ثمة جدلٌ معتبرٌ حول مسألة الانتخابات في كل الثقافات العالميّة. لم يعد هنالك جديدٌ في نقد أو تأييد العملية الانتخابيّة في حدّ ذاتها من الناحية الفلسفيّة. فهنالك انتخابات تأتي بالفاسدين وأخرى بالأصوليين وتاليّة بالطائفيين والعرقيين!
لقد ثار النقاش الأكثر واقعية بين مفكرين وفلاسفة حين انتخب الشعب الألماني النازيّين، وربما كان وصف ديكتاتوريّة العدد وصفاً دقيقاً وبسيطاً لما يمكن أن ينجم عن اختيار ديمقراطي من خارج الداخل المُختار غير الديمقراطي. إنّ ديمقراطيّة الخيار لا تعني البتة الحيلولة دون النظر في المدى الديمقراطي الذي يمارسه الطرف المُختار. فلو أنّ شعباً ما سرى فيه اعتقادٌ جازمٌ بأنّ طرفاً ما هو الأجدر بالحكم من منطلق أنّه سوف يقوّض الحريّات العامة لأقليات بعينها، أو يسعى إلى العمل على تكريس الوضع التقليدي للمرأة، أو هو نسخة عن واقع بشريّ غير معدّل حضارياً، وتمّ اختيارهُ على هذا الأساس، هل بذلك قد حققنا نصراً ديمقراطياً على حساب القضاء على مكتسبات حداثيّة؟ هذا السؤال برسم مراكز العصف الذهني.
بالتأكيد سوف نجدُ مرشحين آخرين يتصوّرون بأنّ القيام بطرح أفكارٍ متعاليّة عن النموذج التقليدي السابق، منسجمين في ذلك مع الحق المنطقي واليقيني بأنّ البديهي الناتج عن تراكم الخبرات البشريّة فوق الاختلاف حول الجدوى، سوف ينتهي بهم المطاف إلى هزيمة مدويّة أمام طروحات متناغمة مع السائد العام.
بتنا هنا مع التذكير بالمعروف والبديهي لدى الجميع. لكن هل يكون ناجعاً، في إطار التراجع التكتيكي، التنازل جزئياً عن مكاسب عليا يمكن اجتزاؤها مقابل الحصول على مكاسب صغرى، مع الوقت قد تصبح معبراً للحصول على مكاسب كبرى؟
نسبة المشاركة في الانتخابات في واقع الحال الدولي، هي استفتاءٌ سياسي وقانوني كامل الحجيّة على شرعيّة النظام في الخارج. وعليه يتمّ التعاطي معهُ والاعتراف به على هذا الأساس
تخبرنا تجارب البشر العاطفيّة بأنّ الذي يُوهم نفسه بحب امرأتين في نفس الوقت، في الحقيقة لا يحب أيّاً منهما. ولعل التجارب السياسيّة تنسجم مع التجارب العاطفيّة أحياناً، حيث أنّ من ضحى بالثوابت السياسيّة انتهى به الأمر في حالة طلاقٍ بائن حتى مع الموقف المبدئي من نجاعة هذه اليقينيّات الفكريّة سابقاً والتي صارت متغيّرات اجتماعيّة لاحقاً.
والحال أنّ الكثير من الشعوب قد فقدت شهيّتها فعلياً في المشاركة السياسيّة، بشكل جعلهم لا يبدون أيّ مبالاة بالعمل السياسي برمته. يجب هنا أن نفرّق على غرار هذا بين شكلين مختلفين من اللامبالاة السياسيّة:
أولاً؛ مبدأ التينا (tina) أيّ الـ”ليس هنالك بديل”، ولأنّه كذلك يزهد الشعب في المشاركة في الانتخابات، برغم أنّها، في حال نزاهتها، هي التماس المباشر بين الشعب والدولة في كل المجتمعات السياسيّة. وبسبب هذا المبدأ نجد الكثير من الأنظمة – أحياناً بحكم الضرورة – تلجأ إلى حكومات التكنوقراط الخالية من أي روح سياسيّة لدرء الضرر الناشئ عن مشاركة منقوصة بالكاد تفضي إلى ائتلافات حكوميّة.
ثانياً؛ متلازمة التعب الديمقراطي أو ما يسمّى بـ “الإعياء الديمقراطي“. توجد شعوب كثيرة قد شعرت بتعبٍ انتخابي، نظراً للعدد الكثير من المشاركات الانتخابيّة التي لم تأتِ بشيّء (حال بعض البلدان العربيّة التي فيها انتخابات لم تُزيّف أو على الأقل حدثت فيها تجاوزات لم تؤثر على النتيجة النهائيّة).
إحدى مظاهر هذه اللامبالاة تعسّر تحديد السبب الحقيقي للعزوف عن المشاركة الانتخابيّة، قد يراها المسؤول الرسمي نوعاً من الثقة في المؤسسة الحاكمة بحيث لم يعد المواطن مبالياً بالتغيير، بالشكل الذي يجعلهُ يفضل الاستقرار على التغيير المفتوح على الاحتمالات الجديدة. ولأنّ الاستقرار والرغبة في استمرار السائد لا يتطلب تفكيراً أو بحثاً، يُحجم الكثير عن المشاركة.
بينما يعتقد الغير غير الرسمي بأنَ التقاعس عن أداء الاقتراع الانتخابي يعبّر بصدقٍ مثالي عن يأسٍ مرير من الحصول على فرصٍ جديدة، مهما تعدّدت الوجوه واختلفت الوعود.
من يشارك في الانتخابات بورقة بيضاء فإنّ مشكلتهُ مع الوجوه المرشحة وليس مع المؤسسة النظاميّة بشكلٍ عام. وفي حال توفر بديلٍ جيد، فإنّه مستعدّ لأداء “واجبه” الوطني على أكمل وجه
ثمة تجربة محايدة أخرى حدثت في بلجيكا إبان الأزمة البرلمانيّة (2010-2011)، وهي انشاء ما سُمي وقتها بـ J1000، ومن أهدافه تقديم المشورة، حيث أستُعيد مصطلح الديمقراطيّة التداوليّة (هنا دراسة جادة عنها) من هابرماس في نقاشه المطوّل مع جون رولز حول كتاب هذا الأخير الشهير “نظريّة العدالة”. تتلخص الديمقراطيّة التداوليّة أو التشاوريّة في حقّ العموم في مشاركة الأكثريّة في صناعة القرار الوطني بحيث لا يكون الفوز بالانتخابات حجّة للاستئثار بالحكم.
***
ببساطة شديدة؛ من يشارك في الانتخابات بورقة بيضاء فإنّ مشكلتهُ مع الوجوه المرشحة وليس مع المؤسسة النظاميّة بشكلٍ عام. وفي حال توفر بديلٍ جيد، فإنّه مستعدّ لأداء “واجبه” الوطني على أكمل وجه.
من يقاطع الانتخابات بكلّيتها، فإنّ مشكلته لا تقتصر على وجود مرشحين جيدين من عدمه، وإنّما معضلته الأساسيّة مع شكل الدولة الكامل ونظامها القانوني العام، الذي يشوبه ـ حسبه – خلل بنيوي كامن في وجوده كمنظومة أو بقائه كنظام، ولا حلّ إلا بتغييره وحلول نظام جديد مختلف مكانه تمهيداً لخلق منظومة حكمٍ جديدة، سواءً كان ذلك بواسطة الثورة أو الانتخاب، ولدى آخرين حتى لو استدعى الأمر تشجيع الجيش على الانقلاب، ذلك أنّ الانقلاب والثورة يحملان نفس المعنى في اللغة الباشتونيّة والفارسيّة والتركيّة، وليسا بالضرورة يحمل الانقلاب في بعض الثقافات العالميّة نفس السمعة التي يحملها عندنا.
من أجل ذلك تهتم الدول بنسب المشاركة ولا تُعنى كثيراً بمن فاز وخسر! لأنّ نسبة المشاركة في الانتخابات في واقع الحال الدولي، هي استفتاءٌ سياسي وقانوني كامل الحجيّة على شرعيّة النظام في الخارج. وعليه يتمّ التعاطي معهُ والاعتراف به على هذا الأساس.
من يقاطع الانتخابات بكلّيتها، فإنّ مشكلته لا تقتصر على وجود مرشحين جيدين من عدمه، وإنّما معضلته الأساسيّة مع شكل الدولة الكامل ونظامها القانوني العام
وهنالك من يعتقد بأنّ الحل البسماركي (السياسة هي فن الممكن)، هو أنسب الحلول عندنا. فلسنا على موعد مع جمهوريّة فايمار أو أفلاطون، وإنّما نحاول بواسطة المشاركة تأكيد مبدأ أساسي في التغيير الهادئ يقول بأنّ المقاومة من الداخل، تمنع وصول الوضع إلى حالة من التفسخ التام، مستعينين في ذلك بتصوّر ماركس القائل بأنّ الوعي بالسياسة أو بالاقتصاد أو بالكون والاجتماع البشري ناتجٌ بالضرورة عن الوجود الاجتماعي. يشبه هذا، القول المعروف بأن الانسان ابن بيئته، والبيئة لا يمكن أن تتغيّر طالما سنحنا لمن هم منّا بالتحكم فيّنا على النحو الذي منحناهُ لهم بالاستقالة من الشأن العام حتى ورود المخلص. علاوةً على أنّ هنالك تغيير جاء بلا ثورة مثل ما حدث في بريطانيا، وثمة تنظيرات حول التغيير القائم على التدرّج من داخل النظام على شرط المواجهة المستمرة لكل قراراته وسياساته، وقد نحا إلى هذا النوع من التغيير مُنظّر سياسي شهير اسمه توماس بين.
***
لطيفة ختاميّة
يقعُ كثير من المثقفين ضحية الـ Tittytainment أو (اللهو الطائش الذي تكرّسه الحكومات الاستبداديّة من أجل حرفِ الفرد عن المطالبة بحقوقه الأساسيّة واجتراح وسائل سلميّة لتحصيله) في أوطانهم، تقابله عند اليونان القديمة الخبز والسيرك، وربما يوازيه عندنا الهشك بشك. “المثقفون” هؤلاء عندما ينخرطون في ملتقياتٍ وجمعيّاتٍ، تمنحهم شرف لفظة “مثقف” ويؤكّدون مركزهم “البرجوازي” المتوهّم، الذي يفصلهم عن “العامة”، يعزّزون الانطباع بأنّ وضعهم جيد وسُلطاتهم “ديمقراطيّة”، في حين أنّهم يتوانون عن الاقتداء بالمثقف الأكبر هنري ديفيد ثورو الذي أصّل لمفهوم العصيان المدني وإحدى معالمهُ الكبرى هي المقاطعة، والدفع نحو إضراب شاملٍ، شعارهُ نحن لسنا بخير طالما أنّكم معنا. (لو خصّصت الشعوب المقهورة يوماً واحداً لا تخرج فيه إلى الفضاء العام من بيوتها لتغيّر الوضع دون “ضربة كفّ” أو “قطرة دم”).
فهل العصيان المدني شكلٌ من المشاركة السياسيّة من دون النزول عند شرط النظام في تحديد الفائدة من المشاركة حتى لو كانت ضده لناحية التصويت؟
أعتقد نعم كبيرة.