“الصحافية شيرين أبو عاقلة ليست مجرد صحافية وقعت في مرمى إطلاق النار بين قوات معادية وتحولت إلى “ضرر جانبي”. الطريقة التي قُتلت بها والردود العربية والإسرائيلية التي برزت على الفور، والإدراك أن عملية القتل يمكن أن تؤدي إلى موجة جديدة من العنف، والسرعة التي أعلن فيها رئيس الأركان تشكيل لجنة تحقيق، والمطالبة بتحقيق دولي- كل هذا يدل على أن ما يجري الحديث عنه حدث له أهمية سياسية أكبر بكثير من الكارثة التي حلّت بأبو عاقلة وعائلتها.
الصحيح حتى الآن أنه من غير الواضح مَن الذي ضغط على الزناد وأطلق الرصاصة التي قتلت أبو عاقلة، لكن التهمة أُلصقت بإسرائيل، والمطلوب منها الآن تنقية اسمها، أو تحمُّل النتائج إذا تأكد أنها المسؤولة. من هنا، تنبع الأهمية المُلحة للتحقيق وهوية المحققين. من البديهي أن تحقيقاً إسرائيلياً لا يكفي وحده، ويجب فوراً تشكيل لجنة تحقيق دولية تحظى بثقة الجمهور الفلسطيني والإسرائيلي والمراقبين الدوليين الموجودين في البيت الأبيض وفي عواصم دول عربية وأوروبية.
التحقيقات الإسرائيلية، حتى عندما يقوم بها قضاة وشخصيات عامة، فقدت منذ وقت طويل ثقة الجمهور الدولي، فكم بالأحرى الفلسطيني. ساهم في ذلك ثقافة الإهمال والاستخفاف والطمس وصرف الأنظار، المستمرة منذ أعوام طويلة، والتي ميّزت التحقيقات في مئات الحوادث التي قُتل فيها فلسطينيون بنيران الجيش الإسرائيلي، أو على يد مستوطنين. فإذا كانت حجة إسرائيل – التي تأخرت ساعات طويلة حتى أصدرت بياناً أسفت فيه على موت شيرين، خوفاً من أن يبدو مثل هذه البادرة الإنسانية اعترافاً بالتهمة – أن أبو عاقلة قُتلت بنيران فلسطينية، فليس لدى إسرائيل ما تخاف منه في تحقيق دولي. وإذا وجد التحقيق أن الجنود هم الذين أطلقوا النار عليها وعلى زميلها، فهذه ستكون فرصة لها كي تتصرف مثل أي دولة عادية. أي أن تعترف بالمسؤولية، وتحاسب، وتتحمل التعويضات، وفي الأساس أن تتخذ خطوات أساسية تمنع، ليس فقط قتل صحافيين، بل أبرياء عموماً.
انضمت أبو عاقلة أمس (الأربعاء) إلى الأعداد المخيفة لآلاف الصحافيين الذين قُتلوا خلال أدائهم مهماتهم. وبالاستناد إلى الاتحاد العالمي للصحافيين الذي يمثل أكثر من 600 ألف صحافي، قُتل خلال العقود الثلاثة ما بين سنة 1990 وسنة 2020 أكثر من 2658 صحافياً، بينهم 561 صحافياً في الشرق الأوسط. ومنذ سنة 2020 انضم إلى القائمة السوداء عشرات الصحافيين. هناك مَن قُتلوا في أثناء تغطيتهم المعارك في العراق، وفي سوريا، وفي اليمن، أو في أفغانستان، أو أولئك الذين قُتلوا على يد عملاء أنظمة عربية لا تقبل النقد ضدها.
تسفي برئيل: تحولت شيرين إلى عدو شرس للناطقين بلسان الحكومة الإسرائيلية والجيش الإسرائيلي عندما فنّدت تقاريرهم ومزاعمهم. الحزن على موتها ليس شخصياً فقط. إنها خسارة مهنية كبيرة للتي نجحت في وضع النزاع الإسرائيلي -الفلسطيني والمجتمع الفلسطيني ومشهد الاحتلال في مقدمة الرأي العام العربي والدولي
لكن بعيداً عن لائحة الأهداف التي وُضعت لصحافيين مختارين، فإن سوء معاملة وسائل الإعلام والعاملين فيها في مناطق القتال، وفي ساحات توتُّر سياسي، تحول إلى جزء من الاستراتيجيا الحربية. وتحول صحافيون فلسطينيون وإسرائيليون وأجانب يغطون النزاع الإسرائيلي-الفلسطيني إلى جزء لا يتجزأ من الحرب، لأنهم يصنّفون بأنهم ليسوا فقط ممثلين لوسائل الإعلام التي تستخدمهم، بل أيضاً للأطراف المتعادية. طوال عشرات الأعوام، اعتُبر الصحافي الفلسطيني غير موثوق به، فقط لأنه فلسطيني، ولذا، لا يمكن الاعتماد عليه في كل ما له علاقة بالمعلومات عن الأحداث في المناطق. هذه المقاربة أعطت الناطق بلسان الجيش الإسرائيلي والشرطة والشاباك الحصرية المطلقة تقريباً في تقديم المعلومات وبلورة الوعي، وستمر أعوام قبل أن يبدأ تقويض هذه المكانة ويحظى الصحافيون الفلسطينيون والعرب، عموماً، بالثقة التي يستحقونها.
قناة الجزيرة التي أُنشئت سنة 1996، وبدأت بالبث في كل عاصمة عربية ودولية، ووضعت كاميراتها في كل حدث مهم، تترأس الثورة لإعادة الثقة بوسائل الإعلام العربية. عشرات الصحافيين والصحافيات لديها اقتحموا جدران الرقابة التي فرضتها الأنظمة العربية، وانتقدوا الفساد والانحلال والإخفاقات التي ميّزت هذه الأنظمة، وفي الوقت عينه، اكتسبوا ثقة الجمهور العربي وحتى الدولي. في حروب أفغانستان والعراق، كانت الجزيرة القناة الوحيدة التي لم تكتفِ بالتقارير عن التحركات العسكرية، بل عرضت الأضرار والدماء والموت الذي تسببت به قوات التحالف. ودفعت القناة ثمناً باهظاً لقاء ذلك. وفي حرب الخليج الثانية، هاجمت طائرة أميركية الفندق الذي كان يتواجد فيه طاقم المحطة وقتلت الصحافي طارق أيوب. لم يكن هذا “حادثاً مؤسفاً”، فالجزيرة كانت هي المستهدفة. وانتشر اسم المحطة، حتى أن المحطات الأميركية اشترت منها فيديوهات كانت ترافق تقاريرها عن الحرب. وفي سنة 2011، وعلى خلفية ثورات الربيع العربي، قالت وزيرة الخارجية الأميركية، آنذاك، هيلاي كلينتون “هناك محطات تلفزيونية دولية، والجزيرة هي الأولى بينها، غيّرت الرأي العام وتوجّه المواطنين”.
دخلت الجزيرة في مسار تصادُمي مع أنظمة عربية انتقدت زعماءها، وهكذا نشبت إحدى أكثر الأزمات حدّةً بين الدول العربية وبين العائلة الحاكمة في قطر، بسبب القناة. وكانت الذروة في المقاطعة والحصار الاقتصادي الذي فرضته مصر والسعودية والإمارات على قطر. وكان من بين شروط رفع الحصار وقف بث المحطة. الجزيرة هي محطة محترفة، لكنها ليست موضوعية، ككل وسائل الإعلام، لا تستطيع أن تكون موضوعية إذا أرادت أن يكون لها تأثير وأن تغيّر الرأي العام. إسرائيل تعتمد تقسيماً مختلفاً لوسائل الإعلام الأجنبية، لا يستند إلى مدى موضوعيتها. هناك عبارة ساخرة معروفة هي “هل الوسيلة الإعلامية، أو الصحافي، موضوعيان مع إسرائيل، أو موضوعيان ضدها”. فالجزيرة، على الرغم من كونها المحطة العربية الأولى التي استضافت على شاشتها صحافيين وخبراء وسياسيين إسرائيليين، فإنها تُعتبر “معادية لإسرائيل” و”مؤيدة للفلسطينيين”. وبناءً على ذلك، كل صحافي يعمل لديها يصنَّف كـ”عدو”.
شيرين أبو عاقلة “نالت” أيضاً هذا اللقب. فالتقارير الجريئة والمباشرة والموثوق بها والمهنية التي اعتمدت على وقائع على الأرض أعواماً طويلة، وعلى تحقيقات معمقة، وعلى معرفة واسعة بالمجتمع الفلسطيني الذي وُلدت فيه، منحتها مكانة عالية وصلاحيات إعلامية، وحولتها إلى شخصية إعلامية معروفة في كل العالم العربي. لكن في الوقت عينه، تحولت شيرين إلى عدو شرس للناطقين بلسان الحكومة الإسرائيلية والجيش الإسرائيلي عندما فنّدت تقاريرهم ومزاعمهم. الحزن على موتها ليس شخصياً فقط. إنها خسارة مهنية كبيرة للتي نجحت في وضع النزاع الإسرائيلي -الفلسطيني والمجتمع الفلسطيني ومشهد الاحتلال في مقدمة الرأي العام العربي والدولي”. (المصدر: مؤسسة الدراسات الفلسطينية).