سُنّةُ لبنان من “دول الثورة” إلى “دول الثروة”.. الآن إلى أين؟

منذ اندلاع شرارة "طوفان الأقصى" في السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، عادت القضية الفلسطينية لتحتل سلم أولويات القضايا على الصعيد العالمي. في موازاة ذلك، ثمة نقاش حول موقع المسلمين السُنّة في المنطقة عموماً ولبنان تحديداً في صلب قضية لطالما كانت القضية الأم لكل هذا البحر الإسلامي منذ سبعة عقود ونيف.

ليس خافياً أن المسلمين السُنّة الذين تفاعلوا مع القضايا الإسلامية والإنسانية منذ تأسيس كيانات ما بعد الإمبراطورية العثمانية، كانوا يجدون أن فلسطين تُشكّل صميم وجدانهم القومي في كل دول المشرق العربي، كما أن أجدادهم لطالما كانوا يحطون رحالهم في مدن كانت بالأمس القريب عمقهم الجغرافي والديني والعائلي والاقتصادي، من صفد ونابلس إلى القدس والخليل وصولاً إلى أم الفحم ورفح.

وليس خافياً أيضاً أن هناك نقاشاً مفتوحاً تخوضه حالياً النُخب السنية اللبنانية، باختلاف تلاوينها وتكويناتها وتحيزاتها وتحزباتها، بشأن كيفية الانخراط في معركة الدفاع عن غزة، وهل أن استعمال جبهة الجنوب اللبناني من قبل حزب الله و”كتائب القسام” (الذراع العسكرية لحركة حماس) هو الخيار الأمثل للانخراط في معركة مساندة غزة، أم أنها جبهة تفتح “أبواب جهنم على لبنان” لحسابات اقليمية لا تمت بصلة لفلسطين وقضيتها، وهذا النقاش سبق أن فُتِحَ على مصراعيه في المرحلة التي تلت خروج منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت في صيف العام 1982 وتوّجت باتفاق الطائف في العام 1989 ومن ثم دخول شعار “لبنان أولاً” إلى صلب أدبيات السياسة اللبنانية، في أعقاب زلزال استشهاد الرئيس رفيق الحريري في العام 2005.

من هذا المنطلق تأتي محاولة استعادة الإنزياحات السنية التاريخية في التعامل مع قضايا المحيط القريب والبعيد منها، وما الذي تغير بعد كل هذا السياق التاريخي، حيث كانت بيروت وصيدا وطرابلس وغيرها من المدن والمناطق ذات الغالبية السنية الخزان البشري للمقاومة الفلسطينية والنزول الجماهيري إلى الشوارع دفاعاً عن قضية فلسطين:

أولاً؛ بعد سقوط الدولة العثمانية في مطلع القرن الماضي، وجد سُنّة لبنان، وتحديدا أبناء بيروت وطرابلس، في الثورة العربية الكبرى ملاذاً جديداً في زحمة التدافع الغربي على وراثة الدولة العثمانية المريضة. وعند قرار الملك فيصل الأول بالتوجه نحو دمشق ومدن الساحل اللبناني، انضم مئات الشبان من طرابلس وبيروت إلى الثورة العربية وعند عودتهم رفعوا علم الدولة العربية على سرايا بيروت وطرابلس في خطوة امتدت لأشهر قليلة سبقت الدخول الفرنسي إلى الساحلين السوري واللبناني.

المفارقة في نهاية الأمر أن الآية انقلبت في بنية الجماعة الإسلامية فأصبح شهداء “قوات الفجر” من الأطباء والمهندسين وطلاب الجامعات، فيما انتقلت القيادة التنظيمية والسياسية من أطباء ومهندسين وأساتذة جامعيين إلى أئمة وخطباء مساجد وموظفي جمعيات إدارية؛ هذا المسار يؤشر إلى هوة في الخطاب السياسي بين القاعدة والقيادة التاريخية للجماعة الإسلامية

ثانياً؛ مع إنطلاقة أولى طلائع العمل الفلسطيني الفدائي في نهاية الثلاثينيات الماضية، في مواجهة العصابات الصهيونية، تطوّع عشرات الشبان من طرابلس للإلتحاق بمجموعات على أرض فلسطين، وعرف منهم، حينذاك، الشهيد فاروق قاوقجي الذي دفن مع مجموعة شبان لبنانيين عند أطراف بلدة يافا الفلسطينية، وهذا المسار تم تتويجه في لحظة حرب العام 1948 مع انخراط مئات الشبان اللبنانيين، وبينهم ثلة من بيروت وطرابلس، في جيش الإنقاذ، كما في تشكيلات شاركت في الدفاع عن فلسطين، قبل أن تتمكن العصابات الصهيونية من احتلال معظم ما تسمى “أراضي العام 1948”.

ثالثاً؛ تماهى المسلمون السنة في لبنان، كما العديد من أبناء الطوائف الأخرى، مع الظاهرة الناصرية، غداة ثورة “الضباط الأحرار” التي قادها جمال عبد الناصر، عام 1952، وانعكس ذلك تفريخاً للعديد من الأحزاب والتنظيمات الناصرية المنادية بالقومية العربية والوحدة العربية.

رابعاً؛ مع هزيمة الجيوش العربية في حرب العام 1967، ثم في حرب العام 1973، التي كانت انتصاراً تحوّل إلى هزيمة، انتقل الثقل العربي المؤثر من “دول الثورة” مثل مصر وسوريا إلى “دول الثروة” كالسعودية والكويت، وابتعد السُنّة تدريجياً عن الأحزاب الأيدلوجية العلمانية واتجهوا إلى التيارات الدينية كالإخوان المسلمين وغيرها من المجموعات الدينية المتشددة التي انخرطت في حروب أفغانستان والشيشان والبوسنة والهرسك، وهذا المسار تم تتويجه في لحظة 11 أيلول/سبتمبر 2001، عندما تبيّن أن أحد منفذي تلك العملية هو اللبناني زياد الجرّاح، وهذه السردية التاريخية السريعة مردها أن انخراط مجموعات شبابية لبنانية في الحرب السورية المستمرة منذ العام 2011 حتى يومنا هذا، (مع مجموعات سلفية كجبهة النصرة وأحرار الشام وداعش إلخ..) هو انعكاس طبيعي لتفاعل سُنّة لبنان مع قضايا المحيط، وإن بدرجات ومستويات مختلفة، وبرغم أن شكل هذا التفاعل يتغير تبعاً لتطور حضور تيارات دون أخرى في المجتمعات من عروبية إلى ماركسية إلى دينية متشددة.

خامساً؛ مع وصول الاخوان المسلمين إلى السلطة في مصر وتونس (2011)، انخرط شبان غير إسلاميين في مدار التأييد للإخوان المسلمين، وهذا المسار ظهر في زيارات قام بها شبان لبنانيون إلى قطاع غزة إبان حكم محمد مرسي للتعرف على حركة حماس ومشروعها كأول مساحة حكم إخواني فعلي في المنطقة العربية بعد 2007، وصولاً لتمركز جزء من قادة حماس في بيروت، بالتوازي مع تقديم ايران نفسها نصيراً حقيقياً للقضية الفلسطينية، خصوصاً في مواجهة تصاعد موجة التطبيع أو ما اصطلح عليه بـ”الاتفاقيات الإبراهيمية”، وهذه النصرة الإيرانية تجلت بإعلان حماس وحزب الله عن غرفة عمليات مشتركة بعد معركة “سيف القدس” في ربيع العام 2021 وهي نقطة البداية لاستخدام حماس لبنان قاعدة اسناد عسكري

إقرأ على موقع 180  إسرائيل الطفل المُدلّل عند الغرب.. لماذا؟

سادساً؛ اضطرت الجماعة الإسلامية، وهي الحليف الأبرز لحركة حماس في لبنان، إبّان الوجود السوري، للتكيف مع قوة احكام القبضة السورية على السياسة اللبنانية، وانخرطت بعد اتفاق الطائف في العمل الدعوي والاجتماعي والطلابي متخلية بشكل كبير عن عملها العسكري مقابل تمدد حزب الله برعاية إيرانية – سورية مشتركة، وهذا التخلي أتى بعد مشاركة الجماعة في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي قبيل نشوء حزب الله وبعده، والأكلاف السياسية التي دفعتها جراء مشاركتها في صد الاجتياح السوري لطرابلس في الثمانينيات الماضية، لكن مع اغتيال الرئيس رفيق الحريري اضطرت الجماعة، في عهد أمينها العام الشيخ فيصل مولوي للتموضع في إطار قوى 14 آذار مع الانجراف السني وراء وريث الحريرية السياسية سعد الحريري.

سابعاً؛ ظلت الجماعة الإسلامية بدءاً بعهد الشيخ فيصل مولوي وانتهاء بحقبة عزام الايوبي تُدوّر زوايا تحالفاتها مبقية على خط التواصل مع 8 آذار ومتماهية مع مشروع “لبنان أولاً” الذي أوصل عماد الحوت إلى الندوة البرلمانية من خلال تحالفه مع لائحة تيار المستقبل في العاصمة بيروت، مقابل انسحاب مرشح الجماعة الإسلامية في صيدا لمصلحة الرئيس فؤاد السنيورة، مع خسارة محققة في معقلها التاريخي طرابلس والتي لم تمنحها تمثيلاً منذ 1992 إلى اليوم، حيث قبلت على مدى الـ 17 سنة المنصرمة بفتات من المكتسبات (عضو مجلس شرعي أو رئيس بلدية نائية أو عضوية نقابة خجولة من نقابات المهن الحرة)، لكنها أبقت على أدبيات السياسة اليومية كحديث نائبها وأمينها العام عن إلغاء الطائفية السياسية وتقديم رؤية عصرية للدولة المدنية، لكن ما كان يجري في الكواليس هو التمدد الفعلي لتيار بات يعيش في حضن حركة حماس.

ثامناً؛ منذ تأسيس دولة لبنان الكبير في العام 1920، كان الانخراط المباشر في التنظيمات المسلحة من “دولة المطلوبين” في طرابلس مروراً بحركة فتح والحزب الشيوعي اللبناني وحزب البعث العراقي في أثناء الحرب العراقية الإيرانية، وصولاً إلى ظاهرة التنظيمات السلفية في لبنان وخارجه؛ هذا الانخراط شكّل أبناء القرى الريفية النائية أو التجمعات الفقيرة في المدن الرئيسية وضواحيها عموده الفقري، وهذه العناصر أتت من منابت اجتماعية فقيرة، أما اليوم وبالنظر بتمعن إلى الخلفية الاقتصادية لشهداء “قوات الفجر” (الذراع العسكرية المقاومة للجماعة)، نجد أن أغلبهم من الطلاب الجامعيين الذين يندرجون وفق التصنيف الإجتماعي الكلاسيكي، في خانة الطبقة الوسطى.

عليه؛ لا يجب النظر إلى هذا التحول على أنه تحول عضوي، بل هو نتيجة طبيعية لدور الجماعة الإسلامية وقدرتها التاريخية على استقطاب الشبان وتحويل مناحي الاهتمام من استقطاب دعوي واجتماعي إلى استقطاب أمني وعسكري.

والمفارقة في نهاية الأمر أن الآية انقلبت في بنية الجماعة الإسلامية فأصبح شهداء “قوات الفجر” من الأطباء والمهندسين وطلاب الجامعات، فيما انتقلت القيادة التنظيمية والسياسية من أطباء ومهندسين وأساتذة جامعيين إلى أئمة وخطباء مساجد وموظفي جمعيات إدارية؛ هذا المسار يؤشر إلى هوة في الخطاب السياسي بين القاعدة والقيادة التاريخية للجماعة الإسلامية. أما تحليل حجم هذه الهوة وتداعياتها فيبقى مرهوناً بمآلات حرب غزة السياسية وانعكاساتها على ساحات عدة بينها الساحة اللبنانية.

Print Friendly, PDF & Email
صهيب جوهر

صحافي لبناني وباحث مقيم في مركز "أبعاد" للدراسات الإستراتيجية في لندن

Download Best WordPress Themes Free Download
Download Best WordPress Themes Free Download
Download Best WordPress Themes Free Download
Download WordPress Themes Free
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  باكستان.. هل تبقى "دولة مواجهة" مع اسرائيل؟