ظهر التصوّف في الإسلام في القرن الثالث للهجرة (القرن التاسع الميلادي)، وهو نتاج عوامل كثيرة، أبرزها، داخلياً، النقاش حول تعريف الإسلام وشعائره ومعتقداته حيث جرى التركيز على ممارسة الطقوس والمناظرات الكلاميّة وتم تجاهل البعد الروحاني. لذا، فإن أول من لقّبوا بالمتصوّفة هم من طالبوا بضرورة التركيز على البعد الروحاني وعلى تكامل العلاقة بين الله والإنسان. أما خارجياً، فقد تأثر المسلمون بالممارسات الدينيّة والفلسفة الروحانيّة في محيطهم، خصوصاً في وسط آسيا وغرب إيران وشمال غرب الهند، والتي كان يمارسها بعض البوذيّين والهندوس، والتي مزجت بين الروحانيّات والفلسفة والزهد. إذاً، ليس مفاجئاً أن نجد بداية التصوّف وتمكّنه في هذه الجغرافية المشبّعة بأفكار فلسفيّة روحانيّة زهديّة.
وفي بلاد الشام ومصر تحديداً، أخذ التصوّف شكلاً مختلفاً في بدايته، كون الأرضيّة التي بُني عليها كانت متأثّرة بممارسة الزهد المسيحي أو الزهد اليهودي. في البعد اليهودي، أخذ بعض المسلمين عادة الزهد المعتدل، أي قبول الدنيا ومتعها (كون رفضها هو رفض لمن أعطاها للبشر، أي الله)، لكن من دون إفراط أو شره. بينما كانت الممارسة المسيحيّة أقسى في مقاربتها لهذه الأمور، وأنتجت حالة زهد شديد رافقتها عزلة عن الناس وعيش في الأديرة والصوامع. لكن إجمالاً، ولعوامل كثيرة، ابتعد الزُهّاد المسلمون عن المقاربة المسيحيّة للزهد، وفضّلوا ممارسة الزهد داخل مجتمعاتهم بدل الإنعزال عنها (ومن النادر أن نجد زاهداً منهم لم يتزوّج)، وأدخلوا عليه فكر التصوّف المشرقي.
قبل القرن التاسع عشر، كان التصوّف جذّاباً للمفكر الذي يرى فيه متعة عقليّة وثراءً فكرياً، ولعامّة الناس (الفقير والأمّي بشكل خاصّ) يجدون فيه نوعاً من الرعاية الربّانيّة والخلاص الإلهي
بقي هذا الديالكتيك بين الزهد الشديد (كان يمارسه أيضاً بعض أهل التصوّف في البلاد المشرقيّة نتيجة تأثّرهم بالتجربة الهندوسيّة والبوذيّة) والزهد المعتدل موجوداً داخل الفكر الصوفي، إذ نجد التركيز في كتبهم وممارستهم على العزلة، والفقر، وذم التنعّم في الدنيا، إلخ.. يقابله ترويج لممارسة القناعة، والتواضع، وطلب الحلال، إلخ.
في الحالتين (المشرقيّة والمغربيّة)، طوّر المسلمون فكر التصوّف بطرق شتّى ليكون فكراً إسلاميّاً بامتياز. لذلك أوجدوا له الأرضيّة القرآنيّة (كما سأذكر لاحقاً)، وأسندوه بأحاديث نبويّة، كما نجد في كثير من كتب التصوّف، مثل كتاب “تاج العارفين” للجنيد (ت. 910)، “قوت القلوب في معاملة المحبوب” لأبي طالب المكّي (ت. 996)، إلخ.
بكلام وجيز، التصوّف هو فكر وممارسة مبنيّين على قناعة دينيّة أن الله يمكنه أن يتواصل مع البشر مباشرةً وخارج حصريّة الأنبياء والكتب السماويّة، وهذا عكس ما كان يراه بعض العلماء المسلمين في ذلك الوقت بإصرارهم على حصريّة الوحي (القرآن، السنّة، الخ.) الذي يأتي به الأنبياء والأئمّة. ففي إعتقاد المتصوّفة، هناك طرق كثيرة إلى الله ومعرفته خارج الوحي والأنبياء، وأنّ عليهم سلوكها في حياتهم، وليس بعد موتهم. لكن قدرتهم على الوصول إليه ليست في يدهم بل في يد الله، وإذا ما أراد لهم ذلك فيصبحون عندها أدواته في الدنيا.
ويمكن أن نضيف أيضاً أنّ أهل التصوّف رفضوا فكرتين أساسيّتين شكلتا ركيزتين عند الكثير من علماء المسلمين في ذلك الوقت: حصريّة العلم والنسب (أو كلاهما معاً) كأساس للمرجعيّة الدينيّة. لذلك نجد عند أهل التصوّف إجمالاً أنّ الله يختار من يشاء ليكون وليّاً ويظهر عليه العلم حتّى لو كان جاهلاً (أي لا يعرف القراءة والكتابة) أو ليس له لا حسب ولا نسب.
نجاح وانتشار التصوّف يمكن أن ننسبه إلى عاملين أساسيّين لا نجدهما إجمالاً عند باقي الفرق الدينيّة. العامل الأوّل هو قدرة المتصوّفة على التأقلم مع بيئتهم ومحيطهم. لذلك نجد التنوع والإختلاف الكبير بينهم. مثلاً، في بيئة غرب أفريقيا، لم يختلف التصوّف عن الممارسات والعقائد الدينيّة التي كانت موجودة قبل ذلك، وهو ما يعني أنّ تقبل الناس له لم يجبرهم على تغيير ممارساتهم وعاداتهم الدينيّة بشكل جذري. الشيء نفسه نجده في بلاد الشام ومصر والعراق وإيران ووسط آسيا، حيث تعايش التصوّف (ظاهريّاً على الأقلّ) مع الإسلام الفقهي، بينما في جنوب غرب آسيا أخذ التصوّف شكلاً شبيهاً جدّاً بالهندوسيّة والبوذيّة. ويجب الإشارة هنا إلى أنّه من غير الصحيح أن نستنتج من هذا انّ أهل التصوّف كانوا رافضين للعنف.
والعامل الثاني هو أنّه قبل القرن التاسع عشر، كان التصوّف جذّاباً للمفكر الذي يرى فيه متعة عقليّة وثراءً فكرياً، ولعامّة الناس (الفقير والأمّي بشكل خاصّ) يجدون فيه نوعاً من الرعاية الربّانيّة والخلاص الإلهي.
أكبر إشكاليّة واجهها المتصوّفة في بداياتهم كانت المشروعيّة الدينيّة، كون التراث الذي كان المسلمون يتبادلونه في ذلك الوقت لم يُظهر النبي وصحابته كممارسين للتصوّف. مع الوقت، ومع تمكّن التصوّف في العالم الإسلامي، “نجح” المتصوّفة بجمع مادة كبيرة من الأحاديث تُظهر النبي وأصحابه كممارسين للتصوف، وهو عامل ساعدهم في جذب علماء من الطراز الأوّل – أمثال أبو نعَيم الإصفهاني (ت. 1038)، أبو القاسم القشيري (ت. 1074)، وأبو حامد الغزالي (ت. 1111) – والذين لم يقوموا فقط بشرعنته وجعله جزءاً لا يمكن التغاضي عنه في التراث التقليدي السنّي، بل أصبح أيضاً من أهمّ وأقوى التيّارات الفكريّة في الإسلام وتمدّد إلى مذاهب إسلاميّة أخرى، خصوصاً مذهب الإثني عشريّة الشيعي (نتيجة غياب الإمام وقيام العلماء ببعض أدواره).
لكن النجاح النوعي للتصوّف في الإسلام حصل عندما قرّر السلاجقة (بدءاً من النصف الثاني من القرن الحادي عشر)، ولدواعٍ سياسيّة بالدرجة الأولى، استخدام التصوّف السنّي من أجل وضع حدّ لتمدّد الدعوى الفاطميّة الشيعيّة في العراق والبلاد المشرقيّة. من هنا جاء الجهد الخارق الذي قام به أبو حامد الغزالي في كتاباته العديدة عن التصوّف (تحديداً “إحياء علوم الدين” و”المنقذ من الضلال”)، في سعيه للبرهنة أنّ التصوّف (فكراً وممارسةً) ليس فقط الإطار الذي من خلاله يمكن للمسلم أن يمارس الإسلام الصحيح، بل هو الطريق الوحيد الذي يوصل البشر إلى معرفة حقيقة نفسهم وربّهم، ويحميهم من كلّ الآفات العقليّة والإجتماعيّة. بمعنى آخر، التصوّف هو أكمل وأعلى ممارسة للإسلام.
النجاح النوعي للتصوّف في الإسلام حصل عندما قرّر السلاجقة (بدءاً من النصف الثاني من القرن الحادي عشر)، ولدواعٍ سياسيّة بالدرجة الأولى، استخدام التصوّف السنّي من أجل وضع حدّ لتمدّد الدعوى الفاطميّة الشيعيّة في العراق والبلاد المشرقيّة
ومثل باقي الفرق والتيّارات الإسلاميّة، فسّر المتصوّفة كثيراً من الآيات القرآنيّة على أنّها إشارات إلهيّة لهم تحديداً. وهنا بعض الأمثلة:
-“فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ” (سورة المائدة 54).
-“أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ” (سورة يونس 62).
-“وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ العَالِمُونَ” (سورة العنكبوت 43).
-“وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا، لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا، وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ المُحْسِنِينَ” (سورة العنكبوت 69).
-“لاَ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ. أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ. أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ، أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ” (سورة المجادلة 22).
ماذا عن ضعف ظاهرة التصوّف في وقتنا الحالي؟
عاملان أساسيّان يقفان وراء هذا التراجع. أولهما خارجي، وأعني بذلك دور الاستعمار الأوروبي الذي سيطر على العالم الإسلامي منذ القرن التاسع عشر وراح يُحرّض المسلمين على المتصوفة لأن معظم ظواهرهم كانت مناهضة للإستعمار. وثانيهما داخلي ومرتبط بالدور الخارجي لجهة أنّ كثيرين من المسلمين (المتعلّمون تحديداً والمقتنعون بتفوّق الحداثة الغربيّة) بدأوا ينظرون إلى التصوّف كسخافات لا تليق بالمتعلّم في هذا العصر، وذهب بعضهم إلى اتّهام التصوّف بإضعاف الإسلام والمسلمين (كما نجد عند محمّد عبده مثلاً). فبدأ دور التصوّف يتقوقع وأغلقت زواياه، وانهار مجده إلى أبد الآبدين.