ماذا إذا أشهر “الناتو” المادة 5 تهديداً أم تفعيلاً!

على مدى سبعة عقود خلت، ظلت المادة الخامسة من معاهدة واشنطن التأسيسية للحلف الأطلسى عام 1949، درعه الواقية للإرث الحضارى والديمقراطى المشترك لأعضائه، ورافعته الفاعلة لإرساء دعائم الأمن والاستقرار فى ربوع إقليم شمال المحيط الأطلنطى.
مصداقا لذلك، أقر نصها «اتفاق أعضاء الحلف كافة، على اعتبار أى هجوم مسلح ضد واحد أو أكثر منهم، فى أوروبا أو أمريكا الشمالية، عدوانا ضد الجميع». على أن يكون تفعيل هذه المادة، باعتماد حالة الدفاع الجماعى، متروكا لتقدير كل دولة عضو، كى تقرر حدود وطبيعة مساهمتها، وتحدد الآلية التى ترتضيها لمجابهة ذلك العدوان، ولو بشكل منفرد، استنادا إلى حق الدفاع الذاتى عن النفس، الذى تكفله المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة. حيث قضت المادة أن «يتم الدعم، على الفور، عبر اتخاذ الحلف للإجراءات التى يراها ضرورية، إن بشكل فردى، أو بالتوافق مع باقى الأطراف، بما فى ذلك استخدام القوة العسكرية، لاستعادة، والحفاظ على أمن منطقة شمال الأطلسى».
منذ انهيار الاتحاد السوفياتى عام 1991، تتهافت دول وسط وشرق أوروبا، لا سيما تلك التى كانت منضوية تحت لواء الكتلة الشيوعية وحلف وارسو البائدين، لنيل عضوية الناتو، التماسا للمظلة الحمائية التى تبسطها المادة الخامسة من ميثاقه. غير أن جدلا استراتيجيا حامى الوطيس، قد اندلع داخل الحلف منذ تطبيقه مادته العاشرة المتعلقة بسياسة «الباب المفتوح»، لجهة الآفاق التى ستبلغها تلك المظلة، والدول التى يمكنها الانتفاع بها. فغير مرة، أخفق بعض أعضاء الناتو، من غير المؤسسين، مثل تركيا، فى تفعيل تلك المادة والاستقواء بمنصتها الدفاعية. وبناء عليه، استنتج خبراء غربيون أن إعمال مبدأ الدفاع المشترك والأمن الجماعى الأطلسى، إنما يقتصر فقط على الدول الإثنتى عشرة المؤسسة للحلف، والتى احتلت قصب السبق فى التوقيع على معاهدة واشنطن التأسيسية للعام 1949، وهى: الولايات المتحدة، وبريطانيا، وفرنسا، وكندا، والبرتغال، وبلجيكا، والدانمارك، وأيسلندا، وإيطاليا، والنرويج، ولوكسمبورج، وهولندا.
رغم كونها سر وجوده، ظل الناتو حريصا، طيلة عقود مضت، على تجنب إشهار سيف المادة الخامسة، سواء من خلال التفعيل، أو حتى على سبيل التهديد. فعلى امتداد مسيرته، لم يجنح الحلف للتلويح باستخدامها سوى مرات ثلاث، وعلى استحياء مشوب بالحذر. كانت أولاها، إبان أزمة الصواريخ الكوبية فى أكتوبر/تشرين الأول 1962. حينما أبدت الدول الأعضاء استعدادها للتعامل الجماعى مع أى هجوم عسكرى، يمكن أن يشنه الاتحاد السوفياتى فى أوروبا، حالة إقدام الولايات المتحدة على تنفيذ خطتها باستهداف منصات الصواريخ النووية السوفياتية فى كوبا. وضمنا جاءت ثانيتها، على أثر احتلال روسيا لجزيرة القرم، عام 2014. فوقتئذ، أعلن الأمين العام للحلف، ينز ستولتنبرغ، أن الأزمة الأوكرانية قد أماطت اللثام عن أهمية الناتو، وعبقرية مبدأه التأسيسى للدفاع الجماعى، الذى تعاظمت أهميته، مع استشراء النزعة الروسية لاستخدام القوة بقصد تغيير الحدود القائمة بين الدول الأوروبية.
وأما ثالثتها، فانبلجت من رحم الحرب الروسية الأوكرانية، التى اشتعل أوارها فى فبراير/شباط الماضى، وسط مخاوف من أن تطال بلدان الحلف المتاخمة لأوكرانيا. خصوصا بعد انخراط الناتو فى تلك الحرب، على نحو غير مباشر، بتقديمه الدعم العسكرى، واللوجيستى، والاستخباراتى السخى لكييف. فإبان زيارته لبولندا يوم 13 مارس/آذار الماضى، لمؤازرة الدولة الأطلسية المجاورة لروسيا، أعلن الرئيس الأمريكى، جو بايدن، أن بلاده تعتبر المادة الخامسة من ميثاق الحلف الأطلسى حول الدفاع المشترك «واجبا مقدسا» يقع على عاتق جميع الدول الأعضاء. فى الأثناء، وبعد إطلاق القوات الروسية أكثر من 30 صاروخا، على قاعدة «يافوريف» العسكرية الأوكرانية الواقعة على بُعد 20 كيلومترا من حدود بولندا. قال مستشار الأمن القومى الأمريكى جيك سوليفان: «إذا أطلقت روسيا رصاصة واحدة على أراضى بلد عضو فى الناتو، فسيتم تفعيل المادة الخامسة من ميثاقه، وسيحشد الحلف كل قوته للرد، وستدافع الولايات المتحدة عن كل بوصة من البقاع الأطلسية». بدوره، جدد المتحدث باسم وزارة الدفاع الأمريكية، تأكيد بلاده على أن أى هجوم مسلح على عضو بالناتو يعتبر عدوانا على الجميع، يستوجب تفعيل ترتيبات الدعم العسكرى المشترك من قبل الأعضاء الأطلسيين قاطبة.
برغم وعود الحلف لفنلندا والسويد، هذه الأيام، بتوفير الضمانات الأمنية الكفيلة بحمايتهما طوال مرحلة استيفاء إجراءات العضوية، وتطمينه إياهما بشأن حتمية استفادتهما من مبدأ الأمن الجماعى فور إتمام الانضمام، يبقى تطبيق المادة الخامسة من ميثاق الناتو، خصوصا فى مواجهة روسيا، محاطا بمحاذير شتى
للمفارقة، لم تعرف المادة الخامسة من ميثاق الناتو، طريقها إلى التطبيق الفعلى سوى مرة يتيمة، وُلدت قيصريا بعد مخاض عسير ناهز نصف القرن، لنصرة أقوى أعضائه، وأدناهم احتياجا إليها. ففى رد منه على الهجمات الإرهابية التى استهدفت برجى مركز التجارة العالمى بنيويورك فى 11 سبتمبر/ايلول 2001، قرر الحلف فى اليوم التالى مباشرة، وللمرة الأولى فى تاريخه، تفعيل مبدأ الأمن الجماعى، لمؤازرة الأمريكيين فى الرد على تلك الهجمات. ومع ذلك، آثرت واشنطن عدم إشراكه مباشرة فى حملاتها العسكرية الانتقامية، التى شنتها فى أفغانستان عقب الهجمات. وما إن انخرط فى الحرب الأمريكية ضد الإرهاب بأفغانستان، حتى طفق الناتو ينشر قوات تابعة له خارج أراضيه، فى سابقة، كانت الأولى من نوعها. فبموجب المادة الخامسة، تولى الحلف، قيادة القوات الدولية، ذات التخويل الأممى (إيساف)، المنوط بها إحلال الأمن وحفظ السلام فى العاصمة الأفغانية كابول ومحيطها، خلال الفترة من عام 2003، إلى 2014. وبذلك، يكون الحلف قد اضطلع، لأول مرة منذ تأسيسه، بمهام عسكرية حول العالم.
انطلاقا من فهم حصيف للموجة المستحدثة من التحديات الاستراتيجية العابرة للحدود، كان لزاما على الناتو المسارعة فى استيعاب ومواجهة التهديدات الأمنية الجديدة التى باتت تحاصره، وتتربص بالأمن العالمى. فغير بعيد عن احتواء المد الشيوعى، والتصدى لتغول الاتحاد السوفياتى، أو تقويض طموحات وريثته روسيا الاتحادية، وجد الحلف نفسه بصدد تطبيق المادة الخامسة ضمن سياق حرب غير متناظرة. فعلاوة على مسارح العمليات غير التقليدية، والنائية عن دوائر المواجهة المتوقعة، شكلت التنظيمات الإرهابية التكفيرية، التى تُصنف استراتيجيا، بوصفها فواعل عنيفة دون مستوى الدول، عدوا جديدا، وخطرا لا يستهان به. وفى مسعى منه للتأقلم مع مستجدات البيئة الأمنية العالمية، والاستجابة لما أفرزته من تحديات مصاحبة لتعاظم خطر تنظيم «داعش” الإرهابى على الصعيد الكونى، وضم روسيا لشبه جزيرة القرم عام 2014، ثم غزوها أوكرانيا فى فبراير الماضى، مضى الناتو فى تكثيف وتطوير ترتيباته الأمنية، وتعزيز إجراءاته الدفاعية الجماعية فى مشارب استراتيجية متنوعة.
وبرغم وعود الحلف لفنلندا والسويد، هذه الأيام، بتوفير الضمانات الأمنية الكفيلة بحمايتهما طوال مرحلة استيفاء إجراءات العضوية، وتطمينه إياهما بشأن حتمية استفادتهما من مبدأ الأمن الجماعى فور إتمام الانضمام، يبقى تطبيق المادة الخامسة من ميثاق الناتو، خصوصا فى مواجهة روسيا، محاطا بمحاذير شتى. أبرزها: افتقار غالبية التدخلات العسكرية الأطلسية الكونية إلى مظلة الشرعية الدولية الأممية. فمنذ إنشائه، تلاحق الحلف اتهامات لاذعة بإعاقة وإضعاف دور الأمم المتحدة، فضلا عن تقويض الأمن والسلم الدوليين، وتكريس الانقسام والاستقطاب الاستراتيجيين. فمن جهة، لم يتأسس الناتو استنادا إلى المادة 52 من ميثاق المنظمة الأممية، التى تمنح الدول حق تأسيس تكتلات أو منظمات إقليمية. ومن جهة أخرى، لا يزال الحلف مُعرضا عن التنسيق مع الأمم المتحدة قبل لجوئه إلى استخدام القوة، مستنكفا عن الحصول على تفويضها القانونى الرسمى، حسبما تقتضى المادتان 53 و54 من ميثاقها.
وبقدرما تتمخض عنه عملية توسيعه المتواصلة، من إمعان فى عسكرة العلاقات الدولية، وإذكاء لسباقات التسلح، وتكريس للاستقطاب العالمى، يبقى الناتو معتصما باستراتيجية تفادى الصدام المباشر مع روسيا والصين. فلطالما حذرالرئيس الأمريكى بايدن، من مغبة تحول أية مواجهة بين ثلاثتهم إلى حرب عالمية ثالثة، لم يستبعد نظيره الروسى بوتين، تطورها إلى كارثة نووية مروعة. وبناء عليه، أبت القوى العظمى المتنافسة، إلا ترجمة رغبتهم المشتركة والملحة فى تجنب ذلك المآل المأساوى، إلى آلية اتصال ساخنة ومستدامة، حتى لا تسوقهم ارتدادات صراعهم الجامح على تَسَيُد النظام العالمى، إلى دفع البشرية نحو حافة الهاوية.
(*) بالتزامن مع “الشروق
Print Friendly, PDF & Email
إقرأ على موقع 180  إنفرجت كهربائياً بـ"لفلفة" الخلاف بين لبنان وسوناطراك!
بشير عبد الفتاح

كاتب وأكاديمي وباحث في مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية، القاهرة

Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  أردوغان ينتشر في إدلب.. فيختفي الجولاني