غريتا نوفل14/08/2022
من الغابة الى المحترف ومن المحترف الى الغابة، هكذا يمضي آرام جوغيان وقته. فهو ابن الطبيعة، وهي أمه الدائمة. سعيد الحظ هو الإنسان الذي يختار هذا المسار. في محترفه الفني الفريد في نوعه، تتسع الرؤية من الحاضر الى الماضي، فهو يدعونا إلى السفر عبر تاريخ الفن الحديث ثم يعود بنا الى الحاضر بأعمال جديدة تطمح ان تثبت وجودها خارج الزمن المحدود.
يتناول آرام الألوان ليجسّد ما انطبع من صور في ذهنه، ولكنه سرعان ما يحوّلها الى كونشيرتو بصري ضخم نابض، مفعم بالحيوية كما هي الطبيعة التي يستعرضها في أعماله. يبدو لي وكأنه يعمل من خلال دقات قلبه. فهو لا ينقل الطبيعة ـ أو المشهد الطبيعي ـ إنما يعيد تركيبها بواسطة تلاعبه بالألوان وبشكل عفوي وانفعالي مرتكزاً على دفعة ريشته وتلقائية احساسه وطاقة حدسه.
متجددة هي الطبيعة وفي حركة دائمة – هي الحياة! يعرف آرام كيف يوظّف الشكل بمهارة وغريزة مدهشة لاستعمال الألوان: تجانسها وتوزيعها في حركة دائرية أو حلزونية أو أرابسكية. يعمل بالفطرة كما العصفور يغني – يدفع بنا الى عمق اللوحة ويدعونا الى التأمل في فضائها وفي تركيبها الفني.
قد تكون لوحات آرام تجريدية أو شبه تجريدية، مما يجعلني اتساءل هل التجريد ضرورة منطقية عنده؟ لا شك انه توصل اليها مدفوعاً بحب الألوان منذ طفولته وتوقه الى الحرية
ألاحظ كيف تتسرّع الناس بالحكم على أعمال الفنانين في هذه الأيام، وتدّعي معرفة أعمالهم قبل زيارة معرضهم الأخير أو محترفهم وكأن الزمن لم يمض، فيما هو يمضي بسرعة كبيرة. وكم تمنيت مراراً ان أجد مقعداً في صالة العرض لأجلس عليه وأدع الوقت يرافقني في تأمل اللوحة وخاصة التجريدية منها. فالوقوف والسير السريع يمنعنا من الاندماج كلياً في العمل التشكيلي ونمسي مشاهدين بسرعة استهلاكية بدل التأمل بتأنٍ مما يسمح للمخيلة والفكر بأخذ مجراهما الطبيعي.
يبدأ معرض “ألوان نارية” في صالة غاليري “تانيت” بلوحات تمثل الفصول الأربعة، وهو موضوع كلاسيكي يذكرنا طبعاً بمقطوعة المؤلف الموسيقي “فيفلدي”، ولكن مجموع اللوحات يخلق نوعاً من الحفل الأوركسترالي حيث المراجع تتعدد: موتسارت، بيتهوفن، باخ، تشايكوفسكي، بيزي.. وهنا تذكرت إلمام آرام من بعيد بالموسيقى الكلاسيكية والجاز.
وإذا تشابهت أعماله، قد تكون وليدة فكرة واحدة ولكنها غير متشابهة ومتجددة في كل مرة. لكل واحدة حالة تعبّر عن سحر الحياة وسر الطبيعة لمن يثابر في التأمل. وفي مواجهة هذا السر يسقط التحليل فتبدو لي لوحته نتيجة تأمل في الوجود. هل يلتقي هنا تأمل المشاهد مع تأمل الفنان؟ هل يكون هذا هو سر الفن؟
قد تكون لوحات آرام تجريدية أو شبه تجريدية، مما يجعلني اتساءل هل التجريد ضرورة منطقية عنده؟ لا شك انه توصل اليها مدفوعاً بحب الألوان منذ طفولته وتوقه الى الحرية.
عبّر آرام باللون عما يختلج في داخله مراراً فهو الثائر، والمتمرّد على التقاليد الفنية والظواهر الاجتماعية. اللون ميزته، هذا الأصفر الساطع أو الأزرق الشرح أو الأخضر الكثيف. الألوان الدافئة والباردة تكوّن مشاهد مؤثرة ومعبرة. اللون بين يديه يبحث عن حدوده ومساحته وسرعته. فقد وجد آرام توازنه عبر التوازن اللوني، ولوحته تسمح له بالتحرر من احاسيسه والتعبير عن فسحة الأمل. وهكذا تبقى الطبيعة مصدر إلهامه وملجأه الأول والدائم.
أمام اللوحة، لا يوظف آرام الهاجس التحليلي أو يبغى التعقيد، ولكنه يسرح بحرية تكاد ان تكون طبيعية. يشعر مع الألوان وهي بدورها تمده بطاقة الحياة وحرية النفس. تظهر لنا لوحاته صادقة وشفافة، ومهما يأتي النقد، يكون آرام قد استخرج العمل من باطن ذاته دون ادعاء وباشر بمشاركتنا رحلته رغم كل شيء.