إيران والقرارات المصيريّة.. “الصَّباح خيرٌ من المِصباح” (2)

بدأنا في الجزء الأوّل برسم المعالم الجوهريّة والنّموذجيّة والمميِّزة لما سمّيناه: "العقل الجيوسياسي الإيراني". وقد بدأنا بسِمَتَين مهمَّتين وأساسيَّتين جدّاً برأينا وهما: أولاً؛ السّمة المتعلّقة بمقاربة مسألة الزّمن (إذا صحّ التّعبير)، وضمنها أبواب التّروّي والجلَد والتّحمّل والصّبر وما إلى ذلك؛ وثانياً؛ السّمة المتعلّقة بما سمّيناها "المدرسة الإيرانيّة في العقلانيّة-الواقعيّة".

فيما يلي، نعرض لسمَتَين مهمّتَين أيضاً برأينا، قبل أن نفتحَ النّقاش على مِصراعيه مع قارئنا العزيز: حول تقييم سمات النّموذج-المثالي قيد البناء من جهة، وحول نقد هذا النّموذج-المثالي من خلال مقابلته مع الواقع، لا سيّما في سياق أحداث ما بعد “طوفان الأقصى” – كمثال تطبيقي – من جهة ثانية.

سمة ثالثة: الصّباح خيرٌ من المِصباح!

نغمزُ هنا طبعاً، بشكل خاص، من باب: الفلسفة الصّوفيّة-العرفانيّة، والفلسفة الإشراقيّة، وفلسفة الحكمة المتعالية وشيخها الأكبر “صدر المتألّهين” ملّا صدرا الشّيرازي (ت. صوب ١٦٤٠ م)، وهي مدارس لها جميعها علاقة حميمة جدّاً مع الثّقافة الإيرانيّة بطبيعة الحال (وقد تطرّقنا إلى ذلك في مقالاتٍ سابقة).

مع التبسيط المنهجي المقصود: “المِصباح” هنا هو الحواس والإدراك الذّهني (أو العقل المفكّر – Le Mental ou l’Entendement كلاسيكيّاً). أمّا “الصَّباح” فهو يرمز بدوره إلى: الحدْس الرّوحي (أو العقل الأعلى، أو الوعي المتعالي، أو الوعي الكَشْفي.. إلى ما هنالك من تسميات ومصطلحات ممكنة). حسب هذه النّظرة النّموذجيّة جدّاً فيما يخصّ الثّقافة الإيرانيّة (والصّوفيّة-العرفانيّة) بشكل عام: فمع أهمّيّة “الحقائق” (مع التّشديد على المزدَوجين) التي يُمكن أن تُدرك بالحواس وبالذّهن.. غير أنّ من يكتفي بها – برغمَ عدم اكتمالها و”محجوبيّتها” النّسبيّة الكبيرة – مَثَلُه كمَثَلِ من يكتفي بما يُظهر له المِصباح ليلاً، بدلاً من انتظار الصّباح!

هل من الحكمة الاكتفاء بالبِناء: على ما يُظهرهُ لنا المصباح؟ أم الأولى والأجدى والأذكى والأكثر حكمةً هو انتظار ظهور الصّباح؟

لكن، كيف يظهر هذا “الصّباح” من زوايا الوعي والإدراك والمعرفة؟

رأينا في السّابق من مطالعاتنا ومقالاتنا وكتاباتنا: أنّ شمس الصّباح ذاك لا تطلعُ إلّا على قلبٍ صافٍ ونقيّ.. عملَ صاحبُهُ مُجاهدةً على تزكية نفسه حتّى تُزال الحُجُب عنها: الحجاب الواحد تلو الآخر.

وعندها، فقط، و”بإذنٍ” ممّن لا إذنَ لغيره: تُشرق الحقيقة الكاملة أمام عين القلب، ويظهر الواقع الحقيقي أمام الإدراك الحقيقي، فيرى الإنسانُ “المُكاشَفُ” و”المُشاهِدُ” الأشياءَ والموجوداتِ بما هِي هِي، لا بما هي بالنّسبة إلى حواسّه وذهنه فقط (أو “بما هيَ لِذاته”: على حدّ تعبير كانط والكانطيّين).

وحتّى نفهم طريقة عمل “العقل الجيوسياسي الإيراني” قيد الدّرس (و”العقل الإيراني” بشكل أعمّ وبطبيعة الحال)، علينا برأيي ألّا نتردّد في إبراز أهميّة هذه السّمة التي يُمكن تسميتها – مع التّبسيط المقصود – بالسّمة الرّوحيّة العميقة (جدّاً) لهذا العقل الإيراني. من غير المبالغ فيه الادّعاء بأنّ هذا الأخير يُعطي جوانب المَلَكوت، والباطن، والإشراق الرّوحي، والوعي الحدْسي المتعالي (إلخ.): أهميّة جدّيّة وكبيرة، في عمليّة اتّخاذ القرارات الكبرى (وبعض القرارات اليوميّة.. وأقولها على مسؤوليّتي الفكريّة الخاصّة)!.

لا يُمكن لهذا العقل، برأيي، أن يتّخذَ قرارات مصيريّة كبرى – روحيّاً ومادّيّاً – من غير “إذن” وجودي “ما” (حسب فهمه). والوجود يُظهر “الإذن” ذاك على القلب: ليس فقط من خلال الرُّؤى الميسطيقيّة (أي الصّوفيّة)، والمنامات، والكرامات الظّاهرة في عالم المادّة وما إلى ذلك. وإنّما يُظهره أيضاً، لا سيّما على المستوى الجيوسياسي قيد البحث والنّقاش: من خلال توفّر الظّروف، وتجلّي الفُرص، وفتح بعض الطُّرُق، وتسهيل اتّخاذ بعض القرارات (أو عكس ذلك) إلى آخر القائمة.

الإنسان المُقرِّرُ (أو المتّخذُ للقرارات) ضمن هذا العقل هو في تفاعلٍ دائم: بين العوامل الواقعيّة الخارجيّة (“الظّاهريّة” إن شئت)، وبين العمليّة الذّهنيّة المنطقيّة والعقلانيّة.. وبين عوامل السّلوك الرّوحي وتزكية النّفس والصّبر.. في انتظار “ظهور الإذن” الذي يقذفُه الوجود إذْ يقذفُهُ: قذفاً في قلوب الذين آمنوا وعلى ربّهم يتوكّلون، بلا مجالٍ للشّك أو لعدم اليَقين.

وبعد ذَلكمْ: لا مكان للخرص إذن، ولا للتّخمين ولا للظّن. وإنّما الكلمة حينهاْ لنصرٍ من اللهِ ورضوانٍ وفتحٍ مُبين.

أو على طريقة بيانات “المقاومة الإسلاميّة في لبنان” مؤخّراً (وبشكل معبّر ومهمّ جدّاً في هذا السّياق):

  • فالمُقدّمة أنْ: “أُذِن للّذين يُقاتَلون بأنّهم ظُلموا..”؛
  • الخاتمة أنْ: “وما النّصرُ إلّا من عند الله العزيز الحكيم”.

(هل النّصر – في باطنه – هو، حسب هذه النّظرة: من عند الوقائع الخارجيّة، ومن عند الحدس الحسّي، ومن عند التّفكّر والظّنّ؟ فلنتأمّلْ جيّداً في الحكمة من وراء استعمال بعض العبارات والآيات القرآنيّة المباركة في سياق جدّيّ كهذا السّياق “الطّوفاني” المُبين.. والله أعلم).

سمة رابعة: مبدئيّة صلْبة في قضايا أساسيّة

من الخطأ، برأيي، إغفال هذا البُعد أو عدم إعطائه الأهمّيّة الكافية كما يفعل البعض عادةً. العقل الجيو-سياسي لـ”الجمهوريّة الإسلاميّة في إيران” تحديداً، له سمةٌ مهمّة وأساسيّة أخرى في تقديري: الموقف المبدئي الثّابت والصّلب من قضايا محوريّة معيّنة. على مستوى العالم والإقليم، قد يكون أكثرها أهميّة برأيي:

إقرأ على موقع 180  الحرب الإدراكية.. أسلوب جديد في القتال

الوقوف في وجه الإمبرياليّات العالميّة المستضعِفة للشّعوب وللجماعات وللدّول وللثّقافات الأخرى، وبالذّات لشعوب وجماعات ودول وثقافات ما يُسمّى بالعالم الثّالث عادةً؛

  • الموقف السّلبي عموماً من الرّأسماليّة اللّيبراليّة الأمريكيّة الحاليّة، والمهيمنة راهناً على الغرب في أعمّه الأغلب؛
  • الإيمان بالنّموذج الدّيني – لا سيّما منه الإسلامي – للفرد وللمجتمع وللدّولة والتّرويج له؛
  • الانطلاق من أهمّيّة – بل وأولويّة – تحرير شعوب ودول المنطقة من الاستعمارَين القديم والجديد (وهما حاليّاً وتحديداً: تحت قيادة السّياسة الأمريكيّة وأدواتها وحلفائها في المنطقة)؛
  • الإيمان (في نفس السّياق) بأنّ القضيّة الفلسطينيّة هي قضيّة المسلمين – ومختلف شعوب المنطقة – المركزيّة؛ وبأنّ تواجد “إسرائيل” هو عامل أساسي وجوهري من العوامل المسبّبة لتخلّف هذه المنطقة، وتشظّيها، وعدم استقرارها.

مجدّداً: من الخطأ الفادح اغفال هذه السّمة الجوهريّة في سبيل فهم هذا العقل قيد الدّرس، لا سيّما بحجّة أنّ هذا الأخير لطالما يذهب في الاتّجاه العقلاني-الواقعي أو “البراغماتي المتطرّف” (على حدّ تعبير البعض). نعم، كما رأينا، لا ينبغي اغفال هذه الجوانب الأخيرة وغيرها جميعاً: ولكن من الخطأ الجسيم أيضاً، برأيي، الاعتقاد بعدم وجود بُعدٍ عقائدي ومبدئي واضحٍ وصلبٍ ومتين.. يؤثّر على آليّة اتّخاذ القرار من قبل هذا “العقل الإيراني”.

إنّها مسألة مهمّة جدّاً علينا التّنبّه لها جيّداً في نظري.

***

أعتقدُ أنّ السّمات الجوهريّة الأربع السّالفة الذّكر هي الأكثر أهميّة وأساسيّة فيما يخصّ محاولة فهم هذا “العقل الجيوسياسي الإيراني”، وخصوصاً: من زاوية الأبعاد والطّرق – المُتعالية إن شئت – التي يعتمدها أو يستند إليها أو يتأثّر بها.. في سبيل اتّخاذ قراراته الكبرى تحديداً.

قد يُضيف البعضُ مثلاً: سمة متعلّقة بمحوريّة الشّأن القومي الإيراني أو الفارسي. وقد يُضيف بعضهم أيضاً سمة متعلّقة بمحوريّة الثّقة العالية نسبيّاً في التّعامل مع الحلفاء الإقليميّين. قد تكون هاتان الإضافتان وغيرهما من السمات المهمّة جدّاً، ولكنّها، جميعها، لا ترقى إلى جوهريّة ونموذجيّة وتميّز السّمات الأربع السّابقة (تذكّر معي فلسفة “النّموذج-المثالي” المعتمدة في دراستنا).

ولكنّني أدعو القارئ العزيز، بالطّبع، إلى نقد – بل ونقض – سمات النّموذج-المثالي ذاك.. وإضافة ما يعتبره من الأنسب والأصحّ، لعلّنا نتقدّم سويّاً في محاولة “التّأويل الفَهمي” هذه.

في ما سيلي (الجزء الثالث من هذه المقالة يوم السبت المقبل)، سنحاولُ مقابلة ومقارنة المفهوم الذي بنيناه.. مع الواقع المتجلّي من خلال أحداث “الطّوفان الفلسطيني” وأحداث “طوفان الطّوفان الإقليمي” الرّاهنة (على سبيل المثال لا الحصر بالتّأكيد).

(*) راجع الجزء الأول: “العقل الهادىء”.. سلاح إيران الإستراتيجي

Print Friendly, PDF & Email
مالك أبو حمدان

خبير ومدير مالي، باحث في الدراسات الإسلامية، لبنان

Premium WordPress Themes Download
Download Nulled WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  عندما تفضح فلسطين عجزنا.. وبلادتنا!