقوف واطئة أو نسق معيّن. إن عالمه مفتوح متناسق حيث يتجاور الأضداد أحياناً، لكنه منضبط وعلى دراية بما يريد الوصول إليه، إنه مقتحم توكيدي، لكنه ليس على طريقة محمود عباس العقاد.. إنه يشرك القارئ بالنص ويجعله يتفاعل معه كصديق أثير ليشكّل قناعات مشتركة وجديدة، والأساس في كلّ ذلك الإخلاص للنفس والصدق مع المتلقّي والسعي للتنوير، وتلك صفات أساسية للكاتب الناجح مع الموهبة الضرورية والثقافة الموسوعية.
لعلّ نصري مثل الموسيقار شوبان الذي كان يقول “القلب في باريس والعقل في وارسو“، لأنه ظلّ مفتوناً بالحب وليس أكثر من باريس تلك الصبية المغناج التي لا يروي القلب إلّا مثلها.. هكذا ظلّ نصري معجوناً بالعروبة ولبنان في مزيج غريب بحيث يجعلهما شيئاً واحداً، بكلّ ما فيه من لوعة وعذاب وأمل، وهو يدرك بهذه الصورة أن النهر لا يصبح عريضاً واسعاً إلّا فيما يصبّ فيه من أنهار صغيرة وسواقٍ وجداول وشلالات وممرات مائية، هكذا ينظر إلى لبنان.
نصري وربما بعض جيلنا يدعو إلى تجويد الكتابة. هي وعي مرهف ودقيق، مثلما التغزّل باللغة العربية بما فيها من شحنات كهربائية وتفاعلات كيمياوية وجمال ودلالة ومعان وتنوّع بعيداً عن الإنشاء والزخرفات والاعتباطية والشكلانية والتفخيم، والكاتب المبدع يمسك بالجملة ويشحنها بطاقات تعبيرية ويموسقها في فضاء من الرغبة، فمن غير النثر لا يمكن أن تتقدّم اللغة والحياة، وفي النثر أفكار قبل أن تكون مواقف، والأفكار تتجاوز العقائد والأيديولوجيات، لأنها مفتوحة وقابلة للإضافة والحذف والتغيير والتطوير، في حين أن العقائد مغلقة إلغائية إقصائية ساكنة وراكدة.
الكتابة روح وعقل
هناك كتابة بلا روح وأخرى بلا طعم وثالثة بلا إشراق ورابعة خالية من الإحساس وخامسة تكاتبية متكلّفة، في حين أن كتابة نصري الصايغ تشبه قطعة موسيقية يصعب اقتطاع جزء منها أو إهماله.. إنها مثل سبيكة ذهبية كلّ شيء فيها مفيد وفي مكانه، وحتى إن اختلفتَ مع ما يكتب لكنّك لا تستطيع إلّا أن تحترم ما يقول، فهو يكتب من وحي روحه وإن أخطأ، فذلك ليس سوى اجتهاداً وقد يكون ضمن معطياته وابن لحظته، وسيعود أحياناً إلى تصحيحه مخلصاً لحروفه الجميلة وكلماته الأنيقة ولغته الرشيقة، مشتبكاً بحوار لا ينقطع مع نفسه ومع الآخر.
ثمة إسلام داعش والقاعدة وجبهة النصرة (جبهة فتح الشام) وأخواتهم، وثمة إسلام الإسلامويين بمختلف مدارسهم الذين حوّلوا تعاليم السماء السمحاء إلى إسلامولوجيا أي “إسلام ضدّ الإسلام” مثلما حوّل الغرب الإسلام إلى إسلاموفوبيا أي “الرهاب من الإسلام”
إنه من القلّة التي تتّخذ من الكتابة “فنّاً” ويذكّرني ذلك برولان بارت الذي كتب عن “الكتابة في درجة الصفر” العام 1953 ويعني بذلك الكتابة البيضاء، لما فيها من إتقان ومفاجأة وجدّة وعمق وفكر وشعور وتاريخ وفلسفة وآراء، فما الذي علّمه بوذا؟ يقتبس نصري ذلك وكأنه دليل عمل له في كتابه الموسوم “محمد – السيرة السياسية“، “.. عندما تدرك بوسائلك الخاصة فقط أن بعض الأشياء فاسدة وخاطئة وشريرة، فاهجرها فوراً.. وعندما تدرك بوسائلك الخاصة فقط أو بذاتك فقط، أن بعض الأشياء هي سليمة وطيّبة فاتبعها فوراً وبلا تردّد”، أي أعمل العقل، والعقل هو الهبة الربانية التي منحها الخالق للإنسان، يقول أبو العلاء المعرّي:
أيها الغرّ إن خصصت بعقل/ فاتبعه فكلّ عقل نبي
فشاور العقل واترك غيره هدراً/ فالعقل خير مشيرٍ ضمّه النادي.
محمد بين السياسة والدين
وكتاب نصري الصايغ عن محمد هو كتاب في السياسة وليس في الدين، والكتاب يُقرأ من عنوانه، ويُشخّص فيه عدداً من تلك القضايا الأساسية:
أولها؛ الفصل بين النبوّة والسياسة ثم الوصل بينهما.
ثانيها؛ سياسة محمد كقائد لا تشبه سيرة محمد كنبيّ.
ثالثها؛ في النبوّة عقيدة وفي السياسة اختيار واختبار.
رابعها؛ سياسة محمد المدينية تختلف عن سيرته النبوية المكيّة.
آخذاً بالاعتبار الممارسات النسبية كما يقول الواقع والمواقع والوقائع، ففي مكّة كان محمد نبياً أما في المدينة فهو نبي وقائد، أي رجل دولة يهدف إلى بناء مشروع سياسي يطلق الديني دون أن يهمل التعامل مع الوقائع، تصدر أحكامه في كل حالة على حدة لما فيها من أفعال واحتمالات وقرارات ومبادرات.. ومن أجل ذلك كانت الهجرة وتغيّر الخطاب، وقد وظّف محمد السياسة في خدمة الدين، وليس العكس.
السياسة فعل خير حسب أرسطو وهي وفقاً لابن خلدون “صناعة الخير العام”، وهي “أمانة وتفويض”. وهي فن الممكن وصراع واتفاق مصالح حسب لينين، وبهذا المعنى فهي ليست خطاً مستقيماً بين نقطتين، إنها متعرّجة ومتلوّنة وتفترض المناورة والتقدّم والتراجع وتعديلاً للخطط وتبديلاً للخطاب، وهو ما يقوله نصري.
وهكذا تعامل محمد مع اليهود في المدينة، سواءً في دستورها (صحيفة المدينة) أو في الواقع العملي أو بعد انقلابهم، فنالوا ما نالوه من استخدام العنف، وهو الأمر الذي شمل مكّة قبل الفتح ولكن بعد استسلامها تعامل معها بالتسامح، فمن دخل بيت أبو سفيان فهو آمن، وخاطب الأسرى: اذهبوا فأنتم الطلقاء.. وتلك هي ضرورات السياسة التي تبيح أحياناً محظورات الدين.
مثل جورج جرداق
وبقدر ما أثّر فيّ كتاب جورج جرداق “الإمام علي وصوت العدالة الإنسانية” بأجزائه الخمسة: “علي وحقوق الإنسان” و”علي والثورة الفرنسية” و”علي وسقراط” و”علي وعصره” و”علي والقومية العربية” والذي أضاف إليه “روائع نهج البلاغة“، فإن كتاب محمد هو الآخر ترك لدي انطباعاً ربما لا يقلّ عن كتاب جرداق.
إنه كتاب تأسيسي، لا ينبغي قراءته لمرّة واحدة، بل يحتاج إلى قراءات متعدّدة. إنه مثل موسيقى بيتهوفن والسمفونية التاسعة الناقصة تحديداً يحتاج المرء أن يستمع إليها عشرات المرات لكي يمتلكها لما فيها من حركة وتعدّد أصوات، والموسيقى تدخل إلى القلب قبل العقل، وهذا الكتاب دخل إلى قلبي وعقلي في وقت واحد وضمن هارموني. وأحتاج إلى استعادته أكثر من مرّة لأتحدّث عنه بالتفصيل، مثلما لا يمكن الوقوف عند شعر الجواهري، وخصوصاً الجزء العبقري منه دون إعادة القراءة مرّات ومرّات.. مثل المتنبي والمعرّي لأنها مليئة بالإشارات والدلالات حتى لتشعر أن حرارة جسمك بدأت تتغيّر، انك تكاد تهتف أو يصحبك إحساس بالإنجاز.
محمد مبدع وعبقري وسيرته غنيّة ومختلفة، حسب مقدمة نصري الصايغ، لماذا؟ يجيب نصري: أنها بنت التجربة والتاريخ في زمانه وأمكنته، وهي سيرة غير قابلة للتقليد أو للتكرار أو للنسخ، وهي خاضعة لعصره لأن ما كان جائزاً في ذلك الزمان لم يعد جائزاً اليوم.. فلكلّ عصر سياسته، وتلك حكمة على الجميع أن يأخذوا بها والإسلاميون قبل غيرهم مع أن النص القرآني يحافظ على مكانته وقدسيته، حتى لو أخضع لأسباب النزول، وهو ما ينطبق على الفلسفات والأديان الأخرى، ويبقى النص واحداً والتفسيرات والتأويلات والقراءات متعدّدة.
يضع نصري “العقل قبل النقل” تساوقاً مع المعتزلة ولا يجد حرجاً في ذلك، فكلّ نقل بحاجة إلى عقل حسب رأيه، والعقل مختلف لدى المسلمين وغيرهم، ولهذا فالخلاف وارد، ويريد الوصول من ذلك إلى تأكيد محنة الإسلام وصورته غير النقية اليوم ووجهه المكفهر الراهن وإلصاق صفة العنف والرعب به، ويستدرك بقوله: “إنه ليس إسلام النص، بل إسلام الناس، لا هو إسلام السيرة، بل إسلام مجموعات، قررت أن يكون إسلامها مطابقاً لإسلام السلف، وضحايا هذا الإسلام هو الإسلام نفسه والمسلمون”.
نعم ثمة إسلام داعش والقاعدة وجبهة النصرة (جبهة فتح الشام) وأخواتهم، وثمة إسلام الإسلامويين بمختلف مدارسهم الذين حوّلوا تعاليم السماء السمحاء إلى إسلامولوجيا أي “إسلام ضدّ الإسلام” مثلما حوّل الغرب الإسلام إلى إسلاموفوبيا أي “الرهاب من الإسلام“.
كتاب محمد حسب نصري الصايغ: محاولة لإلقاء الضوء على بشرية الرسول وقيادته من دون المساس برتبته النبوية.
(*) كلمة ألقيت في ندوة تكريم نصري الصايغ في صالون 15 نوال الحوار الثقافي.