التكفير في التراث الإسلامي.. إبن تيمية نموذجاً (11)

في المقالة السابقة، عالجت استخدام القرآن للتكفير وأنّه يعبّر عن جدليّة قرآنيّة غير متناسقة من جهة الأسباب والأهداف، وأيضاً من جهة معاملة المؤمن للكافر. في هذه المقالة، سأركّز على جدليّة التكفير في التراث الإسلامي، ممارسةً وتنظيراً.

الأمثلة حول التكفير في الممارسة الإسلاميّة كثيرة، بعضها أدّى بالمُكَفِّر حد قتل المٌكَفَّر. مثلاً، قامت عصابة يرأسها محمّد بن أبي بكر الصدّيق بتكفير عثمان بن عفاّن وقتله في سنة 656 لدواعٍ سياسيّة. بعدها، قام جمع من الخوارج بتكفير وقتل عليّ في سنة 661 لأنّه قبل بالصلح والتحكيم مع خصمه معاوية. وكذلك واقعة تكفير الحلّاج، وهو من أوائل أعلام التصوّف في الإسلام، وصلبه في سنة 922 لأمور قيل إنّه تفوّه بها.

وهناك أيضاً عادة التكفير عند العلماء الذي كان لبعضهم تأثيرهم على أرض الواقع، ويُعتبر إبن تيمية (ت. 1228) من أكثر العلماء الذين اندفعوا إلى تكفير المسلمين. مثلاً، يقول إبن تيمية عن عادة زيارة بعض المسلمين لصخرة بيت المقدس الآتي:

“من قصد أن يسوق إليها غنماً أو بقراً ليذبحها هناك ويعتقد أن الأضحية فيها أفضل وأن يحلق فيها شعره في العيد أو أن يسافر إليها ليعرّف بها عشية عرفة، فهذه الأمور التي يشبه بها بيت المقدس في الوقوف والطواف والذبح والحلق من البدع والضلالات. ومن فعل شيئاً من ذلك معتقداً أن هذا قربة إلى الله فإنّه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل”.

بُليَ ابن تيمية بعمى البصيرة؛ لذلك كان سريع الجزم بتكفير المخالفين له والدعوة إلى قتلهم، كما نجد أدناه:

“ومن قال إنّ الفِطر لا يجوز إلّا لمن عجز عن الصيام فإنّه يُستتاب فإن تاب وإلّا قتل”.

“أكل الخبائث وأكل الحيات والعقارب حرام بإجماع المسلمين. فمن أكلها مُستحلاً لذلك فإنه يُستتاب فإن تاب وإلا قتل”.

وثمة أمثلة كثيرة مثل هذه لا تُحصى ولا تُعد.

واللافت للإنتباه في فكر ابن تيمية أنّه لا يصف هذه التصرّفات والقناعات على أنّها خاطئة ويشجّع الناس على تركها، بل يذهب مباشرةً إلى التكفير والدعوة لقتل من يعتقد بهذه الأمور. وما ينبغي التوقف عنده في جنوح ابن تيمية إلى تكفير من يخالفه أنّه كان يجزم دائماً بأنّ رأيه أجمع عليه علماء المسلمين، وهذا ليس صحيحاً لأنّه ليس هناك من إجماع على المواضيع التي عالجها. لذلك أصبح ابن تيمية قِبْلة أصحاب التكفير وكأنّ رأيه لا يعلو عليه لا إله ولا نبيّاً.

لكن علينا أيضاً أن ننظر إلى ما يقوله ابن تيمية كردّة فعل على حقيقة أنّ الكثيرين من المسلمين كانوا يقومون بهذه الأعمال أو يعتقدون بهذه الأفكار، وأنّ كثيراً من رجال الدين والحكّام كانوا يسمحون بها ولا يكفّرون الناس عليها، وهو ما زاد من غضبه وحنقه.

نموذج آخر عن التكفير الذي رافقه قتل أو تنكيل نجده في فتنة خلق القرآن التي أمر بها الخليفة المأمون (حكم 813-833) والتي تورّط فيها جمع من المعتزلة، وذهب ضحيّتها عدد من العلماء.

واللافت للإنتباه في فكر ابن تيمية أنّه لا يصف هذه التصرّفات والقناعات على أنّها خاطئة ويشجّع الناس على تركها، بل يذهب مباشرةً إلى التكفير والدعوة لقتل من يعتقد بهذه الأمور. وما ينبغي التوقف عنده في جنوح ابن تيمية إلى تكفير من يخالفه أنّه كان يجزم دائماً بأنّ رأيه أجمع عليه علماء المسلمين، وهذا ليس صحيحاً لأنّه ليس هناك من إجماع على المواضيع التي عالجها

ويبقى هناك نموذج من التكفير والذي لا نغوص فيه عادةً، وهو التكفير الذي يهدف إلى المزايدات فقط، ولا يُقصَد به أن يُتَرجم على أرض الواقع أبداً. أي هو تكفير على الورق. لكن وجوده يجعله جزءاً من الخطاب الديني الذي يمكن أن يتضخّم ككرة الثلج ويخرج عن السيطرة. مثلاً، عادة تكفير المسلمين لبعضهم البعض، خصوصاً بين أهل السنّة وأهل الشيعة، وهم عاشوا في معظم حقبات التاريخ الإسلامي في مجتمعات متقاربة ومن دون اقتتال. لكن في بعض الأوقات، نكّلوا ببعضهم، وساعد هذا الخطاب التكفيري الورقي على إشعال الأمور بدل تهدئتها.

ويدخل في هذا أيضاً عادة تكفير المسلمين لأصحاب الديانات الأخرى، بما في ذلك اليهود والنصارى. لكن الملفت للإنتباه هنا أنّ معظم حكّام المسلمين والعلماء في بلاد الشام ومصر والعراق وفارس والأندلس و.. رفضوا تطبيقه على الأرض، ولم يُجبروا غير المسلمين على اعتناق الإسلام. النصارى واليهود والمجوس (الزردشتيّين) والهندوس والبوذيّين .. شكّلوا أكثريّة السكّان في زمن الحكم الإسلامي حتّى بعد القرن الحادي عشر. وحتّى في الجزيرة العربيّة، بقي وجود وازن للنصارى إلى حدود القرن العاشر. مثلاً، يذكر الإمام الهادي إلى الحقّ يحيى بن الحسين (ت. 911) كيف وجد نجران وعسير أكثرها نصارى وأقنع أهلها باعتناق الإسلام (المذهب الزيدي تحديداً). وفي شرق الجزيرة العربيّة أيضاً كان هناك وجود كثيف للنصارى، وهو ما نعرفه من الحفريات الأثريّة الحديثة في قطر والإمارات والكويت والسعوديّة، حيث تمّ إكتشاف أديرة ومقتنيات نصرانيّة تعود إلى أواخر القرن السابع والقرن الثامن. إذاً، ما يتم ترديده من أنّ النبي منع أي دين غير الإسلام في الجزيرة العربية هو من الأكاذيب التي لفّقها البعض وأصبحت مع الوقت من المسلّمات.

إقرأ على موقع 180  إسكات السيّد الحيدري.. غفلة تكتيكيّة أم خطأ استراتيجي؟

لا نجد فقط هذا التمايز بين انجراف بعض العلماء إلى التكفير وبين الممارسة في الواقع، والتي تدلّ على اجتناب التكفير أو رفض أن يكون التكفير أساس معاملة المسلمين المُكفّرين أو غير المسلمين. نجد أيضاً أنّ بعض العلماء كانوا حذرين جدّاً في موضوع التكفير لأنّه منزلق لا يمكن السيطرة عليه. في هذا، يقول أبو حامد الغزالي (ت. 1111) في كتابه “فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة” أنّه إذا “زعم [أحد] أنّ حدّ الكفر ما يخالف مذهب الأشعري، أو مذهب المعتزلي أو الحنبلي أو غيرهم، فاعلم أنّه غرٌّ بليد، قد قيّده التقليد، فهو أعمى من العميان. فلا تُضيّع بإصلاحه الزمان”. ويضيف: “ولعلّك إن أنصفت، علمت أنّ من جعل الحقّ وقفاً على واحد من النظّار بعينه، فهو إلى الكفر والتناقض أقرب”، وأنّ “المبادرة إلى التكفير إنّما يغلب على طباع من يغلب عليهم الجهل”.

كلام الغزالي واضح، وينبع من قناعة أنّ التكفير سهل، لكن ضرره على المجتمع خطير (وللشفافية، يقع الغزالي في فخ التكفير في بعض كتبه). وتلفت نظرنا هنا وصيّة يعطيها الغزالي في موضوع تكفير المسلم لغيره من المسلمين:

“تكفّ لسانك عن أهل القبلة ما أمكنك ما داموا قائلين لا إله إلاّ الله، محمّد رسول الله، غير مناقضين لها. والمناقضة تجويزهم الكذب على رسول الله بعذر أو غير عذر. فإنّ التكفير فيه خطر، والسكوت لا خطر فيه”.

إذاً، خطر التكفير يتطلّب الإمتناع عنه بقدر الإمكان.

هنا يستوقفنا حديث منقول عن النبي (والأرجح أنّه مفبرك مثل معظم الأحاديث النبويّة) نصّه الآتي:

“ستفترق أمّتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلّها في النار إلّا واحدة”.

وهناك نصّ آخر لهذا الحديث يقول بعكس ذلك:

“ستفترق أمّتي على نيف وسبعين فرقة كلّها في الجنّة إلّا واحدة”.

نحن لسنا بحاجة لتفسير أي نصّ من الإثنين ينجذب إليه من يحب التكفير ومن منهما يستحبّه المجانب للتكفير.

وأختم بحديث ينقله الغزالي عن سعة رحمه الله منسوب إلى عائشة أنّ النبي قال:

“إنّ آتياً أتاني من ربّي، فبشّرني أنّ الله يُدخل الجنّة من أمّتي سبعين ألفاً بغير حساب ولا عذاب. ثم أتاني، فبشّرني أنّ الله يُدخل من أمّتي مكان كلّ واحد من السبعين ألفاً سبعين ألفاً بغير حساب ولا عذاب. ثم أتاني، فبشّرني أنّ الله يُدخل من أمّتي مكان كلّ واحد من السبعين ألفاً المضاعفة سبعين ألفاً بغير حساب ولا عذاب. فقلت: يا ربّ، لا يبلغ هذا أمتي؟ قال: أكمّلهم لك من الأعراب ممّن لا يصوم ولا يصلي”.

لنقبل جدلاً أنّ هذا الحديث صحيح، وأنّ النبي أتاه ملاك من الله أبلغه أنّ الله سيدخل إلى الجنّة 343 تريليون بشري، وأنّ النبي تعجّب من هذا الرقم العظيم وتساءل من أين يأتي الله بهم إذ لن يكون هناك مسلمون بهذا العدد على مدى الزمان. ألا يعني هذا أنّ كامل البشريّة ستدخل الجنّة، ولو كره المُكَفِّرون!

Print Friendly, PDF & Email
سليمان مراد

كاتب وأستاذ جامعي مقيم في الولايات المتحدة

Download Premium WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
Download Premium WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  عادة التكفير.. علّة الفكر الديني (10)