عرفتُ، عن طريق الصديق حازم النعيمي، أنه تمّ إطلاق سراح عبد الإله النصراوي، حيث كنت قد وصلت براغ، وكان هو الآخر وصل إلى الشام أيضًا، وقد طلبت منه إيصال عنواني ورقم هاتفي إليه، وبعد بضعة أسابيع وصلتني منه رسالة، شرح لي فيها الأوضاع الجديدة، واستقراره مؤقتًا في الشام، وطلب مني تأمين مقعد دراسي، إن أمكن، إلى محمد حسين رؤوف، باعتباري رئيسًا لجمعية الطلبة العراقيين، وكان رؤوف، هو الآخر، قد وصل إلى دمشق، وسعيت بذلك، بعد أن أرسل لي رؤوف شهادة تخرّجه، وحصلنا على زمالة دراسية له على ملاك الحزب الشيوعي العراقي، وقد أخبرت النصراوي (أبو أمين) بذلك.
ومن ثم كانت الاتصالات مباشرة مع رؤوف، وجاء إلى براغ، والتحق بكورس اللغة، لكنه لم يتمكّن من الاستمرار في الدراسة، وأبلغني أنه سيعود إلى العراق، لأنه لم يعد يتحمّل الغربة، وعاد إلى الشام ومنها إلى بغداد والتقيته حين عودتي إلى بغداد وبعد إنهاء دراستي، حيث دعاني إلى منزله مع عدد من الأصدقاء بينهم الرفيق ماجد عبد الرضا وحسن شعبان ووميض عمر نظمي وغضبان السعد وآخرين.
بقيت على اتصال بالنصراوي خلال زياراتي المتكرّرة إلى الشام، وكنت أتّصل به عن طريق التلفون، عبر الصديق عوني القلمجي، والتقينا أكثر من مرّة مع حسن النهر. وكانت الحركة قد انخرطت في “التجمّع الوطني العراقي”، بعد تأسيس الاتحاد الوطني الكردستاني العام 1976، وضم جناح القيادة المركزية (ابراهيم علّاوي) وحزب البعث (السوري)، بقيادة باقر ياسين، والحركة (النصراوي وجواد دوش والقلمجي)، وتجمعات قومية عديدة، إضافة إلى الكرد ممثلين بالطالباني “أوك”، بعد اتفاقية 6 آذار/مارس 1975، بين نائب الرئيس صدام حسين، وشاه إيران محمد رضا بهلوي في الجزائر.
في أحد الايام، جاءني اتصال تلفوني إلى القسم الداخلي، الذي كنت أقيم فيه (كومنسكي كولي) في براغ، وإذا بالمتحدّث النصراوي، أبلغني أنه في العاصمة التشيكية وأنه موجود مع صديق له في فندق الإنترناشيونال، وكنت أعرفه جيدًا، حيث نزلت فيه في المرّة الأولى التي جئت فيها إلى براغ، لحضور مؤتمر قبل إقامتي فيها.
واتفقنا على موعد في اليوم الثاني، وذهبت إليه، واستقبلني عند مدخل الأوتيل، وقال لي أعرف أن لديكم حساسية من بعض البعثيين، ربما أحمد العزاوي (أحمد أبو الجبن) من بينهم، وهو معي الآن يجلس على الطاولة ذاتها، وجئنا إلى براغ بمهمة، هل أعرفك عليه، أم تفضّل أن نجلس لوحدنا؟ قلت له: شخصيًا ألتقي مع الجميع، ويهمني التعرّف عليه، ورحّب بي الرجل أيّما ترحيب، وعرّفته بنفسي، مع علمي أن النصراوي كان قد قدّمني له قبل وصولي.
وقد جلست معهما لنحو ساعة، ثم اتفقت مع النصراوي، وبناءً على طلبه، ان نلتقي على انفراد، خصوصًا وأنهما كانا على موعد آخر. والتقينا بعد يومين، وقضينا نهارًا كاملًا سويةً، عرفته على معالم الحياة التشيكية، وأهم صروح براغ التاريخية والحضارية والأماكن الجميلة فيها.
وفي اليوم الثاني، وقبل سفرهما بيومين، تلقيت اتصالًا من النصراوي وهو في وضع صعب كما أخبرني بقوله “إلحق، ثمة أمر حصل لنا ولا نعرف ما هو؟”، ونزلت مسرعًا، ولم أجد تاكسي، وأخذت الترامواي، ووصلت بعد حوالي ساعة، ووجدت الفندق مطوقًا، وحين حاولت الدخول منعتني الشرطة، وشرحت لهم علاقتي بالأشخاص المقيمين، فسألوني هل أنت سوري، قلت لهم أنني عراقي، ونحن عرب بالنتيجة، ولا فرق بين سوريا والعراق، لأنهما كانا يحملان جوازات سفر سورية.
واتّضح أن هناك من تسلّل إلى “السويت”، الذي يتألف من غرفتين، وحاول سرقتهما، وقام بتخديرهما خلال فترة نومهما بعد الظهر، وسرق نقودهما بالكامل. وخلال وجودي معهما، كانا قد استعادا بالتدرج وضعهما الطبيعي، وقد وصل ممثلون عن السفارة السورية، حيث كانت السفارة قد اتصلت بالسلطات التشيكية، واتّضح أن الحادث مجرد سرقة، خصوصًا بعد التحقيق الذي أجرته السلطات التشيكية، في حين كان الاعتقاد الأول أنهما ملاحقان من جانب المخابرات العراقية.
بعد يومين سافرا إلى دمشق، وبعد فترة وجيزة تمّ تفجير مكتب أحمد أبو الجبن (العزاوي) داخل مبنى القيادة القومية، ومن درج مكتبه حدث الانفجار وأودى بحياته، وعلى الرغم من التحقيق مع عدد من البعثيين العراقيين (على ملاك سوريا)، وبعض السوريين لم يتّضح من كان مسؤولًا عن مقتله. وكان النصراوي بعد هذا الحادث أكثر حذرًا حتى خلال حركته في الشام بسبب التداخلات مع الأجهزة العراقية.
المرحلة الشامية – اللبنانية
بعد مشاكل حصلت في إطار الحركة وتداخلات مع قوى أخرى، قرر النصراوي ترك الشام والتوجّه صوب بيروت والعمل مع خير الدين حسيب في مركز دراسات الوحدة العربية، وأصبح لاحقًا من أعمدة المركز، ومديرًا لتحرير مجلة المستقبل العربي، وكان قد قضى بضعة أشهر في باريس، وسجّل في إحدى الجامعات الشعبية، كما عاش، في الثمانينات، بضعة أشهر في تونس أيضًا.
وخلال الثمانينات كنت في كلّ زيارة إلى بيروت التقيه في منزله ومع صدور كل عدد من “المنبر” المطبوع الذي كنّا نصدره كفريق شيوعي مختلف عن القيادة الرسمية، كنت أوصله له، وكذلك إلى خير الدين حسيب، وشارك في تأسيس المؤتمر القومي العربي في تونس 1990، وفي جميع أنشطة مركز دراسات الوحدة العربية. وكانت المرحلة البيروتية – الشامية متّصلة ومتداخلة، تعزّزت خلالها علاقاته عربيًا ومع أطراف المعارضة العراقية. وزار كردستان للقاء الملّا مصطفى البارزاني مع وفد من المعارضة، خصوصًا بعد تأّزم العلاقات الكردية مع بغداد. وسبق له أن التقى الرئيس حافظ الأسد، كما أخبرني.
وكانت علاقته بجلال الطالباني قويّة، حيث ارتبط معه بعلاقة طيبة منذ أواسط ستينيات القرن الماضي في بغداد، وخلال فترة الاتحاد الاشتراكي، وفيما بعد في فترة صدور صحيفة النور، خصوصًا وأن الحركة أصبحت تتبنّى الشعار العام للحركة الوطنية، “الديمقراطية للعراق والحكم الذاتي لكردستان”، بل أنها ذهبت أبعد من ذلك، حين طرحت شعار حق تقرير المصير لفترة معينة.
وقدّم النصراوي، كما قال لي، الطالباني إلى الرئيس حافظ الأسد، وإلى السوريين عمومًا، في ظلّ الخلاف السوري – العراقي الرسمي، وكان، كما حدّثني، ساهم في إنقاذ جلال الطالباني من تدبير أعدّته له الحكومة العراقية لاغتياله في بيروت؟ وقد عرف ذلك عن طريق أحد الأشخاص الذين يتعاملون مع السفارة، ونبّهه لعدم الذهاب إلى الموعد المقرّر، وهكذا تمّ إنقاذ حياته من موت محقّق، كما يقول النصراوي.
وأتذكّر أن التجمّع الوطني العراقي، كان قد وزّع كرّاسًا عن اتفاقية 6 آذار/مارس التي أسماها “الخيانية”، كما وزّع الاتحاد الوطني الكردستاني تقريرًا، قُدّم إلى الكونغرس الأمريكي باسم تقرير بايك، في 9 يناير/كانون الثاني 1976، جاء فيه إن شاه إيران لم يعتبر مساعدته للحركة القومية الكردية في العراق سوى “ورقة يلعب بها في النزاع مع جيرانه”. وأخبرني خير الدين حسيب أنه أوصل هذا التقرير إلى جلال الطالباني بواسطة عبد الإله النصراوي.
ويعتبر هذا التقرير، وما ورد فيه من معلومات بشأن القضية الكردية، وما يخصّ دول المنطقة، لا سيّما فلسطين والعراق وسوريا واليمن الجنوبي، من أخطر التقارير التي تحدّثت عن مستقبلها وفقًا لمنظور واشنطن ومخطّطاتها، وانسجامًا مع استراتيجية هنري كيسنجر، وسياسة الخطوة – خطوة.
استمرّ أبو أمين خارج المشهد السياسي حتى غزو القوات العراقية للكويت، ولم يحضر إجتماعات بيروت للمعارضة (آذار/مارس 1991)، لكنه عاد إلى العمل مع المعارضة من خلال لجنة التنسيق القومي، التي تشكّلت بعد مؤتمر فيينا في العام 1992، وقاد السوريون لجنة التنسيق، وكانت برئاسة أديب الجادر. وقد رافق النصراوي أديب الجادر، الذي ترأس وفدًا باسم لجنة التنسيق القومي للقاء السيّد محمد باقر الحكيم في طهران. وكانت له علاقات طيبة مع القوى الإسلامية مثل نوري المالكي (حزب الدعوة)، وباقر صولاغ (المجلس الإسلامي).
الجدير بالذكر أن استقطابًا أخذ يتبلور داخل المعارضة العراقية بين اتجاهين لاعتبارات موضوعية وأخرى ذاتية، وذلك بعد فشل عقد مؤتمر موحّد، يضمّ جميع القوى المعارضة، فانفردت لجنة العمل المشترك (لندن)، التي تأسست في نهاية العام 1990، بالتحضير لمؤتمر فيينا بعد مؤتمر بيروت 1991، خصوصًا بعد عدم التوافق في اجتماع تمهيدي ضمّ مسعود البارزاني ومحسن دزئي وأديب الجادر وأحمد الجلبي والسيد محمد بحر العلوم وهاني الفكيكي ومهدي الحافظ.
ومثل هذا الاستقطاب حصل خلال فترة الحرب العراقية – الإيرانية، خصوصًا في الموقف من استمرارها، وهو ما كانت تؤيده القوى الإسلامية، فضلًا عن المشروع الحربي والسياسي الإيراني، واتّخذ أشكالًا جديدة بعد الحصار الدولي والموقف من مشروع التدخل الخارجي والتعويل على القوى الدولية.
انعقد مؤتمر فيينا بحضور كردي وازن، وغاب عنه جزء مهم من التيار القومي، وحاول مسعود البارزاني، خلال زيارته إلى دمشق، فتح حوار مع القوى التي لم تحضر، وتمّ الاتفاق على عقد اجتماع تمهيدي لتوسيع المؤتمر الوطني العراقي الذي تأسس في فيينا، وأُضيفت إليه لاحقًا عبارة “الموحّد”، فانعقد الاجتماع في شقلاوة في أيلول/سبتمبر 1992 تحضيرًا للمؤتمر، وحضره مهدي العبيدي ومبدر الويس وحسن النقيب من التيار القومي، كما حضر راشد الحديثي عن حركة الوفاق التي ترأسها صلاح عمر العلي وشفيق القزاز عن المجلس العراقي الحر برئاسة سعد صالح جبر ورحيم عجينة عن الحزب الشيوعي والحزبين الكرديين والوفاق التي ترأس جناحها الآخر إياد علّاوي، ومحمد الحيدري (المجلس الإسلامي الأعلى)، وابراهيم الجعفري (حزب الدعوة)، وشخصيات مستقلة، وكان العدد الإجمالي نحو35 شخصًا، وتم التحضير لمؤتمر صلاح الدين 1992، لكن ممثلين عن حزب البعث لم يحضروا لاحقًا، وأسسوا لجنة التنسيق القومي، التي شارك فيها عبد الإله النصراوي ونشطت في مطلع العام 1993.
باستثناء الحركة الكردية، لم يكن هناك وجود فعلي على الأرض لقوى المعارضة، حيث اكتسبت ذلك بموجب قرار دولي تم الاستناد إليه، وهو القرار 688 الصادر عن مجلس الأمن الدولي في 5 نيسان/أبريل 1991، القاضي بوقف القمع الذي تعرّضت له المنطقة الكردية وجميع مناطق العراق واحترام الحقوق السياسية لجميع العراقيين، وفي ضوء ذلك قررت بريطانيا وفرنسا، وبتأييد من تركيا وإيران، اعتبار خط العرض 36 ملاذًا آمنًا حُرم الطيران العراقي من التحرّك فيه، وسهّل على ذلك انسحاب الإدارة الحكومية من المناطق الكردية، فتمكّنت القوى الكردية، بمساعدة مباشرة من القوى الدولية وبخاصة الولايات المتحدة إملاء الفراغ، الأمر الذي شجّع الكرد على إقامة كيانية خاصة بهم وإجراء انتخابات لأول برلمان كردي واختيار أول حكومة كردية، وذلك قبل اتخاذ البرلمان الكردي قرارًا يتبنى مشروع الفيدرالية في العلاقة مع بغداد في 4 تشرين الأول/أكتوبر 1992، وهو القرار الذي أيّدته المعارضة في مؤتمر صلاح الدين (تشرين الثاني/نوفمبر – كانون الأول/ديسمبر 1992).
لم يكن فعل المعارضة أكثر من جهد إعلامي خارجي قسمه الكبير لا يصل إلى الداخل، وقسمه الآخر تحرك دولي مع القوى المتنفذة، بانتظار تطورات الأوضاع التي سارت سريعًا بفرض حصار دولي جائر على العراق وتجويع شعبه بموجب قرارات صادرة عن مجلس الأمن الدولي، توجّت بشنّ حرب شاملة عليه، كان قرارها قد اتّخذ على خلفية أحداث 11 أيلول/ سبتمبر 2001 الإرهابية في الولايات المتحدة ، وتحت ذريعة وجود أسلحة دمار شامل، حيث قامت قوات التحالف بغزو العراق العام 2003 وأطاحت نظامه.
المرحلة البغدادية الجديدة
عاد النصراوي وقيس العزاوي الذي كان يعيش في باريس خلال العقود الثلاثة الماضية، وأصبح سفيرًا لاحقًا إلى العراق عن طريق القامشلي وبالاتفاق مع أوك، وفي بغداد وبمساعدة منه أصدرا جريدة إسمها “الجريدة”، وحاول النصراوي لملمة ما تبقى من الحركة، إلّا أن الظروف قد تغيّرت والأوضاع سارت باتجاه آخر، لا سيّما صعود التيار الديني، ناهيك عن أن الكثير من الأحزاب ظلّت لافتات ومكاتب ومساعدات دون جمهور يُذكر.
وشارك النصراوي في لقاءات وندوات ومؤتمرات داخل العراق وخارجه، محاولًا أن يقدّم الجوامع والمشتركات على الفوارق والمختلفات، لكن سرعان ما تبخّر الكثير من الآمال التي انعقدت على إعادة تأسيس الحركة وتيارها القومي العربي بسبب أوضاع عامة وخاصة، فالظروف الموضوعية لم تكن مواتية، فضلًا عن ذلك توقّف الدعم المادي وعدم إمكانية الحصول على مصادر جديدة، فتوقّفت الجريدة وانفضّ البعض، وحين مرض النصراوي وعاد إلى بيروت، كان ذلك أقرب إلى إعلان توقّف الحركة عن العمل.
لم يكن النصراوي متهافتًا على المواقع، وقد عُرض عليه أكثر من موقع، ففضّل لقب “المناضل”، وعانى كثيرًا خلال حياته، سواء بسبب التعذيب أو في المنفى ومشاكله ومشكلاته، لكنه ظلّ صبورًا ومتماسكًا، على الرغم من أنه كان يرى كلّ ما كان يحلم به من وحدة عربية وتحرير لفلسطين وعراق قوي يستطيع أن يلعب دوره في الهدفين النبيلين، يتآكل ويذوي، خصوصًا في ظلّ الانقسام الطائفي – والإثني، وضعف الدولة وهشاشة تراكيبها الجديدة، وذبول الوطنية العراقية، وتفشي الفساد المالي والإداري وانتشار السلاح، الأمر الذي دفعه وبخاصة بعد المرض إلى العزلة المجيدة في منزله، الذي لم يبارحه لنحو 4 سنوات، لا سيّما وقد صادف ذلك انتشار وباء كورونا، وفقد فيه قبل رحيله صديقه خير الدين حسيب، الذي كان يسكن في البناية ذاتها التي يسكن فيها، كما عاشا فيها خلال الحرب الأهلية اللبنانية وحتى وفاتهما.
وكنت أزورهما مرّة أو مرتين على الأقل خلال الشهر، أو أزور النصراوي في مرّة وفي المرّة الأخرى حسيب، نتناول الهم العام والخاص، ونستذكر الأيام التي عشناها والصراعات التي دخلناها والأخطاء التي ارتكبناها، نسخر منها أحيانًا ونتألم أحيانًا أخرى، ونمنّي أنفسنا بأننا تعلّمنا دروسًا جديدة.
رحل النصراوي بصمت دون شكوى، ووريَ الثرى في بيروت بعيدًا عن تراب وطنه، وانطفأت معه شمعة من شموع بقايا الجيل الأول للحركة القومية العربية ، تاركًا خلفه شريكة حياته (أم أمين)، التي تابعت وضعه بكلّ صغيرة وكبيرة، وعاشت معه بكل وجدانها في السراء والضرّاء.