

ينطلق التصور من معطيات كثيرة مبنية من جهة، على وقائع ميدانية تراكمت منذ نهاية الصيف الماضي، ومن جهة أخرى على تحولات سياسية تسارعت مع نهاية العام الماضي إقليمياً (سورياً) ودولياً (أميركياً) وتابعتها أوساط أوروبية مواكبة للملف اللبناني بكل دقائقه وتشعباته. كان لهذه التطورات المتسارعة انعكاسات مفصلية في الساحة اللبنانية بدءاً من الحرب على جنوبه وبقاعه وعاصمته إلى اغتيال عدد من قيادات “حزب الله” وفي مقدمهم الأمين العام السيد حسن نصرالله، مروراً بانتخاب رئيس جديد للجمهورية العماد جوزاف عون وتأليف حكومة جديدة برئاسة نواف سلام، وصولاً إلى امتناع العدو الاسرائيلي عن الالتزام الكامل بتنفيذ مندرجات اتفاق وقف العمليات العدائية واستمرار عدوانه على مناطق لبنانية عديدة يومياً.
“زمن الصفقات” لا “زمن التسويات”
من هذه المعطيات:
أولاً؛ سمات المرحلة التي دخل فيها لبنان منذ عشية انجاز الاستحقاق الرئاسي هي “سياسية – أمنية بامتياز”، بحيث يعتبر المعنيون في الخارج أن الأولوية لدى الفريق الثلاثي الأميركي-الفرنسي-السعودي هي لتوطيد الاستقرار الداخلي المتلازم مع النزع النهائي لفتيل التوتر والتصعيد على حدود لبنان مع اسرائيل تمهيداً لهدنة مستدامة في انتظار التسويات السلمية الموعودة من خلال حصرية السلاح بيد القوات الشرعية اللبنانية وفي مقدمها الجيش اللبناني. أما مرحلة “الإصلاح والإعمار” فتأتي في درجة ثانية وعلى خط مواز والمدخل إليها ضمان تنفيذ مندرجات ومتطلبات المرحلة الأولى. وهذا المطلب الأمني المزدوج غربياً وعربياً، تتمسك به الجهات المعنية بالملف اللبناني كمعبر أساسي لفتح الطريق أمام دعم عملية الإعمار والتعافي الاقتصادي.
ثانياً؛ “قواعد اللعبة” التي كانت سائدة منذ فترة طويلة لم تتغير جذرياً فقط بل “إن اللعبة بأكملها تبدلت”، فقد قلب العدو الإسرائيلي، بدعم مباشر من شريكه وحليفه الأميركي، الطاولة برمتها في محاولة لإعادة تحديد الأحجام والأوزان واعادة توزيع الأدواروتحقيق أهدافه وأطماعه التوسعية.
ثالثاً؛ جنون إسرائيلي غير مسبوق لاقى تأييداً وتفاعلاً أميركياً وهو يتحكم بمسار الأمور فلسطينياً، لبنانياً، وسورياً.. والصفة الغالبة هي “التطرف المتفلت” الذي لا حدود له وهدفه واضح ولا يخفيه: “لا عودة إلى ما قبل 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023 وبالتالي لا بد من إزالة أي خطر أمني أو تهديد عسكري يأتي من الجانب اللبناني”.
رابعاً؛ تخوف أوروبي جدي من المنحى الذي يسلكه التوجه الأميركي لتسوية النزاع الروسي – الأوكراني لجهة تكريس وضع اليد الروسية على أراضٍ أوكرانية، وبالتالي انتشار عدوى “تكريس الأمر الواقع” لاحتلال الأراضي في الشرق الاوسط من فلسطين مروراً بلبنان وصولاً إلى سوريا وذلك انطلاقاً من مفهوم “أن زمن التسويات قد ولى وحلّ محله زمن الصفقات”.. والتعامل بات ليس بين “حلفاء” تجمعهم المبادىء بل بين “شركاء” يتقاسمون المصالح، وبالتالي قد يتحول هذا الفريق أو ذاك من لاعب صغيرعلى طاولة الداما إلى مجرد حجر يُحرّكه اللاعب الأكبر حسب أهوائه ومصالحه فتتم بذلك اللعبة على حسابه!
خامساً؛ “فلت الملق”، كما يقال، وللمرة الأولى منذ بداية الحرب في لبنان قبل نصف قرن وبهذا الشكل العلني غير المسبوق إذ تحررت الألسن وبات الحديث يتم مجاهرةً حيال طروحات مستقبلية تنطلق من تحقيق اللامركزية الموسعة مالياً وادارياً وهي أشبه ما تكون بإدارة مدنية ذاتية، مروراً بطروحات الكانتونات والفدراليات وصولاً إلى خيار التقسيم. والخطير في الأمر، أن ما يُحرّك هذه الطروحات ليس فقط الاعتبار البلدي – الإنمائي بل أيضاً وخصوصاً عامل سياسي موجه ضد ما يوصف بـ”هيمنة فريق واستقوائه على بقية الفرقاء بقوة السلاح”. واللافت للانتباه أن هذه التوجهات “الانعزالية” كانت تندرج في السابق ضمن إطار تطلعات ومشاريع بعض النخب والجهات الحزبية ولم يكن الناس مهيئين لتقبلها، في حين باتت اليوم هذه المرجعيات من خلال مواقفها المعلنة والحادة أحياناً تحاول اللحاق والتجاوب مع رغبات فئات كبيرة من الشعب اللبناني مؤيدة لهذه الطروحات وهي غير محصورة بفئة ما بل عابرة للطوائف والمذاهب والمناطق.
سادساً؛ الحديث المفتوح ومن دون عقد أو “تابو” حول الاستعداد إلى تقبل خيار “التطبيع” مع العدو الإسرائيلي.
سابعاً؛ أكثر من جهة خارجية جهدت في الأعوام الماضية لكسر أحادية وتحكم “حزب الله” بالطائفة الشيعية، ومن ثم العمل على زعزعة تحالف “الثنائي” مع حركة “أمل” بهدف التشجيع على إقامة “تعددية شيعية”، وبالتالي اضعاف هذه القوة من الداخل. غير أن هذه المحاولات التي فشلت سابقاً أصبحت ظروف تقدمها متوافرة حالياً، حسب المتابعين للملف اللبناني في الخارج، وذلك في ضوء الخسائر البشرية والمادية الهائلة التي أصابت مناطق هذه البيئة. وما زاد في القلق المشوب بشيء من الغضب تبيان خطورة حجم “الخروق” التي أصابتها في الصميم وسهّلت استهدافها.
هل “الحزب” راغب وقادر على المبادرة؟
انطلاقاً من هذه المعطيات والوقائع كان لا بد من التوجه إلى “الفريق الأبرز في المعادلة اللبنانية” وذلك لأكثر من اعتبار:
الاعتبار الأول؛ لم تكن هناك حاجة للدخول في سجال حول “لعبة الأرقام” التي دارت حول عملية احتساب حجم الحشود الجماهيرية التي شاركت في تشييع سماحة السيد حسن نصرالله، لتأكيد المؤكد.. وهو أن حزب الله لم يزل “الرقم الصعب” ليس فقط ضمن إطار “بيئة المقاومة والممانعة” بل أكثر من ذلك ما يزال الحزب “الرقم الأصعب” في المعادلة اللبنانية أكان من حيث المعنى المجازي أو المعنى الحقيقي للتوصيف. كما ينبغي عدم المراهنة كثيراً على الاستحقاقات الانتخابية المقبلة لإعادة النظر الجذرية في ميزان القوى الحالي داخل الطائفة وذلك لأكثر من سبب داخلي وأكثر من عامل خارجي. من هنا السؤال الأول: كيف السبيل إلى استثمار ما بقي من الرأسمال السياسي والشعبي للحزب؟
الاعتبار الثاني؛ برغم كل الخسائر الكبيرة، بشرياً ومادياً، التي تكبدها لبنان انطلاقاً من جنوبه مروراً ببقاعه وصولاً إلى عاصمته، تمت المحافظة على المكسب الأساس وهو الذي شكل “الانتصار الحقيقي”، أي وحدة الشعب اللبناني، ولم يكن ذلك من خلال الأقوال بل عبر حملة التضامن التي امتدت على كامل التراب اللبناني من صيدا إلى جزين إلى الإقليم وحاصبيا والشوف وعاليه إلى كسروان وجبيل والبترون وزغرتا وصولاً إلى طرابلس وعكار والضنية. وهنا يأتي السؤال الثاني كيف يمكن صيانة هذه الوحدة وتحصينها، شكلاً عبر الامتناع عن كل المظاهر والاستفزازات التي تقوم بها “عناصر فوضوية ومدسوسة”، ومضموناً عبر التخاطب العقلاني بعيداً عن كل حملات “التخوين والتجريح والتشكيك” والاستجابة الجدية إلى الدعوات المتعددة والمباشرة في ورشة “المصارحة والمصالحة” الوطنية الجامعة؟
الاعتبار الثالث؛ خضع لبنان طوال فترة الاستحقاق الرئاسي إلى “وصاية خارجية خماسية ثم ثلاثية مع سيطرة أميركية آحادية ظاهرة” رافقتها ضغوط متعددة ومتواصلة. والسؤال الثالث المطروح هل في الامكان رفع التحدي وتحويل “الوصاية” الظرفية إلى “رعاية” مستدامة هدفها تمكين البلد من الاعتماد على “حصانة أمنية” وذلك عبر السير العملي في استراتيجية امنية وطنية ليس مهمتها “نزع العباءة” عن المقاومة بقدر ما هي استيعابها من خلال الباسها “رداءً وطنياً شرعياً جامعاً”؟
هذه المعطيات والاعتبارات تحمل في طياتها كثيراً من التساؤلات، وهناك اقتناع أن الأجوبة عليها مرتبطة إلى حد كبير بتوجهات فريق أساسي لبناني. صحيح أن هذا الحزب منهمك باعادة بناء هيكليته وترتيب بيته من خلال مراجعة التجربة المريرة التي مرّ بها، إلا أن هناك ضرورة لإعطاء أجوبة سريعة وواضحة عن كل هذه التساؤلات.
صحيح أنه كثر الحديث عن مهل زمنية محدودة لتنفيذ لبنان التزاماته الأمنية والامتثال لتعهداته الاصلاحية. إلا أن الواضح أن الظروف المتوافرة حالياً ولا سيما الرعاية الخارجية للبنان قد لا تعد موجودة غداً أو بعد غد أو أقله ليس بالزخم والاندفاعة ذاتها مع خطورة أن يُترك البلد وحيداً أمام العواصف الإقليمية الآتية من وراء الحدود عدا فقدان فرص انتشاله من الانهيار الاقتصادي والمالي.
من هنا، يُمكن القول إن عامل الوقت مهم جداً محلياً واقليمياً ودولياً، خصوصاً أن أوضاع البلد سيئة لدرجة أنه لا يملك ترف الانتظار والمراوغة والتذاكي والتكاذب.
الشيخ نعيم قاسم ردّد أن “الحزب” يرغب “التصرف بحكمة”. إنطلاقاً من هذه الواقعية والعقلانية مطلوب جواب واضح وحاسم عبر مبادرة يطلقها “الحزب” هي أشبه بعملية “تطبيع لبناني” عابر للطوائف والمذاهب والمناطق تبعد أجواء الانقسام والتباعد والفتنة وتقرّب ظروف التفاهم وشروط التوافق وكل ذلك بعيداً عن “التكاذب المشترك والتذاكي المتبادل”. فهل هناك رغبة وارادة وامكانية في الاعلان عن مثل هذه المبادرة في مناسبة الذكرى الخمسين لاندلاع شرارة حرب نيسان/أبريل 1975؟ علها تعيد بعض الاطمئنان إلى نفوس اللبنانيين من أن بعض من في يدهم الحل والربط استخلصوا العبر من تجربة جولات الحرب المريرة المتعددة، والتي لم تنته فصولها بعد، ولكي تصح معها مقولة “تنذكر وما تنعاد”!
وتدعو شخصية ديبلوماسية غربية واكبت الملف اللبناني وعايشت كل مراحله إلى “عدم المراهنة على الوقت وعدم انتظار مسار المفاوضات ونتائجها مخافة ان تأتي على حساب لبنان وبالتالي تفويت الفرص المتاحة”. وفي هذا الاطار، تستذكر ذلك الرسم الكاريكاتوري في إحدى كبريات الصحف الذي أظهر الفرقاء الدوليين والاقليميين جالسين حول مائدة المفاوضات، وعند اقتراب موعد تسديد الفاتورة (الحساب) توجه جميع المشاركين نحو المدعو اللبناني الجالس على طرف الطاولة في إشارة مباشرة له لتسديد قيمة الفاتورة!
وتُردّد هذه الشخصية أن “ما عرفه لبنان ومحيطه في الخمسة أشهر الماضية يوازي بحجم متغيراته العميقة ما عرفه لبنان ومحيطه على مدى الخمسين سنة الماضية، ومن هنا ضرورة أن يدرك الجميع أن ما بعدها ليس كما قبلها”.