الإنتفاضة الثانية.. شارون يُشعل شرارتها (96)

في كتابه "انهض واقتل اولاً، التاريخ السري لعمليات الاغتيال الإسرائيلية"، يعرض الكاتب رونين بيرغمان للرواية الإسرائيلية لانطلاقة الانتفاضة الفلسطينية الثانية في العام 2000، ولا سيما دور أرييل شارون في إشعال شرارتها.

يقول رونين بيرغمان ان ما يسميه اليهود جبل المعبد “يسميه المسلمون الحرم القدسي الشريف وهو المكان الاكثر حساسية في العالم اليوم، اذ انه يقع في قلب المدينة القديمة في القدس، ويكتسب قدسيته من اعتباره موقع الصخرة التي خلق الله منها العالم وحيث طلب الله من النبي ابراهيم ان يضحي بابنه اسحاق، وهو المكان الذي يقع فيه المعبد اليهودي الاول والثاني كما انه المكان الذي كان يعظ به المسيح انصاره والمكان الذي اسرى منه النبي محمد مع الملاك جبريل الى السماء، وفيه ايضا يقع اليوم مسجد قبة الصخرة والمسجد. وخلال سنوات إنطلقت الكثير من المواجهات مع الفلسطينيين من هذا الموقع، ففي العام 1982 خطّطت مجموعة من الارهابيين اليهود لتفجير قبة الصخرة “لازالة النجاسة” كما وصفت هذه المجموعة الامر، على امل ان يؤدي ذلك الى حرب عالمية تؤدي بدورها الى تسريع عودة المسيح، وعلما انها فشلت في مهمتها فان استراتيجيتها لم تنتف كليا، فاي حادثة كان من شأنها ان تتحول بسرعة الى ما يشبه كرة الثلج وبعدها الى انهيار ثلجي مخيف”.

إشتباكات تتحول حرباً

يتابع بيرغمان ان أرييل شارون “كان على بينة من هذا الامر، وبصفته زعيما للمعارضة بوجه حكومة ايهود باراك، قرر ان يواجه باقصى طريقة ممكنة استعداد باراك لان تتنازل إسرائيل عن سيادتها على جبل المعبد. ففي 28 سبتمبر/ايلول (2000) قاد شارون مجموعة من سياسيي حزب الليكود اليميني محاطة بالمئات من رجال الشرطة في تظاهرة داخل الموقع المقدس وصرح قائلا “من حق كل يهودي في إسرائيل ان يزور جبل المعبد ويصلي فيه، فجبل المعبد هو لنا”. وكان الفلسطينيون يتجمهرون هناك ايضا ويهتفون “جزار بيروت.. قاتل النساء والاطفال” وسرعان ما اشتبكوا مع رجال الشرطة المواكبين لشارون. ومع صلاة الصبح في اليوم التالي فان اذاعة فلسطين ومآذن المساجد أدانوا ما قالوا انها “محاولة إسرائيلية لتدنيس الاماكن الاسلامية المقدسة”، وقد تجمع قرابة العشرين الفاً معظمهم من الشباب الغاضب بانتظار انتهاء الصلاة في المسجد الاقصى، العديد منهم كان مسلحا بالعصي والحجارة وادوات اخرى إنهالوا بها على رجال الشرطة والمصلين اليهود عند الحائط الغربي، فقتل في اعمال “الشغب” هذه سبعة فلسطينيين واصيب اكثر من مئة بجروح، وتطور العنف في اليوم التالي ليمتد الى الاراضي الفلسطينية المحتلة (يعني بها الضفة الغربية) والمناطق الإسرائيلية التي يسكنها العرب، قتل خلالها 12 رجلاً وطفلاً من عرب إسرائيل (بالاضافة الى فلسطيني ويهودي إسرائيلي)، وخلال وقت قصير تحولت الاشتباكات المحلية الى حرب”.

هذا الرجل (شارون) لم يكن ليقف عند الاشارة الحمراء كما تقول الاغنية، وكان لسنوات محل ازدراء عام ومكروه على الرغم من انه كان عضوا في الكنيست وفي الحكومة المصغرة

وفي عالم الاجهزة الاستخبارية الإسرائيلية “عاد النقاش مجددا لمعرفة ماذا يدور في عقل الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات ـ كما يقول رونين بيرغمان ـ وكان كبار القادة في جهاز “أمان” وفي الجيش الإسرائيلي، وبالاخص موشيه يعالون، يعتقدون ان الانتفاضة الجارية هي جزء من خطة معقدة أعدها عرفات مسبقا وانه “يتولى ادارة النيران” من مكتبه، في البدء كانت تظاهرات “عفوية” من تنظيم الناس ومن ثم تم إطلاق النار على الجنود الإسرائيليين من وسط الحشود المدنية وبعدها شُنّت هجمات مسلحة على الجنود والمستوطنين اليهود”.

وينقل بيرغمان عن رئيس الاركان حينها شاوول موفاز قوله “ان عرفات يحاول ان يحقق انجازات دبلوماسية عبر اراقة الدماء الإسرائيلية”. ولكن في المقلب الاخر فان جهاز “الشين بيت” كان يعتقد ان عرفات لم يملك هكذا خطة وان الحرب بدأت باعمال عفوية قام بها شبان غاضبون ومحبطون بسبب عدة امور – بعض هذه الامور هي شان داخلي فلسطيني – ليركب على هذه الاعمال لاحقا قادة فلسطينيون محليون، وقد ادت التظاهرات الى رد فعل عنيف من الجيش الإسرائيلي الذي كان على اهبة الاستعداد لمواجهة انطلاقة العنف، وقد ادى هذا الرد الى سقوط عدد كبير من الفلسطينيين بين قتيل وجريح ما ادى الى زيادة التدهور في الاوضاع، وبحسب “الشين بيت”، فان عرفات انجر بحكم تطور الاحداث وتسارعها.

افراهامي ونورجيتز

يتابع بيرغمان روايته للاحداث في تلك الفترة من منظور بحت إسرائيلي فيقول: “يوسي افراهامي هو رجل اعمال مستقل من منطقة بتاح تكفا وله من العمر 38 سنة. متزوج وله ثلاثة اولاد، وفي اوقات فراغه كان يتطوع بصفة مساعد ضابط شرطة سير، وكان فاديم نورجيتز يصغره بثلاثة اعوام وهو اصلا من مدينة ايركوتسك الروسية ويعمل سائق شاحنة. الإثنان ليسا جنديين محترفين ولكنهما كأي يهودي إسرائيلي كانا في الاحتياط في حالة استعداد دائم لتعزيز قدرات الجيش الإسرائيلي. وباتت الانتفاضة الفلسطينية الثانية كما يعرفها الفلسطينيون والإسرائيليون تتطلب تعزيزات للجيش فتم استدعاء افراهامي ونورجيتز للخدمة في اول اكتوبر/تشرين الاول عام 2000 لتأمين حراسة الحافلات المدرسية للمستوطنين ضد هجمات الفلسطينيين. في اليوم التالي وفيما كانا في سيارة نورجيتز في طريقهما الى القاعدة (العسكرية)، فقد سلكا بالخطأ طريقا قادهما الى مدينة رام الله في الضفة الغربية حيث كانت تقع اعمال شغب في الاسابيع المنصرمة وحيث قتل عدد من الفلسطينيين برصاص الجيش الإسرائيلي، وكان التوتر في ذروته عندما دخلت سيارتهما المدينة، فرأى المارة اللوحة الصفراء للسيارة وبدأوا يرشقونها بالحجارة. حاول الرجلان الفرار لكنهما وقعا في زحمة سير حيث كان الطريق مقفلا تماما. قام رجال الشرطة الفلسطينيين بسحبهما من سيارتهما عند احد الحواجز، وصادروا اسلحتهما واقتادوهما الى مركز الشرطة للاستجواب، ثم تركوهما تحت رحمة جمع من المتظاهرين الغاضبين المتجمهرين خارج مركز الشرطة حتى لفظا أنفاسهما (…).. لقد ترك هذا الحادث تأثيرا بالغا على الرأي العام الإسرائيلي الذي رمى بالمسؤولية، وكان محقا بذلك، على السلطة الفلسطينية لان عناصرها لم تؤمن الحماية لهذين الإسرائيليين بل فعلت العكس، اذ اعتقلتهما من دون اي سبب وسمحت للمتظاهرين بقتلهما داخل مركز الشرطة”.

عرفات مشكلة وليس حلاً!

وحسب رواية بيرغمان “اعتبر جهاز “الشين بيت” ان الاعدام غير القانوني لهذين الرجلين كان “هجوما رمزيا” يستوجب ان يتم قتل مرتكبيه تماما كما “جرى مع الذين ارتكبوا مجزرة ضد الإسرائيليين خلال الالعاب الاولمبية في ميونيخ”، بحسب “الشين بيت”. وكانت مطاردة منفذي هجوم ميونيخ استمرت لاشهر وسنوات. ووفقا لرأي العديد من القادة الإسرائيليين فان هذا الهجوم كان خيانة موصوفة ويشكل برهانا على ان هدف السلطة الفلسطينية – امتدادا الى هدف عرفات ايضا – لم يكن السلام بل تصعيد الصراع، ومن تلك النقطة اصبحت السلطة الفلسطينية وعرفات نفسه يعاملون على انهم باتوا جزءا من المشكلة. وبعد عملية الاعدام غير القانونية صعّد الجيش الإسرائيلي استخدامه للقوة وبات يستخدم الرصاص الحي ضد المتظاهرين بصورة متواصلة، كما اطلق الجنود النار على رجال الشرطة الفلسطينية ايضا وقام بتفجير مقراتهم ليلا عندما تكون شبه خالية، ومع نهاية العام 2000 كان عدد القتلى الفلسطينيين قد بلغ 276 قتيلا. حمام الدم هذا كان بمثابة كارثة لايهود باراك، فعملية السلام باتت عرجاء بعد فشل لقاء كامب ديفيد مع عرفات، والانتفاضة الفلسطينية جعلته تائهاً وفاقداً للفعالية، وبات يُحمّل عرفات المسؤولية بصورة علنية ومتكررة عن كل ما حدث، ولكن ذلك لم يؤد سوى الى جعله يبدو في نظر الرأي العام الإسرائيلي اكثر فشلا لانه وثق اساسا بالزعيم الفلسطيني. كما ادى اصراره على مواصلة عملية السلام مع عرفات الى انخفاض شعبيته الى مستوى غير مسبوق، وقد وصفه مساعدوه في الاشهر الاخيرة من ولايته بانه بات مهووسا وفاقدا للتركيز ولاي احساس بالاتجاهات، وقد بدأ تحالفه الحاكم بالتفكك وهكذا فقد اجبر في شهر ديسمبر/كانون الاول على الدعوة الى انتخابات مبكرة في فبراير/شباط عام 2001. وفي هذه الانتخابات هزم باراك من قبل الرجل نفسه الذي تسبب بانطلاقة الانتفاضة عبر الاستفزاز الذي قام به في جبل المعبد، اي ارييل شارون”.

ولكن شارون كان يرى السياسة كدولاب الهواء، كما يقول بيرغمان. “اعتاد (شارون) على القول “احيانا تكون فوق واحيانا تكون تحت، فما عليك الا أن تبقى راكبا فيه”. وفي مطلع العام 2001 عندما كان الإسرائيليون بأمس الحاجة إلى قائد قوي يستطيع ان يوقف العنف فقد تمكن من هزيمة باراك بالتفوق عليه بنسبة 25 في المئة

شارون.. شارون

إقرأ على موقع 180  "سيكول ميموكاد" (القتل المتعمد).. صار مُنتجاً إسرائيلياً (100)

لقد كان شارون، بحسب ما يقول بيرغمان، “منبوذا سياسيا لمدة عقدين من الزمن تقريبا، اي منذ ان خطّط لغزو لبنان (1982)، وحتى انه اجبر على اخلاء مكتب وزير الدفاع في العام 1983، ولكن مغامرته العسكرية الخاطئة – خطته المتهورة لاعادة رسم كل خريطة الشرق الاوسط – تجرجرت لثمانية عشر عاما وكلفت إسرائيل 1216 قتيلا واكثر من خمسة الاف جريح ناهيك عن الالاف من القتلى اللبنانيين. اعداد غفيرة من المتظاهرين نزلت الى الشوارع تهتف قائلة انه قاتل ومجرم حرب فيما فرضت الولايات المتحدة عليه مقاطعة غير رسمية، اذ لم يسمح الا لموظفين صغار لديها بمقابلته عندما يذهب الى امريكا، حتى ان اللقاءات كانت تتم في فندقه وخارج ساعات الدوام الرسمي، فهذا الرجل لم يكن ليقف عند الاشارة الحمراء كما تقول الاغنية، وكان لسنوات محل ازدراء عام ومكروه على الرغم من انه كان عضوا في الكنيست وفي الحكومة المصغرة”.

ولكن شارون كان يرى السياسة كدولاب الهواء، كما يقول بيرغمان. “اعتاد (شارون) على القول “احيانا تكون فوق واحيانا تكون تحت، فما عليك الا أن تبقى راكبا فيه”. وفي مطلع العام 2001 عندما كان الإسرائيليون بأمس الحاجة إلى قائد قوي يستطيع ان يوقف العنف فقد تمكن من هزيمة باراك بالتفوق عليه بنسبة 25 في المئة. وعلى الفور ظهر الفرق واضحا، اذ يقول المساعدون الذين بقوا في مكتب رئيس الوزراء بعد مغادرة باراك ان الجو اصبح اهدأ واثبت، فقد كان شارون تماما عكس باراك، دافىء ومنتبه جيدا لتقلبات مزاج العاملين معه وحريصا على اظهار الاحترام للجميع، وبصورة عامة كان شكاكاً ولكن ما ان يصل الى الشعور بان الشخص امامه موقع ثقة كان يعطيه اكبر قدر من الحرية”.

وينقل بيرغمان عن السكرتير العسكري في مكتب شارون الضابط يؤاف غالانت قوله “عندما كنت آتيه بخبرهجوم انتحاري، كنت ارى كيف ان قلبه ينكسر، فقد كان ذلك يتسبب له بألم شخصي وكان يعتبر ان اي طفل او امرأة او رجل من إسرائيل يقتل في حافلة او في مركز تسوق، بمثابة احد اقاربه او عضوا من اعضاء عائلته”. يتابع بيرغمان ان شارون “حدّد الطريق التي من خلالها سيوقف اعمال العنف”، وينقل عن غالانت قوله “لقد بث في كل واحد منا الثقة باننا على طريق الانتصار في هذه الحرب، الحرب على الارهاب. وكما قال نابليون فان الالوية الرومانية لم تتجاوز الحدود ولكن يوليوس قيصر تجاوزها، وكان شارون القائد الذي يمكنه ذلك وقد قاد الحرب على الارهاب”.

الشين بيت لا الجيش

يختم بيرغمان هذا الفصل بالقول “فور توليه رسميا منصب رئيس الوزراء، اعلن شارون انه لن تكون هناك مفاوضات سياسية في ظل استمرار “الهجمات الارهابية”، واضاف، فقط عندما يسود الهدوء فان إسرائيل ستعود إلى طاولة المفاوضات، وفي الوقت نفسه ضغط على الجيش الإسرائيلي و”الشين بيت” لتصعيد عملياتهم قائلا لقادتهم “فكروا من خارج الصندوق، آتوني بافكار خلاقة”. وكان يُذكّر من هم حوله باوقاته الصاخبة في الوحدة 101 في خمسينيات القرن الماضي وكيف ان مائير داغان تحت قيادة شارون نجح في اصطياد الارهابيين في سبعينيات ذلك القرن. كان لشارون شكوكه بقدرات الجيش الإسرائيلي مذ كان وزيراً للدفاع في اوائل الثمانينيات، مركزا شكوكه على ان الجيش “خسر ثباته وشجاعته على مر السنوات”، ولم يكن يثق بضباط الجيش ايضا ربما لانه يعرف انه هو نفسه كان يكذب على السياسيين عندما كان عسكريا ويخدع رؤساءه كي يسمحوا له بتنفيذ بعض العمليات. كان يشعر ان ضباط الجيش يخشون الفشل ولهذا فقد كان “مقتنعا ان كبار القادة كانوا يكذبون عليه كي يتهربوا من تحمل المسؤولية”، بحسب ما يقول غالانت. ومن جهة اخرى، كان شارون يشعر بالراحة مع “الشين بيت” وله ثقة كبيرة برئيسه افي ديختر، وفي الحرب على الارهاب، الملف الذي إحتل رأس سلم اولوياته والاكثر اهمية لديه، اعتمد شارون بصورة متزايدة على هذا الجهاز واعطاه مهمات اكثر وسلطات اوسع”.

Print Friendly, PDF & Email
Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
online free course
إقرأ على موقع 180  إسرائيل تتصرف كميليشيا في جنوب لبنان: إقتلوهم كلهم! (41)