خالد شوكت14/07/2022
كانت بيروت عندما جئتها سنة 1997 لحضور الدورة الثامنة للمؤتمر القومي العربي، وأنا لم أبلغ بعد الثلاثين من عمري، ما تزال تحمل آثار الحرب الأهلية، وكانت الكثير من مباني الحمراء والروشة والأشرفية وسواها من أحياء العاصمة اللبنانية، تحمل شظايا الرصاص والمدفعية، وكانت بيروت التي جئتها قبل أسابيع لحضور الدورة 31 للمؤتمر، مظلمة الشوارع حزينة لوقوع لبنان تحت وطأة أزمة مالية واقتصادية غير مسبوقة، من تجلياتها نقص حاد في الكهرباء وانهيار مريع لليرة وطوابير طويلة من الفقراءِ يسعون الى شراء ربطة خبز.
بين هذين الزمنين واجهت أُمَّة العرب محناً شتّى كقطع الليل المظلم وحروبا عالمية استهدفت عددا من أقطارهم التي رفضت أنظمتها مسايرة القوى الدولية المهيمنة وتمسكت بالحد الأدنى من المقاومة والممانعة والدفاع عن القضية الفلسطينية وحق الشعب الفلسطيني في الجهاد والنضال من أجل استعادة حقوقه المشروعة في تحرير أرضه واستقلال وطنه، إضافة الى فتن داخلية وثورات شعبية وانهيار أنظمة سياسية وقيام أخرى وسواها من أحداث جسام وتحديات كبرى وتراجعات جمّة واضطرابات لا مثيل لها.
وفي خضمّ كل هذه السياقات الصعبة والمعقّدة صمد المؤتمر القومي العربي كما لم تصمد أي مبادرة أهلية عربية أخرى، وصمدت بيروت كما لم تصمد أي عاصمة عربية أخرى، على نحو بقيت معه المدينة العربية الوحيد المضمونة لعقد المؤتمر عندما تغلق في وجهه جل العواصم العربية التي لا تطيق رسالته ولا تتحمل تعدديته وديمقراطيته واستقلاليته، وبعد ذلك يأتي مثقف عربي مرموق لطالما عاش في ركاب السلطة ثلاثين عاما على الأقل، ليكتب بعد دورته الاخيرة أنه مؤتمر السلطة لا مؤتمر الأمة، ولو كانت من خاصيّة وحيدة للمؤتمر لا يمكن اسقاطها عنه ابدا في اي تحليل موضوعي ونزيه لسيرته لكانت هذه: لقد كان مؤتمرا للأمة حقاًّ قاوم منذ انبعاثه في تونس سنة 1990 هيمنة أي نظام أو سلطة عليه واستمر مقاوما لأي هيمنة سلطوية عليه مهما كانت المغريات، ولأنه كذلك فقد استمر برغم كل هذه المحن التي واجهت الأمة وما تزال.
لم أكن يوما “قوميا عربيا” بالمعنى الكلاسيكي للكلمة، أي أنني لم أكن ناصريا ولا بعثيا ولا حتى ماركسيا عروبيا، لكنني “قومي عربي” بالمعنى الذي أقيم عليه وأرساه المؤتمر القومي العربي الذي أحدث قطيعة معرفية ونقلة نوعية في الفكر القومي العربي عندما جدّد ربط الأمة بالمشروع الحضاري النهضوي القائم على أعمدة ستة كانت وما تزال شديدة الاقناع بالنسبة لي، ولعل أهم عناصر التجديد التي فتحت أمامي وأمام أبناء التيارات الوطنية في بلدان المغرب العربي للالتحاق بالمؤتمر والعمل على نشر رسالته هي عنصر “الديمقراطية”، والتي أبدى المؤتمر من خلالها العديد من المواقف المتحفظة على سيرة بعض الأنظمة العربية ذات المرجعية القومية في مجال الحرّيات وحقوق الانسان والتعددية السياسية.
لم أكن ناصريا ولا بعثيا ولا حتى ماركسيا عروبيا، لكنني “قومي عربي” بالمعنى الذي أقيم عليه وأرساه المؤتمر القومي العربي الذي أحدث قطيعة معرفية ونقلة نوعية في الفكر القومي العربي عندما جدّد ربط الأمة بالمشروع الحضاري النهضوي
ولأنني أحاول أن أكون عروبيا ديمقراطيا حقيقيا، فقد تقبّلت منذ البداية التعايش مع زملاء أعزاء من بقية التيارات الفكرية والسياسية الموجودة في المؤتمر منذ تأسيسه، قد اختلف معهم في تقدير الموقف من عديد القضايا المتشعبة، بل المتناقضة والمتضاربة أحيانا، ولكنني لا أسمح لنفسي، كما لم يسمحوا لأنفسهم، بأن يقصي بعضنا بعضا أو يشترط بعضنا على بعض شروطا وجودية تجعل العمل المشترك مستحيلاً، وتلك مصيبة كثير من العرب لو تدرون، ومن هنا أزمة العمل الرسمي العربي وسرّ من اسرار فشل السلطات العربية في ادارة التنوع وبناء الجسور وتعظيم المشتركات.
إن هذه السيرة الطيّبة في التأسيس لعمل عربي مشترك، يعود الفضل فيها برأيي إلى عدة عوامل، من بينها مرجعية المؤتمر الفكرية مثلما أشرت الى ذلك آنفاً، إذ هي نتاج مراجعات عميقة ونقد موضوعي لمسيرة العمل القومي العربي منذ ظهوره قبل قرن من الزمان، الرسمي والحزبي والأيديولوجي، ولكنها كذلك نتاج وضوح الرؤية لدى قيادة المؤتمر التأسيسية، ممثلة خاصة في الدكتور خير الدين حسيب رحمه الله، وفي الاستاذ معن بشّور حفظه الله، فقد حرصت هذه القيادة على تنوع المؤتمر الفكري والسياسي واستدامته، حرصها على إستقلالية المؤتمر عن الأنظمة السياسية، بما في ذلك الأنظمة التي تلتقي مع المؤتمر في مواقفه الاساسية من قضايا الامة الكبرى، وانا شاهد على محاولات هذه الأنظمة في تطويع المؤتمر لصالحها بحجّة الالتقاء في الموقف من هذه القضية او تلك، لكنها باءت جميعها بالفشل، دون أن يكون ذلك طبعا على حساب نزعة المؤتمر المبدئية حيال القضايا القومية، وَكما تضامن المؤتمر مع العراق في تصدّيه للهجمة الإمبريالية والغزو الدولي الغربي دون تفريط في المؤتمر لصالح نظام الرئيس صدام حسين حينها، تضامن كذلك مع سوريا التي واجهت حربا كونية غايتها تقسيم الدولة السورية وتعطيل دورها في المقاومة من اجل فلسطين دون موالاة نظامه في طبيعته السياسية أو فقدان للقدرة في ابداء الرأي ازاء المواضيع الخلافية، أما الموقف التضامني مع الجمهورية الاسلامية الايرانية فناظمه الاساسي التقاء الرؤية حيال المقاومة وفلسطين، وانا على يقين بأن المؤتمر لم يكن قابلا، اليوم وغدا، لأي نوع من التبعية لطهران او سواها، التبعية التي يمكن ان تمسّ من الاستقلالية والمصداقية.
أما العامل الثالث، فيكمن بلا شك في تضحيات أعضاء المؤتمر حيث يتجشّم هؤلاء عناء السفر من بلدانهم على نفقتهم الخاصة ويغطون إقامتهم طيلة ايام المؤتمر بأنفسهم ومن حرّ مواردهم، ويدفعون ما استطاعوا اشتراكاتهم لصالحه على محدوديتها، لكنها كافية على اي حال لضمان هذه الاستقلالية في الموقف والقرار.
لأنني أحاول أن أكون عروبيا ديمقراطيا حقيقيا، فقد تقبّلت منذ البداية التعايش مع زملاء أعزاء من بقية التيارات الفكرية والسياسية الموجودة في المؤتمر منذ تأسيسه
وختاما أقول، إن الأمة العربية، هذه الأمة المركزية في خارطة العالم التاريخية والجغرافية، وعلى الرغم من تتابع الخطوب عليها، وشتى الأزمات والمحن والحروب والمظالم والهجمات والمخططات الشرّيرة التي استهدفت وحدتها واستقلالها الوطني وتجددها الحضاري، أمة أصيلة متجذّرة في تربتها، عظيمة في تكوينها وبنيتها وسيرتها، ستكون دائما عصيّة على مشاريع تصفيتها، وستظل من خلال حركة مفكريها ومثقفيها وعموم ابنائها قادرة على صناعة الامل واضاءة الطريق لها ولكافة الأحرار والمضطهدين والمستضعفين في الارض، وان جهاز مناعة هذه الامة لم ولن يموت، وليس المؤتمر القومي العربي الا احدى تجليات وأدوات هذا الجهاز، سيقوم بدوره في يقظة أمته وشعوبها وسيعمل على التأثير في قضاياها والدفاع عن مصالحها ما استطاع الى ذلك سبيلا، وسيتصدى لجميع حملات التثبيط والتشكيك والخنوع والاستسلام واحتقار الذات على الفعل والتغيير، وسيدعو أنظمة دولها وسلطاتها بكل وضوح ونقد واستقلالية للاضطلاع بواجباتها القومية واعلاء مصالح الامة الدائمة على مصالحها الضيقة المؤقتة.