يُوفر الإتفاق الأخير بين لبنان وصندوق النقد الدولي، على مستوى الموظفين، للمرة الأولى بصيص أمل. إنه يمثل تطلعاً مشرقاً طموحاً بطبيعته، ويغطي مجموعة واسعة من الإصلاحات المحتملة، لكنه ليس برنامجاً إصلاحياً عملياً. وكما عبّرت “جولدمان ساكس” في تقييمها، فإن “اتفاقاً على مستوى الموظفين هذا هو بمثابة جزرة لتحفيز الطبقة السياسية اللبنانية على العمل أكثر من كونها وعدًا بمساعدة مالية على المدى القريب”. وبهذا المعنى، فهو تطورٌ إيجابيٌ. ومع ذلك، يجب تقييم مجموعة الإصلاحات المقترحة بعناية للتأكد من أنها تتماشى مع الانتعاش الإقتصادي والمالي المستدام وحماية الركائز الثلاث الرئيسية التي كانت أساس ازدهار لبنان، مدعومة بإطار إقتصادي كلي مفصل والذي لم يتم وضعه بعد، بما في ذلك وضع جدول زمني واضح لتنفيذ الإصلاحات المالية والنقدية وسعر الصرف والإصلاحات الهيكلية واسعة النطاق. وبالتالي، وكما أشار مسؤول حكومي لبناني، لا يُتوخى اتخاذ إجراءات فورية، لا سيما في انتظار الانتخابات البرلمانية في أيار/مايو المقبل ومن ثم تشكيل حكومة جديدة.
بسبب الافتقار إلى الإصلاحات والسياسات التي تؤدي إلى نتائج عكسية، تم تدمير الاقتصاد اللبناني بشكل فعّال. انهارت قيمة الليرة اللبنانية، وتضرر النشاط الاقتصادي، وارتفع معدل البطالة، وارتفع معدل التضخم، وتقلصت المداخيل الحقيقية بشكل كبير، وأصبحت إمدادات الكهرباء متقطعة بشكل اكبر، وانتشر نقص كبير في السلع الأساسية والوقود والأدوية، وازدادت هجرة الأدمغة بشكل مقلق، وتشير التقديرات إلى أن نسبة السكان الذين يعيشون تحت خط الفقر قد تضاعفت، وانخفضت احتياطيات لبنان من النقد الأجنبي بما يقارب 20 مليار دولار في العامين الماضيين فقط.
هذه الخسارة في الاحتياطيات تزيد عدة مرات عما يمكن أن يتوقعه لبنان على مدى السنوات الأربع المقبلة من المؤسسات الدولية والجهات المانحة إذا كان سيضع اليوم برنامج الإصلاح المالي والهيكلي الأكثر شمولاً وصرامة لتصحيح الوضع.
لقد ازدهر الاقتصاد اللبناني لسنوات عديدة منذ الاستقلال في عام 1943 وتخطى العديد من الصدمات الاقتصادية والسياسية والإقليمية والدولية:
أولاً؛ من خلال كونه من أوائل الدول في العالم التي اعتمدت نظام صرف عائم موحد يحدد من قبل السوق.
ثانياً؛ من خلال إقامة نظام مصرفي ملهم للثقة.
ثالثاً؛ من خلال الحفاظ على أنظمة حرة للتجارة وحركات رأس المال.
ستكون هذه الركائز الثلاث قاعدة أساسية في تعافي لبنان، كعناصر ضرورية في اصلاح الاقتصاد الكلي الشامل والإصلاحات الهيكلية. ومع ذلك، فإن التدابير التي تؤدي إلى نتائج عكسية منذ بداية الأزمة والمقترحات الأخيرة قد دمّرت هذه الأسس المهمة، ويمكن أن يكون لها آثار ضارة طويلة الأمد وربما تؤدي الى صراع أهلي.
بدلاً من أن تتحمل الحكومة ومصرف لبنان والبنوك مسؤوليتها عن الخسائر الناتجة عن “الهندسة المالية” التي انخرطوا فيها، يتم الآن تصميم التدمير الكامل للنظام المصرفي من خلال تحميل المودعين الجزء الأكبر من عبء الخسائر من خلال “الإقتطاعات القسرية” (Haircuts) المُقترحة مؤخرًا
- سعر الصرف:
تم التخلي عن سعر الصرف العائم المحدد في السوق في عام 1997 واستبداله بسعر ثابت أعلى من قيمته الحقيقية يبلغ حوالي 1500 ليرة لبنانية لكل دولار أمريكي. للحفاظ على ذلك، تم تبني سياسة سعر الفائدة المرتفع المصممة لجذب الودائع بالعملات الأجنبية والتي تم استخدامها بدورها لتمويل اختلالات القطاع الخارجي، والتي تفاقمت بشكل متزايد بسبب العجز الكبير في الميزانية الممول من خلال اقتراض الخزينة. أدى ارتفاع الدين الحكومي والاختلالات الخارجية إلى فقدان النقد الأجنبي وتآكل الثقة وما تلاه من انخفاض في تدفقات رأس المال الداخلة وزيادة تدفقات رأس المال الخارجة، ما أدى إلى الانهيار السريع لسعر الصرف الثابت وظهور سوق موازية لسعر الصرف.
بدلاً من اتخاذ إجراءات تصحيحية، لجأ مصرف لبنان المركزي وبشكل اعتباطي إلى إدخال أسعار صرف ثابتة متعددة حتى مع انخفاض سعر الصرف الموازي، مما أدى إلى محو أكثر من 90 في المائة من قيمة الليرة اللبنانية. أدى تعدد معدلات أسعار الصرف إلى انتشار المضاربة والتهريب والنقص في البضائع والتضخم المفرط وتآكل الثقة.
- النظام المصرفي:
كان النظام المصرفي اللبناني في صميم الأزمة من خلال ما أصبح يعرف باسم “الهندسة المالية”. منذ عام 1997، وضعت الحكومة ومصرف لبنان والبنوك التجارية سياسة سعر فائدة عالية تتجاهل كل معنى القواعد الاحترازية. ركّزت البنوك أصولها المحلية على أذون حكومية ذات فائدة عالية وأصولها من العملات الأجنبية في ودائع ذات فائدة عالية في مصرف لبنان، متجاهلة أي مبدأ حكيم لتنويع المحفظة.
وقد مكّن ذلك البنوك من دفع فائدة عالية نسبيًا لعملائها، مع كسب فوائد أعلى على أذون الحكومة والودائع في مصرف لبنان. وبالتالي جني أرباحًا عالية وتحويل الموارد بعيدًا عن دور البنوك كوسيط في تعزيز الاستثمار والنمو المحلي، مع تعريض ودائعهم للخطر. في الوقت نفسه، أدى ارتفاع أسعار الفائدة إلى اتساع العجز الحكومي بالإضافة إلى ارتفاع الخسائر شبه المالية في مصرف لبنان.
عندما أدى عبء الديون المرتفع على الحكومة وتزايد الاختلالات الخارجية إلى فقدان الثقة، بدأ انخفاض تدفقات رأس المال الأجنبي إلى الداخل وزيادة تدفقات رأس المال الخارجة في استنفاد احتياطيات مصرف لبنان من النقد الأجنبي، والتي اعتمدت بشكل كبير على ودائع البنوك بالعملات الأجنبية. أدى الإدخال اللاحق للقيود الاعتباطية على حسابات المودعين، والذي يستمر حتى اليوم، والتضخم المفرط إلى فرض “اقتطاعات قسرية” (Haircuts) ضمنية ولكن حقيقية على المودعين، ما أدى إلى تآكل أي ثقة متبقية في النظام المصرفي.
بدلاً من أن تتحمل الحكومة ومصرف لبنان والبنوك مسؤوليتها عن الخسائر الناتجة عن “الهندسة المالية” التي انخرطوا فيها، يتم الآن تصميم التدمير الكامل للنظام المصرفي من خلال تحميل المودعين الجزء الأكبر من عبء الخسائر من خلال “الإقتطاعات القسرية” (Haircuts) المُقترحة مؤخرًا، سواء أكانت صريحة أم ضمنية من خلال التخفيضات المباشرة، وتجميد الودائع على مدى سنوات عديدة، وتحويل الودائع بالدولار إلى ليرة لبنانية بأسعار صرف غير مواتية متعددة. سيكون هذا هو المسمار في نعش النظام المصرفي المحتضر، حيث لن يثق به أحد مرة أخرى بأموال حصل عليها بشق الأنفس.
- الكابيتال كونترول:
إن قانون ضوابط رأس المال (الكابيتال كونترول) المقترح ينبع من مفهوم سوء تصوره. إنه مزيج غريب من القيود المفروضة على عمليات سحب الودائع المصرفية والرقابة على تدفقات رأس المال الخارجة وكذلك على بعض معاملات الحساب الجاري لميزان المدفوعات، مع منح حرية التصرف للجنة لا يتمتع بعض أعضائها بالثقة.
بشكل عام، ضوابط رأس المال (الكابيتال كونترول) على تدفقات رأس المال الخارجة ليست حلاً ولا تعمل وتترتب عليها تكاليف عالية. أظهرت الأبحاث الاقتصادية أن ضوابط رأس المال على التدفقات الخارجة تساهم في الحد من الانضباط المالي والنقدي، وتؤدي إلى تشوهات تؤثر سلبًا على النمو والتوظيف، وتثبط الاستثمار، وترفع تكاليف التمويل، وتحد من تدفقات رأس المال الى الداخل، ولا تتحكم بشكل فعال في التدفقات الخارجة، وتؤدي إلى ظهور سوق موازية لسعر الصرف بمعدل متدهور، وتعزيز الفساد. إن قانون ضوابط رأس المال (الكابيتال كونترول) المقترح لن يؤدي إلا إلى تفاقم الوضع الصعب بالفعل.
سوف يستقر سعر الصرف الموحد العائم عند معدل توازن يمنع التشوهات في الاقتصاد وفقدان الاحتياطيات، وسيكون النظام المصرفي قادرًا على حماية الودائع وتلبية طلبات السحب بالعملة المحلية بسعر الصرف الموحد
بدلاً من تدمير الركائز الأساسية الثلاث للاقتصاد اللبناني من خلال محاولة تدخل اكبر في تحديد سعر الصرف، وفرض “اقتطاعات قسرية” (Haircuts) على المودعين من شأنها تقويض النظام المصرفي بشكل دائم، والتحكم في الودائع ومعاملات الحساب الجاري وتدفقات رأس المال، فإن الحكومة يجب أن تركز على وضع وتنفيذ برنامج إصلاح شامل للاقتصاد الكلي وإصلاح هيكلي من شأنه أن يلهم الثقة، ويعيد الاستقرار المالي، ويعالج الاختناقات الهيكلية، ويحسن الحوكمة والشفافية، ويضمن الانتعاش المستدام. ولكن لا يمكن تفصيلها بشكل متقن إلا على أساس تدقيق مستقل وشفاف للنظام المصرفي، وليس على أساس أرقام افتراضية.
يجب أن يعتمد مثل هذا البرنامج على حماية هذه الركائز الثلاث (سعر صرف موحد عائم يحدده السوق؛ نظام مصرفي ملهم للثقة؛ ونظام حر للتجارة وحساب رأس المال) التي خدمت البلاد بشكل جيد. سوف يستقر سعر الصرف الموحد العائم عند معدل توازن يمنع التشوهات في الاقتصاد وفقدان الاحتياطيات، وسيكون النظام المصرفي قادرًا على حماية الودائع وتلبية طلبات السحب بالعملة المحلية بسعر الصرف الموحد، وعودة الثقة التي تعكس إصلاحات ذات مصداقية سوف تغني عن الحاجة إلى ضوابط ضارة بحركات رأس المال.
في هذا السياق، سيكون دعم صندوق النقد الدولي والبنك الدولي مفيدًا في استعادة المصداقية المحلية والدولية وكذلك في حشد المساعدة المالية لتحقيق اهداف البرنامج.
والحكومة ملزمة بالتفاعل بشكل عاجل بمسؤولية وبشفافية كاملة مع هاتين المؤسستين لضمان أن يعكس هذا البرنامج الشامل والعملي الوقائع على الأرض ويلبي تطلعات الشعب اللبناني. إن الاتفاق الشامل على الإجراءات الاصلاحية المحتملة، دون إطار تشغيلي مفصل، ليس كافياً.
لبنان على شفير الهاوية. حان الوقت لإنقاذ لبنان.
– النص باللغة الإنكليزية
(*) د. صالح منير النصولي، مدير سابق في صندوق النقد الدولي (الآراء المعبر عنها هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة آراء صندوق النقد الدولي).
(**) د. منير راشد، رئيس الجمعية الاقتصادية اللبنانية.