في تونس.. السلطة المِقصَلة تتهدد المجتمع المدني

شدّد رجل الأمن في مطار قرطاج الدولي على وجوب “ملء الاستمارة كاملةً لأنّ الإدارة تحبّ التفاصيل”. العديد من إدارات الدولة التونسية تستعيد بأسَها شيئاً فشيئاً برغم الترهّل الواضح وسريان قانون الاستثناء منذ 25 تموز/ يوليو، وكذلك اهتمام رئيس الجمهوريّة قيس سعيّد بإعادة توزيع السلطة بعيداً عن دستور 2014. وهذا ما انعكس بصورة واضحة في نص سُرّب إلى الإعلام المحلي نهاية العام الماضي، يدور حول تعديلات من المتوقع إدراجها في قانون جمعيات المجتمع المدني، ما يطال بصورة مباشرة تلك التي اهتمت بمسار الانتقال الديموقراطي على وجه الخصوص.

يُعرّف المرسوم 88 للعام 2011 الجمعية بكونها “اتفاقية بين شخصين أو أكثر يعملون بمقتضاها وبصفة دائمة على تحقيق أهداف باستثناء تحقيق أرباح”، ويشدّد في فصله الأول على أنّه يهدف إلى ضمان “حرية تأسيس الجمعيات والانضمام إليها والنشاط في إطارها وإلى تدعيم دور منظمات المجتمع المدني وتطويرها والحفاظ على استقلاليتها”.
وقد شهدت الفترة الممتدة من 2011 إلى 2020 إنشاء أكثر من 13 ألف جمعية جديدة، وكانت الذروة بين سنتي 2011 و2012 حسب محكمة المحاسبات التي توضح في تقرير صدر في كانون الأول/ ديسمبر الفائت أنّ العدد الإجمالي ارتفع بتاريخ 10 آذار/ مارس 2020 إلى 23320 جمعية.
إلا أنّ مدير برنامج مركز الكواكبي للتحوّلات الديمقراطية أمين غالي، يقول على هامش ندوة عقدتها جمعيات في تونس العاصمة بغرض التباحث في كيفية “التصدّي” للتعديلات، إنّ المطروح “إعطاء السلطة للإدارة العامة للجمعيات في تقرير مصير الجمعيات”، موضحاً أنّ تلك الإدارة بنظر أطياف فاعلة ضمن المجتمع المدني “غير مجدية وإمكاناتها ضعيفة”.
وفضلاً عن كون نص التعديلات المتداول يتضمن صياغات حمّالة أوجه مثل منع الجمعيات من “تهديد وحدة الدولة أو نظامها الجمهوري والديموقراطي”، فقد يكون جائزاً توزيعه بين ثلاث ركائز. فهو أولاً، وفق المنظمة الدولية غير الحكومية: الفدرالية الدولية لحقوق الإنسان، يشترط إنشاء جمعية بتدخل من الإدارة المكلّفة بالجمعيات برئاسة الحكومة، مما يقوّض حرية تكوين الجمعيات التي يتم تشكيلها وفق القانون الحالي بمجرّد “إرسال إعلان التأسيس إلى الكتابة العامة للحكومة”. ورأت الناشطة التونسيّة يسرى فراوس على هامش منحها جائزة “انا كلاين” لعام 2022 كأول امرأة في إفريقيا والشرق الأوسط تفوز بها، إنّ التعديلات تشكّل “عودة إلى الترخيص”. ثانياً، هو يمنح تلك الإدارة صلاحية حلّ جمعيات دون القدرة على الطعن بالقرار إلى جانب رفض تشكيل أخرى فيما الأمر محصور حالياً بالجمعيات الدولية الراغبة بالنشاط بالدولة التونسية. وثالثاً، يُدرِج مشروع المرسوم مراقبة التمويل الأجنبي للجمعيات بصورة تمنع عليها “قبول مساعدات أو هبات أو تبرعات أجنبية غير مرخصة من اللجنة التونسية للتحاليل المالية” التي تأسست في عام 2015 بموجب قانون مكافحة الإرهاب ومنع غسيل الأموال، ولكنّ إصدار الترخيص لا يخضع لأي حد زمني.

شكّل المرسوم 88 (2011) أرضاً خصبة لانفجار عددي ونوعي للجمعيات، فصارت تشمل قالباً “إسلامياً خيرياً” وآخر نشأ من صلب الحياة الديموقراطية والنضالية وحدّد أهدافه بمسائل على غرار مراقبة الانتخابات ومكافحة الفساد والتوعية المواطنية والرقابة البرلمانية والجمعيات الحقوقية

أزمة التمويل الخارجي
أخذ مشروع المرسوم الجديد مساره ضمن هيئات الحكومة لإبداء الرأي والاستشارة كما يقول ناشطون، “وثمة تخوّف من المصادقة عليه في أيّ جلسة مقبلة لمجلس الوزراء”. وبرغم أنّ الرئيس التونسي بدا مهتماً خلال اجتماع الحكومة في 24 شباط/فبراير الماضي، بحصر المسألة بـ”ضرورة مراقبة تمويل الجمعيات” دون تأكيد صحّة التسريبات ودون تناول بقية الأسئلة الإشكالية والملّحة التي فرضها النص، فإنّه قال بلهجته الشديدة: “لن نسمح بأن تأتي الأموال للجمعيات للعبث بالدولة التونسية أو القيام بحملات انتخابية”.
ثمة خشية دائمة لدى أجهزة الدولة التونسية من مسألة التمويل الأجنبي والعمل القاعديّ لجمعيّات لفائدة جهات سياسية، خاصة أنّ هذا الأمر كان قد فسح المجال في انتخابات ما بعد الثورة أمام تمويل مقنّع للأحزاب السياسية من خلال بعض الجمعيات، طبقاً لـ”التقرير الرقابي” لمحكمة المحاسبات حول تمويل الانتخابات الرئاسية والتشريعية في 2019.
تقرير آخر حول “تمويل الجمعيات في إطار التعاون الدولي” صدر نهاية العام الماضي عن نفس المحكمة، عكَسَ الوجه الأوضح لتلك المخاوف، وقد خلص إلى أنّ الأعمال الرقابية “أفضت إلى الوقوف على عدم شمولية المعطيات والبيانات التي تمكّن من تحديد حجم التمويلات الأجنبية التي استفادت بها الجمعيات في إطار التعاون الدولي، ومحدودية الآليات القانونية المتوفرة للتأكد من التزام الجمعيات بمقتضيات الشفافية”.
ومن بين النقاط التي أثارها، عدم كفاية البيانات لدى البنك المركزي التونسي حول “التمويلات”، في إشارة إلى عجزه عن إجراء مراقبة تامّة. وقال التقرير: “يستدعي عدم توفر معطيات دقيقة وشاملة حول حجم التمويلات الأجنبية للجمعيات وضع إطار يلزم جميع الأطراف المتدخلة في المجال للتنسيق فيما بينها”.
بيد أنّ المدير التنفيذي للمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية علاء الطالبي ينفي أن تكون “الإدارة التونسية تخشى التمويل الخارجي” بحدّ ذاته، ولكنّها “إدارة محافظة ولا تحب المجتمع المدني لأنّ طبيعة عمله تثير قلقها، وهذا يزعجها جداً”.
وينفي الناشطون عدم كفاية البيانات لدى البنك المركزي “إذ إنّ كل شيء يمرّ عبره”، ويلقون بالمسؤولية على السلطات المتعاقبة “لعدم تطبيقها المرسوم 88 بحذافيره”، وفق رجاء جبري حلواني، رئيسة شبكة مراقبون المهتمة بالشأن الانتخابي والمساءلة والشفافية. كما يلفت أمين غالي في السياق إلى التوصل في 2019 إلى اتفاق مع الحكومة لا يمسّ بقانون الجمعيات ويحسّن جوانب ناقصة “ولكنّه لم ينفّذ”. ويوضح الطالبي من جهته أنّ من صاغ نص مرسوم التعديلات الحالي هو “تجمعيٌّ قديم” نسبةً إلى حزب التجمّع الحاكم زمن زين العابدين بن علي، “وهو موجود في إدارة الجمعيات منذ مدّة”.

إقرأ على موقع 180  إلياس الفخفاخ ينتهي.. قيس سعيّد يبدأ

الأمر الواقع
قبل زمن تونس الجديد الذي بدأ في مستهل عام 2011، كانت الجمعيات تخضع لرقابة شديدة لناحية الإنشاء ونوع النشاط وكيفية التمويل والعلاقة بالخارج، وذلك بموجب قانون يعود إلى عام 1959 وآخر صدر في 1993. ألغاهما المرسوم 88 بعد أشهر قليلة على الإطاحة برأس النظام السابق، ولكنّه شكّل في الوقت نفسه أرضاً خصبة لانفجار عددي ونوعي للجمعيات، فصارت تشمل قالباً “إسلامياً خيرياً” وآخر نشأ من صلب الحياة الديموقراطية والنضالية وحدّد أهدافه بمسائل على غرار مراقبة الانتخابات ومكافحة الفساد والتوعية المواطنية والرقابة البرلمانية والجمعيات الحقوقية.
إلا أنّ رئيس القسم السياسي في مجلّة المفكّرة القانونية – تونس محمد سميح، يرى أنّ المجتمع المدني قد يجد نفسه حالياً أمام أمر واقع أشبه بـ”كارثة” في ضوء التسريبات، وذلك برغم أنّ التفكير بإدخال تعديلات على القانون لم يبدأ في عهد سعيّد كما يوضح، وإنّما يعود إلى 2016 بمبرّر أنّ الدولة كانت غير قادرة على مراقبة أكثر من 19 ألف جمعية وتمويلاتها.
كانت تونس في تلك الأعوام تخشى خطر تمويل الإرهاب عبر جمعيات تعمل تحت السقف الخيريّ وعمليات غسل الأموال، ووضِعت البلاد في 2017 على قائمة الاتحاد الأوروبي السوداء للدول التي تخضع لمتابعة مجموعة العمل المالي لمكافحة غسيل الاموال وتمويل الإرهاب، قبل أن تعود مؤشراتها إيجابية على هذا الصعيد وتتكلل مساع، بعضها موّلته بصورة غير مباشرة مساعدات دوليّة للجمعيات، بحذفها عن القائمة.
وجدير بالذكر أنّ تونس حصلت لاحقاً على تقييم جيّد جداً من قبل مجموعة العمل المالي – غافي بخصوص المعيار المتعلّق بمخاطر تمويل الإرهاب، طبقاً لحلواني التي تضيف أنّ “المساس بإطار الجمعيات القانوني قد يساهم في تراجع تصنيف تونس ووضعها مجدداً على اللائحة الرمادية لغافي”.

يقول أمين غالي إنّ إقرار التعديلات المطروحة سيكون هدفه “تدجين المجتمع المدني” ككل، وتعلن رئيسة جمعية “مراقبون” أنّ المشروع “نقابله برفض مطلق” خاصة أنّ مرسوماً رئاسياً في أيلول/ سبتمبر 2021 قضى بأنْ ”لا تقبلُ المراسيمُ الطعنَ بالإلغاء”

“تقاطع مصالح”
ثمة أحزاب سياسية تستغل مسألة الجمعيات في مواجهتها مع “الإسلاميين” ممثلين بحزب حركة النهضة إذ تتهمها بـ” تلقي أموال من قطر” لدعم نشاطات “تحوم حولها شبهات” تتعلق بتبييض الأموال والإرهاب. وقد أدى ذلك بعد أحداث اعتصام الحزب الدستوري الحر أمام مقر الفرع التونسي لاتحاد العلماء المسلمين، إلى تقديم كتل برلمانية مشروعا لإنشاء لجنة تحقيق برلمانية حول تمويل ونشاط ما أسموه الجمعيات المشبوهة ومن بينها فرع الاتحاد في تونس وذلك قبل أسابيع من اجراءات 25 تموز/ يوليو 2021.
أطراف غير حزبية أيضا وجّهت إلى حركة النهضة ورئيسها راشد الغنوشي اتهامات بتبييض الأموال واستغلال شبكات جمعياتية لعمليات تسفير مقاتلين نحو سوريا، وهو ما جاء تفصيله في آخر ندوة صحافية أقامتها “هيئة الدفاع عن الشهيدين شكري بلعيد ومحمد البراهمي” والتي اتهمت أعضاء في جمعية نماء تونس التي تنشط في مجال تشجيع الاستثمارات بتقديم غطاء لتمويلات قطرية مشبوهة إلى رئيس حركة النهضة.
غير أنّ السلطات صارت تستخدم هذه الاتهامات المتعلّقة بعدد “لا يتجاوز عشرات قليلة” من أصل أكثر من 22 ألف جمعيّة وفق حلواني، كمطيّة “لضرب الحريّات” وعمل المجتمع المدني بكافة أطيافه. وتغفل مقاربة السلطة القائمة “أهمية دور الجمعيات كونها تتدخل في جميع المجالات وخصوصاً على نطاق الفئات الهشّة لمعاونة السلطات وتعويضها. فوزارة المرأة مثلاً توجّه صوبنا ضحايا العنف الجنسي لكونها تفتقر إلى الإمكانات”.
يلقي أمين غالي بدوره باللائمة على الرئيس التونسي الذي لديه “تصوّر شخصي للدولة ولتوزيع السلطة فيها”، فيما يعتبر علاء الطالبي من جهته أنّ “مشروع قيس سعيّد يهدف إلى خلق أجسام وسيطة جديدة، بمعنى أننا لا نريد المنظمات الحقوقية ولا نريد المنظمات التي تراقب أو تلك التي تعطي رأياً سياسياً أو في المجال الاقتصادي أو حتى على صعيد السياسات الثقافية، بل نريد بدلاً من ذلك مجرّد جمعيات تعاضد مجهود الدولة في بناء المدارس مثلاً أو عند الأزمات الاقتصادية والصحية على غرار كوفيد”.
وتجمع ثلاثة مصادر على أنّ “مصالح البيروقراطية وتيّاراً داخل الدولة يخضع لنفوذ كبار رجال الأعمال، تتقاطع مع هذا التصوّر”. وتلفت الإنتباه إلى “سلبيات انقسام المجتمع المدني بكامله بين مؤيد ومعارض لقرارات الرئيس التونسي في 25 تموز/ يوليو” والتي فرضت حال الاستثناء.
يختم أمين غالي بأنّ إقرار التعديلات المطروحة سيكون هدفه “تدجين المجتمع المدني” ككل، وتعلن رئيسة جمعية “مراقبون” أنّ المشروع “نقابله برفض مطلق” خاصة أنّ مرسوماً رئاسياً في أيلول/ سبتمبر 2021 قضى بأنْ ”لا تقبلُ المراسيمُ الطعنَ بالإلغاء”.

(*) بالتزامن مع “بوسطجي

Print Friendly, PDF & Email
محمود مروّة

مُحرّر موقع "المراسل"، لبنان

Free Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
free online course
إقرأ على موقع 180  كورونا وإسرائيل والشرق الأوسط: المخاطر إقتصادية