في الأسبوع الأول من الحرب الأوكرانية، ضخّت وسائل الإعلام العالمية أخباراً عاجلة بشأن حرائق تطال محطة زابوريزجيا لتوليد الطاقة فحبس العالم أنفاسه، فالحريق ليس في محطة محروقات بل في محطة نووية، وفجأة عادت الذكريات للعام 1986 وانفجار المفاعل رقم 4 في تشرنوبيل وما جرى من ويلات ما زالت ماثلة حتى اليوم في مدينة بريبيات الأوكرانية، ولحسن حظنا اليوم، تبيّن أنّ النار كانت تتصاعد من مبانٍ لا تتعلّق بالمفاعلات النووية أو بالتحكم بها؛ إذًا متى نهلع؟
للإجابة على هذا السّؤال علينا أولًا التفكير بالمفاعل وماهيته، هل هو قنبلة نووية؟ هل ينفجر كالقنابل حقًا؟
المفاعلات النووية هي غرف محكمة الإغلاق بداخلها يوجد بشكل ثابت قضبان من معدن اليورانيوم الشهير بتخصيب لا يتجاوز الـ 5% وهي الأساس التي يقوم عليها التفاعل النووي، فيتفكك اليورانيوم المخصب لذرات أقل وزنًا وأصغر، فيُطلق الطاقة الحرارية التي تنتقل بدورها للمياه المحيطة التي تسخن وتتبخر وتتحرك في أنابيب لنقل هذه الطاقة وتشغيل عنفات التوربينات لتوليد الكهرباء.
وللتحكم بالتفاعل النووي المحصور داخل المفاعل، يقوم المُشغل بإدخال قضبان من مواد أخرى (لا مجال لذكرها في بحثنا هنا) إما لتسريع التفاعل (وزيادة الحرارة) وإما للتخميد. الأمور إذًا من الناحية النظرية بسيطة للغاية طالما أنّ هذا المفاعل محكم الإغلاق لا يدخل إليه شيء من المحيط الخارجي وطبعًا لا يخرج منه شيء كون هذه التفاعلات الجارية فيه تنتج مواداً مشعة شديدة الخطورة والسّمية على الحياة بشكل عام.
أرى أنّ المفاعلات النووية الأوكرانية يجب أن تُحيّد عن الصراع، فلا يمكن لعاقل أن يستغلّها للضغط على جهة ضد الأخرى، وربما يمكن القول أنّه من مصلحة روسيا الإمساك بإدارتها بأسرع وقت ممكن
أمّا الخطر الأساس على المفاعلات في الأيام العادية فهو انقطاع ماء التبريد عنها، أو دورة المياه، عندها يمكن أن تقع حادثة مشابهة لما جرى في تشرنوبيل (أوكرانيا) أو فوكوشيما (اليابان) حيث تسببت موجات التسونامي في توقف التبريد ما أدى إلى ذوبان المفاعل، نعم المفاعلات لا تنفجر كالقنابل النووية بل تذوب بسبب الحرارة العالية التي تنتجها هي نفسها، ما يؤدي بالتالي لخروج هذه المواد المشعة من الغرف المحكمة الإغلاق وبالتالي وقوع الكارثة النووية.
وعندما يجري هكذا أمر فالخطر لا يكون من انفجار حراري مشابه للقنابل النووية بل من حرائق وانفجارات ثانوية تؤدي لنشر وتسرّب هذه المواد على نطاق واسع. مثلًا في العام 1986 في تشرنوبيل حصل انفجار نعم ولكن الانفجار كان بسبب تعاظم الضغط والحريق من بعده كان حريق الغرافيت (الفحم) الموجود داخل المفاعل ولكن الدخان الخارج من النار حمل معه ذرات مشعة إلى طبقات الجو العليا ناشرًا إياها فوق أوروبا وآسيا وربما في الكوكب كلّه.
أمّا لماذا تكون هذه الكوارث أخف من القنابل؟ لأنّ اليورانيوم الموجود داخل المفاعلات ليس مخصبًا بدرجة عالية تسمح بحصول تفاعل انشطاري تسلسلي، فالقنابل النووية تحتوي على يورانيوم بنسبة تصل إلى 98% ولكن ما سبق لا يعني الاطمئنان والنوم على حرير، فهذه المفاعلات أصبحت اليوم موجودة في أرض دون إدارة حقيقية وفعلية وتتحكم بها في كثير من الأحيان ـ كما في النموذج الأوكراني ـ عصابات حقيقية وهنا مكمن الهلع، فالمفاعلات بحاجة أن تكون تحت سيطرة جهة مسؤولة تعرف أقله كيفية التعامل معها.
من هنا، كشخص يكتب من لبنان بعيدًا عشرات آلاف الكيلومترات عن أرض الصراع، (يا لسخرية الأقدار فهذه المرّة الأولى التي أقول فيها الجملة السّابقة)، أرى أنّ المفاعلات النووية الأوكرانية يجب أن تُحيّد عن الصراع، فلا يمكن لعاقل أن يستغلّها للضغط على جهة ضد الأخرى، وربما يمكن القول أنّه من مصلحة روسيا الإمساك بإدارتها بأسرع وقت ممكن كي لا يقرّر مجنون ما مثلاً أنّه يمكن لضرورات التصوير إشعال نارٍ قربها أو لكي تُطلق تصريحات سخيفة من وجهة نظر العلم كما هو حال السفير الأوكراني في الأمم المتحدة الذي تكلّم عن زيادة نسبة الاشعاع في موقع تشرنوبيل بعد سيطرة القوات الروسية عليه.. وهذا الموقع ـ كما أسلفنا ـ مغلق بل المفاعل مدفون تحت أطنان من الباطون والرمل والرصاص!
للمناسبة، يقوم المواطنون في أوروبا بالتزود حالياً بحبوب اليود للوقاية من أي تسرّب إشعاعي في حال حصوله، واليود جيد لمن هو بعيد ولن تصله إلّا كميات ضئيلة لأنّه يمنع الغدة الدرقية من امتصاص المواد المشعة الضارة ولكنّ الهلع الأكبر الذي لن تنفع معه حبات اليود كلّها على الكوكب لو قرّر أحدهم لمس الزر الأحمر، وللأمر تتمة!