جورجيا ميلوني تحفر سيرتها.. بأظافرها!

من تكون جورجيا ميلوني؟ إختلط حابل الصح من الأجوبة بنابل الغلط منها. جورجيا ميلوني إمرأة إيطالية شقراء تحب موسوليني. فاشية. يمينية. عنصرية. أمية. عصرية. متعصبة. كلاسيكية. تكره المثلية واللاجئين. فقيرة. نادلة مطعم. آتية من أزقة روما الخ..

عند البحث الدقيق، في ما هو أعمق من سطح الـ”ماينستريم ميديا”، نجد بطاقة شخصية لجورجيا ميلوني، مختلفة عن تلك التي أطلت من على منبر الحزب اليميني الأسباني الشعبوي الحليف “فوكس”، قبل بضع سنوات وصرخت بما ألهب الجماهير:

“أنا جورجيا، أنا إمرأة، أنا أم، أنا إيطاليّة، أنا مسيحيّة”.

هذا الخطاب، أعيد نسخه ونشره آلاف المرات أحياناً مع موسيقى وفي كل مكان، للدلالة على “الخطر اليميني الآتي”. في معظم الوكالات العالمية سنجد هذا المقطع:

***

تصفحت مواقع وأقنية تلفزيونية عالمية، لأجد أن البعض استحضر ناجية من الهولوكوست لتدلي برأيها عن جورجيا ميلوني إبنة الـ 45 عاماً. إليكم مثلاً البورتريه الذي حمل توقيع “سي. بي. إس”.

حتى إنه لشدة قساوة حملة شيطنتها، قام يوتيوب بحذف مقاطع من خطابات ومقابلات لها. أمر استدعى حلقة حوارية صباحية شاملة على شبكة “ذي هيل”.

إسم حزبها “إخوة ايطاليا”، وتاريخها السياسي كان مادة كافية لتصنيفها “موسولينية صغيرة” آتية من ظلمات الحرب العالمية. لم يُقدّم لنا الإعلام العالمي بطاقة تعريف بل بطاقة “تخويف” من المرأة ومعاني فوزها، قبل أن تبدأ عملية التصويت في إيطاليا الكبيرة جداً. إيطالياً المتنوعة جداً، إيطاليا التي تعيد تعريف اليمين واليسار لنفسها.

***

أن تصل امرأة للمرة الأولى في تاريخ إيطاليا إلى رئاسة حكومتها، ربما يُصنّف ذلك في خانة “الإنجازات النسوية” لتيارات ليبرالية تتباهى بأيقونتها الأميركية. لكن جورجيا ميلوني، الشخصية المختلفة، تحتمل الكثير من المعاني السياسية بوصولها. وربما لهذا وصفها ماركو كارنيلوس، المستشار المخضرم لرئيس الحكومة الإيطالية السابق سيلفيو برلسكوني، بأنها تُجسّد زلزالاً هزّ السياسة في إيطاليا.

السفير السابق ومستشار السياسة الدولية لرئيس الوزراء ماركو كارنيلوس حدثني بإنكليزيته الجيدة جداً، عن معاني فوز ميلوني. يقول بداية: “لا أستطيع أن أعطي حكمي على شخصيتها، فقد التقيتها مرة واحدة منذ خمس عشرة سنة حين كانت وزيرة للشباب وكنتُ مستشاراً دبلوماسياً. أمران لفتا إنتباهي في شخصيتها: التواضع والثقة بالنفس. سيّدة مهمومة بالتعلم وإستكشاف كل ما لا تعرفه. وفي الوقت عينه، ثقتها بنفسها عالية جداً، بمعنى أنها تعرف كيف تجري الأمور في العالم. المؤكد أن هذه المرأة وصلت بنفسها بل “حفرت بأظافرها” كي تصل بجدارة إلى عالم السياسة”.

***

لنبحث قليلاً في شخصية هذه الشقراء الصغيرة في عمرها والكبيرة في فعلها، أقله بمزاج 26 بالمئة من الشعب الإيطالي بموجب الإنتخابات الأخيرة.

برغم أن أكثر خطاباتها حدّة، بحسب الرصد السريع، كان عام 2014 حين قالت جِهاراً إنها ضد السماح للمثليين بالتبني، وأنها مع العائلة الكلاسيكية، سنكتشف أن جورجيا الأم، أم عازبة، وأنها ليست متزوجة من والد “جي جي” إبنتها الحاضرة في حسابها على انستغرام من دون إظهار وجهها. “جي جي”، وإسمها جينيرفا ولدت عام 2016، ثمرة حب بين جورجيا ميلوني (45 عاماً) وأندريا غامبرونو (41 عاماً) الإعلامي في شبكة يملكها برلسكوني.

يبدو أن الأسرة التي كوّنتها جورجيا نفسها، عصرية بعض الشيء، أقلّه في العلاقة ونمطها. صرّح أندريا بأنه ليس من الضروري أن يكون صوّت لها. وأنه لا يُشاركها وجهات نظر عديدة حتى في بعض جوانب تربية إبنتهما.

لا يُمكن أن نفصل تربية جورجيا لإبنتها عن مسار الأم الشخصي. هنا تتضارب الآراء، لكنها تجمع على بُؤس طفولتها. يُقال إن والدها هجر أمها حين ولدت، وفي مقال آخر يُقال إنه ترك العائلة حين كانت جورجيا بعمر العشر سنوات. وجهة النظر الثالثة قد تكون الأصح: إبنة رجل كان عضواً في الحزب الشيوعي الإيطالي. كان مدمناً على الكحول والمخدرات. رُميَ خلف قضبان أحد السجون في إسبانيا بينما كان يحاول تمرير كمية من حشيشة الكيف مصدرها المغرب. وعندما مات وهي في العاشرة من عمرها، لم تكن قادرة على البكاء. أمر لا تجد تفسيراً له حتى الآن.

المؤكد أيضاً أنها ليست إبنة روما أباً عن جد. بل ممن أتوا إلى المدينة يكافحون. والدها من جزيرة سردينيا، وامها من سيسيليا. والدها تركها وأختها أريانا بعهدة الام قبل ان ينتقل إلى جزر الكاناري. تركت الوالدة بصمتها في إبنتيها لكن لجورجيا شخصية مفضلة ومؤثرة في حياتها. إنها شقيقتها أريانا. للمناسبة، يُحكى في بعض الصحف المحلية أن زوج أريانا قد يصبح وزيراً في حكومة جورجيا ميلوني..

نحن أمام امرأة عملت لثلاثين عاماً من عمرها بالسياسة. كافحت وامتهنت العديد من المهن. قبل أن تكون صحافية أو سياسية، عملت كنادلة ومربيّة، وكذلك كساقية في حانة. تنوّع تجربتها إن دل على شيء، فهو يدل على مرونة وذكاء وقدرة على التكيّف. هذه من مقومات السياسي الشعبي الناجح. لو إستعدنا هنا سيرة موسوليني. سنجد أوجه شبه بين الإثنين: موسوليني وميلوني. المنابت الفقيرة. العائلة المفككة. الأب السكير. الأم تترك بصمتها. اللعب في ملعب السياسة والصحافة. في التاسعة والثلاثين أصبح موسوليني أول ديكتاتور فاشي يحكم ليس في إيطاليا بل في أوروبا. في التاسعة والثلاثين صارت ميلوني نائبة للمرة الأولى، لتتأخر ست سنوات قبل أن تحكم إيطاليا. إكتشفا مواهبهما الخطابية في العمر نفسه. موسوليني أحب فتاة تصغره بعشر سنوات. ميلوني أحبت شاباً يصغرها بأربع سنوات. شكّلت الأزمة الإقتصادية التي واجهت أوروبا في عشرينيات القرن الماضي رافعة لصعود موسوليني، تماماً كما تُشكل الأزمة الإقتصادية اليوم رافعة لليمين المستمر في إيطاليا أو العائد إلى العديد من ساحات السلطة في أوروبا.

إقرأ على موقع 180  البلقان.. برميل بارود

***

ابنة أزقّة روما، صاحبة اللكنة الخاصة بمدينة روما، جورجيا ميلوني بدأت حياتها السياسية بعمر الـ15 عاماً. فازت بأول انتخابات نيابية بعمر 29 عاماً. كانت أصغر وزيرة في تاريخ بلادها عن 31 عاماً. وها هي تسجل رقماً قياسياً جديداً كأول امرأة تقود الحكومة في تاريخ إيطاليا.

تقول جورجيا إنها تعتقد أن موسوليني كان سياسياً جيداً. لم تقل إنها تحبه. ولكن ما علينا، من يعتقد أن جورجيا ميلوني الأكثر يمينية، عليه أن يشاهد هذا الوثائقي لمارك لوين في شبكة “بي. بي. سي” ويظهر فيه حليفها المستجد: ماتيو سالفيني اليميني الإيطالي الأكثر تطرفاً.

الباقي من دلائل على فاشيتها، بحسب العديد من الكتّاب، هو شعار “الله – الوطن – العائلة”، الشعار الكتائبي نفسه الذي نعرفه في لبنان، كان شعار حزبها أحد دلائل تصنيفها “فاشية”.

من داخل قبة البرلمان إلى منابر الخطابات إلى المشادات السياسية على الصعيد الأوروبي، جورجيا تعرف أن تؤدّي، لكن هذا ليس كافياً لقيادة إيطاليا.

تنوع الكتل، هشاشة الأحلاف، حجم الأزمات، كلها كفيلة بإمكان سقوط الثقة. هنا على جورجيا اللعب بحذر بين حقلي ألغام السياسة الإقتصادية الداخلية، وألغام السياسة الخارجية ولا سيما الأزمة الطاقوية غير المسبوقة منذ الحرب العالمية الثانية.. وإلا قد يتغير المزاج الإيطالي العام!

يتساءل البعض لماذا يجنح الإيطاليون إلى اليمين المتشدد؟ ذلك الذي بصوت جورجيا ميلوني يصرخ بأوضح يمينه بوجه لاجئي أفريقيا مثلاً حين قالت: أنظروا إلى اللاجئين من حرب أوكرانيا، عوائل نساء وأطفال، والرجال يحاربون في الجبهات/ ما يأتينا من لاجئين هم عبارة عن رجال راشدين. يبدو أنهم يتركون النساء والأطفال ليقاتلوا ويأتون على متن الزوارق يحملون معهم بطالة وجريمة.

وحين تجرّأ وردّ عليها اليساري الأوروبي الليبرالي إيمانويل ماكرون، قائلاً إن حديثها مقرف ومخزٍ، ردّت على رئيس فرنسا بصوت أعلى: العار أن تسرقوا إفريقيا، العار أن تحموا سياسات النهب وعمالة الأطفال.

يقول لكم الطليان: من يسألك عن سبب جنوح إيطاليا إلى اليمين قل له إن الإيطالي في مكانه، هو ينتخب من يقترح حلولاً. لم تعد أولويته الحقوق المدنية بل الإجتماعية. المأكل والمشرب والعمل قبل المثلية. الكل برهن فشله. ميلوني نفسها تعرف أنها لن تحكم إيطاليا إذا لم تؤدِ دوراً مكتوباً مسبقاً: يبدأ في تبني لغة العداء لروسيا، دعم أوكرانيا، التشديد على أهمية اليورو، ولا ينتهي عند التأكيد أن حزبها مثل الليكود الإسرائيلي والحزب الجمهوري الأميركي. حزب محافظ وليس حزباً فاشياً، على حد تعبيرها.

بين إيطاليا واليمين الأوروبي، معمودية جديدة إسمها جورجيا ميلوني. قد يختلف إثنان على مآربها في المستقبل حيال بلادها. لكن ما لا يختلف عليه اثنان هو: تهيّبها من المساجد، حذرها من العلاقات مع الحكومات العربية، واستعدادها الدائم للإدلاء بذلك. جولة صغيرة في الإنستغرام الخاص برئيسة الحكومة الإيطالية المقبلة، ستجدون ما لم يقله أحد في كل أوروبا عن كل من الإمارات، السعودية، وقطر.

***

في الختام، وكلما بحثت عن سيرة ميلوني ستجد نفسك أمام خلطة من التناقضات. لم تدخل جورجيا إلى الجامعة. من البديهي أنه لم يكن لديها وقت حتى تكون تلميذة نموذجية. ففي ريعان شبابها كانت تلتقي الإعلام العالمي ومنه الفرنسي، لتخبر عن قضيتها.. وعن اليمين. وقبل أن يتم حل الحزب الذي كانت تنتمي إليه، سجلت جورجيا مقابلة وهي في عمر المراهقة وفيها تظهر والدتها أيضاً.

Print Friendly, PDF & Email
غدي فرنسيس

صحافية، لبنان

Free Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  البلقان.. برميل بارود