ما أشبه اليوم بالأمس!

نعيش في زمن يتطلّب منا الكثير من الحكمة والصبر، ليس بالضرورة لمساعدتنا على حل مشاكل الفساد والحروب والجهل، بل لتوفير ملجأً حماية نهرب إليه تعبيراً عن عجزنا شبه المطلق في القدرة على تغيير الأمور نحو الأفضل.

“ما أشبه اليوم بالأمس”، عبارةٌ نُردّدها ونعني بها أن الأمور تبدو وكأنّ واقع الحال مقيم لا يتغير أبداً. العبارة نفسها نجدها في قصيدة الشاعر الجاهلي طرفة بن العبد (ت. 569)، أنشدها وهو في سجنه، حسب الرواية السائدة:

أَسْلَمَني قَوْمي، ولم يَغضَبوا… لِسَوْءةٍ، حلّتْ بهمْ، فادحَةْ

كلُّ خليلٍ كُنتُ خاللتُهُ… لا تركَ اللَّهُ له واضِحةْ

كلُّهُمُ أروَغُ من ثَعْلَبٍ… ما أشبهَ اللّيْلَة َبالبارحَةْ

وجد طرفة نفسه من دون نصير، بعد أن تخلّى عنه قومه، فأصبحت أيامه ولياليه في السجن متشابهة. وكيف يمكن لها أن تكون غير ذلك!

لكن عبارة “ما أشبه اليوم بالأمس” لها معنى آخر عندما نستخدمها للشكوى من رداءة الزمن الذي نعيش فيه مقارنةً بالماضي القريب أو البعيد. في هذه الحالة، ينعكس معناها وتصبح سخريّتها واضحة لأنّ فيها تقبلّ لرداءة الماضي كونها ـ على الأقلّ ـ أفضل من رداءة الحاضر.

من دون شكّ، هناك أمور كثيرة في عالم اليوم تدفعنا إلى تكرار هذه العبارة بقصد السخرية، وكأنّ مصائب الماضي التي رفضناها وقاومناها كانت لتكون مقبولة لنا وكنّا لنهلّل لها لو عُرضت علينا الآن.

وصل عالمنا العربي، وربما العالم أجمع، إلى حضيض الحضيض، على صعيد الثقافة بمعناها المعرفي. حالتنا البائسة، في بعض جوانبها، ناتجة عن تردي الذوق العام واللهاث وراء المال والشهرة، لكن من أوصلنا إلى هذا الحال؟ إنها رداءة الحكّام الذين يتحكمون بمصائرنا، شئنا أم أبينا، وكلما ردّدنا أنّه من المستحيل أن يأتي رئيس أو وزير أو مدير أو.. أسوأ من الذي عرفناه، حتّى تأتي إلينا الأيّام بمن هو أسوأ بأشواط إلى حد الترحم على من سبقه إلى المقام نفسه، وهذه الظاهرة، كما أسلفنا القول، باتت ظاهرة عالمية بامتياز.

صحيح أن معظم الحُكّام من خرّيجي أرقى وأعرق الجامعات والمعاهد ومن حملة أغلى الشهادات، إلا أنهم أصبحوا مثل الحرفيّين الذين لا يفقهون إلاّ حرفتهم ولا يهمّهم أي شيء خارجها إلاّ إذ درّ عليهم منفعة ما. لذلك، يصح القول إن شهادات هؤلاء الحكام صُنِعت خصيصاً لتزيين الجدران.

لنسأل: كم من حكّامنا الحاليّين في العالم العربي يقرأ للمتعة الفكريّة والأدبية أو حتى يُنمي أفكاره؟ وكم منهم يحيط نفسه بأهل العلم، ليس للصورة فحسب، بل ليكون لهم قدوة حسنة وليتعمّق في العلم والفهم؟ هل يقرأ هؤلاء غير التقارير وهل يتابعون غير السوشيل ميديا؟ أليس هذا الجهل بأمّه وأبيه؟ والله الجاهل الغلبان أحلى بألف مرّة لأنّه ليس لديه شهادة يتبجّح بها أمام الناس.

نتحدّث أيضاً عن الصاحب بن عبّاد (ت. 995) الذي كان لا يرحل إلى أي مكان من دون مكتبته التي تتطلّب مئات الجمال لحملها معه في أسفاره، وكان يُقسّم وقته بين المطالعة والنقاشات العلميّة ومتطلّبات الوزارة

في الأمس البعيد، كان الحكم يتطلّب حكمة ومعرفة، وكان الحكّام يهمّهم أن يجذبوا إلى قصورهم وبلاطهم الحكماء والعلماء، ليسمعوا وينهلوا من علمهم وحكمتهم حيناً، وليجادلوهم من موقع المعرفة والتجربة أحياناً أخرى. الأمثلة في التاريخ الإسلامي كثيرة. مثلاً، يروى أنّ السلطان الأيّوبي الملك الكامل (حكم 1218-1238) درس الحديث والفقه واللغة والعلوم، وكان يمتحن العلماء في ديوانه. ولم يكن بمقدور أي فقيه أو فيلسوف أو عالم حساب أن يتشاطر عليه في فقه أو حديث أو تاريخ أو منطق أو هندسة. ويروى أنّه كان يأمر بتجهيز أسرّة لبعض العلماء تُوضع بجانب سريره لكي يقضي الليل في نقاشات علميّة أو دينيّة أو لغويّة معهم. وكان ديوانه يجمع أهمّ علماء عصره، أتوا إليه من أقاصي الأرض طمعاً بالمعرفة وأيضاً بالعطاءات الوفيرة التي كان يكافىء بها هؤلاء.

ويروى أنّ أخوه الملك المعظّم (ت. 1227)، الحاكم الأيّوبي لدمشق وجنوب بلاد الشام، درس كتاب سيبويه، وبرع في الحديث والفقه والقراءات القرآنيّة والشعر وعلم السيرة. ويقال إنّه حفظ كامل كتاب “المسعودي” في الفقه الحنفي، وألّف أيضاً كتاباً في الفقه، وكتاباً في عروض الشعر، وردّاً على الخطيب البغدادي في نقده لأبي حنيفة (كان الوحيد من بين الأيّوبيّين الذي تقيّد بالمذهب الحنفي بعكس باقي أفراد الأسرة الذين تبعوا المذهب الشافعي). ويقال إنّه كتب على أوّل “كتاب المسند” لأحمد بن حنبل (ت. 855) أنّه حفظه كاملاً، فعاتبه السبط ابن الجوزي (ت. 1256) في ذلك. فطلب المعظّم من السبط أن يسأله عن أي حديث في “كتاب المسند” وإذا عجز عن تلاوته، يمحي ما كتب. فسكت السبط وسحب عتابه.

ويمكن أن نتحدّث أيضاً عن الصاحب بن عبّاد (ت. 995) الذي كان لا يرحل إلى أي مكان من دون مكتبته التي تتطلّب مئات الجمال لحملها معه في أسفاره، وكان يُقسّم وقته بين المطالعة والنقاشات العلميّة ومتطلّبات الوزارة.

إقرأ على موقع 180  حوار عن الصين مع أركان كلية الحرب الفرنسية.. في واشنطن!

ويمكن أن نتحدّث عن بلاط الأمير سيف الدولة الحمداني (ت. 967) الذائع الصيت الذي كان ينشده الفلاسفة وعلماء الرياضيّات والشعراء و..

ليس بالضرورة أن كلّ حاكم متعلّم كان مثالاً للعدل والتسامح. فالخليفة المأمون مثلاً كان بطّاشاً، إزدهرت في وقته السجون، وأوصله علمه إلى أصوليّة دينيّة وفكريّة مقيتة. لكن ما يشفع له هو حبّه للمعرفة وتأسيسه بيت الحكمة (مع العلم أنّ ما يقال عن دوره أكثره يندرج في خانة الخرافات).

هؤلاء الحكّام كانوا رجال علم ومعرفة، شهدت أزمانهم فورات وصحوات علميّة وأدبية. وكانوا أيضاً ضمانة للناس من فساد العلماء أو استغلالهم للعلم لأجل أهوائهم وغرائزهم. كانت لهم القدرة على معرفة من هم حقّاً أهل العلم والمعرفة، وما الذي عليهم فعله من أجل صيانة ذلك ونشره. ولكن عندما يعجز الحاكم عن فهم العلم، تصبح المعرفة من دون راعٍ ومن دون بوصلة. وفي غياب الراعي والبوصلة، يصبح المال الذي يُصرَف على الجامعات والمعاهد أداة فساد وتبعيّة وغسل أدمغة، بدل أن يكون أداة معرفة ووسيلة لخلق نهضة تُحسّن المجتمعات وتُحصنها وتصونها.

إذا نظرنا حولنا اليوم، هل نجد أثراً لهكذا نوع من الحكام في العالم العربي أو غيره؟

لم يبقَ لنا إلا القول “ما أشبه اليوم بالأمس”، لنهرب من سوداويّة اليوم إلى ضبابيّة الأمس.

Print Friendly, PDF & Email
سليمان مراد

كاتب وأستاذ جامعي مقيم في الولايات المتحدة

Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
Download Best WordPress Themes Free Download
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  لنغادر أحزاب الصمت.. رأفة بالمستقبل العربي