“أون أوف”؛ سحر بشار خليفة.. وألم بيروته

مرّ حفل الفنان الشاب بشار خليفة كهبوب نسيم بارد على وجه بيروت المظلم، لكأن الموسيقى هي لغة خاصة وعامة؛ لغة هجرة وإنتماء؛ لغة فقراء وأغنياء؛ لغة قرية ومدينة وناس.. كل القرى والمدن والناس.

عندما ترك بشار خليفة لبنان، كان طفلاً في السادسة من عمره. إحتضنت باريس العائلة الآتية من بيروت. عائلة مارسيل ويولا وبشار ورامي أسرة مهاجرة كغيرها من ملايين العائلات اللبنانية والعربية المنفية. شبّ بشار هناك وترعرع ثم خلق كيانه الفني متأثراً بطبيعة الحال بالثقافة الغربية التي كانت تُزنّر نهاراته ولياليه. لم يحجب ذلك حقيقة الإنتماء إلى لبنان. إلى بيروت وعمشيت. كان بشار دائم الحنين والتوق إلى الجذور. رائحة الأرض وحكايات الجدة ورفاق الطفولة. هؤلاء تولدوا من جديد في الموسيقى واللحن. ترجم أحاسيسه وذكرياته، أغنية تلو أغنية. لبنان فخ ولعنة لأمثال بشار. هو الطارد والجاذب. سحر الهوية والأرض والناس. لا تفسير لهذه الخلطة.

ولأن بشار خليفة طموح ولا يرضى عن نفسه ويعتبر أنه في حالة إمتحان دائم، حقق نجاحاً ملفتاً للإنتباه في فرنسا. قرر أن لا يهدأ. راح يتجول بأغنياته وموسيقاه في مختلف أنحاء أوروبا مثل غجري يرافقه “أخواه” كما يسميهما: Dogan ـ percussion و Alexandre ـ Guitare Basse.

لبنان المنكوب بساسته لا يتوانى عن محاربة كل أنواع الإنعتاق من سلاسل هؤلاء وقيودهم. لا زلنا نتذكر حتى يومنا هذا قصة منع أغنية بشار خليفة قبل ست سنوات. مدهش كيف يخافون من أغنية عزلاء سوى من لحن وكلام مجرد. حاربوا أغنية “كيرياليسون”. نعم لقد تجندت سلطة الرقابة وتأهبت لمنع أغنية “كيرياليسيون” في نيسان/أبريل 2016، عندما رفضت إعطاء إذن ببثّ أغنية بشار خليفة بعنوان “كيرياليسون”، وبالتالي لم يُسمح بدخول ألبومه الذي يتضمن هذه الأغنية إلى لبنان قبل حذفها، بحجة أنها “تمس الذات الإلهية” وتتضمن “كلاماً مسيئاً إلى العزة الإلهية”، وذلك من خلال توجه المغني إلى الله بقوله “إرحمنا إرحمنا وحلّ عنّا”..

في أيامه وأسابيعه الأخيرة المتنقلة بين بيروت والشمال والجبل (الشوف)، أحيا الفنان بشار مارسيل خليفة ثلاث حفلات جميلة توّجها بأمسية في المركز الثقافي الفرنسي في بيروت. يعود شيءٌ من الروح إلى بيروت. المقاهي في الجميزة ومار مخايل والأشرفية عادت تنبض بالحركة بعدما كانت حتى الأمس القريب منكوبة. يعود إليها شيءٌ من روحها مع عودة معرض الكتاب الفرنكوفوني ثم قريباً معرض الكتاب العربي والدولي. أكثر من 110 مشاركين من جنسيات مختلفة في مهرجان الكتاب الفرنكوفوني المتنقل في نحو 30 موقعاً في بيروت ومدن لبنانية أخرى، عوضا عن إقامة معرض للكتاب الفرنكوفوني في موقع واحد ثابت، كما درجت العادة حتى نهاية العام 2018، قبل أن يداهمنا الإنهيار الإقتصادي والمالي ثم جائحة كورونا.

في باحات المركز، إفترش مئات الشبان والشابات الأرض والعشب. إلتحفوا السماء بنجوم قليلة متناثرة. توافدوا من جمهور معرض الكتاب الفرنكوفوني إلى حفل بشار خليفة. كانوا يتمايلون على إيقاع موسيقى ناعمة رقيقة تصخب حيناً ثم ترق رقة النسيم في ليل المدينة الدامس، ظلاماً ووحشةً.

كل شيء عفوي. يشبه بشار وموسيقاه. بشار الموسيقي الشاب الذي قذفته الحرب مهاجراً مع أهله في باريس، وربما لحسن حظه وحظنا، ما زال يراوده الحنين إلى بلد تعيش فيه ذكريات طفولته وتشده إليه تربية راسخة بالإنتماء والوطنية.

شاب رسّخ خطه الموسيقي ووجد لغته الخاصة وصار محارباً بشجاعة لأجل إستمرارها وتطويرها. لا يغني بل يؤدي بعض الأغنيات. يبرع في تناول البيانو والدرامز والنفخ على الفلوت الكهربائي..

لا يمكن مقارنة تجربة بشار بتجربة مارسيل خليفة الأب؛ فهو متحرر من الإرث الثمين يخطو واثقاً، ولا ينبغي ان يقوم بإقتباس نجاحها، لا بل هو يسعى إلى تمايز حقيقي يسلط الضوء على تجربته الفردية التي حاكها بتأن وذكاء شديدين.

لا نشبه آباءنا ولا ينبغي أن نشبههم فكيف إذا هم شكلوا هوية فريدة عصية على التقليد؟

“ما خصو ببيو” هكذا يصفه جمهور الأب ولكن هذه تحتسب له وليس عليه. الشباب يحبونه. يحرّك فيهم روح تمرد جيلهم على تقاليد الماضي والحاضر وإندفاعهم إلى الرقص والحب والحياة.

كان الحفل رشيقاً بسيطاً وقد رافق بشار عزفاً بالدرامز (دوغان) والغيتار (الكسندر).

أغنيتان من البوم “اون أوف أذكريني” هي وشوشة في أذن الجدات. رموز نوستالجية بإمتياز وحمّالة مشاعر وحب وشغف في آن معاً.

وفي مسك الختام التهب الحفل وولّعها بشار بأغنية “طاب اللمون” التي غنتها يولا خليفة من تأليف الشاعر الشعبي المصري سمير السعدي فنزل الجميع ليرقص على الأخضر وسمعنا حفيف الأقدام إلى ابعد من الرقص والغناء والموسيقى، ربما شاركتنا النجوم في الرقص والغناء.

“الريح تأخذنا معها يا ولدي. حفيف العشب الجاف تحت أقدامنا. ونسافر، وما يسافر فينا هو أغنية التيه.

نرفض أن نصدق أن الغناء يمكن أن ينتصر على أي شيء، لأن الغناء هو أيضًا خروج عن المألوف.

الأحلام تدفعنا إلى الجنة وبلادنا تدفعنا إلى بئر الخيبة.

وتمضي الأيام وتبقى يا بني وصي الحنين والذاكرة كبساطة الأغنية”.

هذا ما كتبه الفنان مارسيل خليفة بعد الحفل على صفحته الفايسبوكية.

إقرأ على موقع 180  "الطّنطوريّة".. رضوى عاشور تسبح في دوّامة الذّاكرة الفلسطينيّة

أما صديقه الكاتب طوني فرنسيس فقد علّق على حفلة بشار قائلاً:

“قبل 40 سنة كنا قرب هذا المكان وكان شبان يختبئون خلف الاشجار يستمعون إلى مارسيل خليفة يغني “اني اخترتك يا وطني” وفي مواجهتهم جيش شارون، بعد أربعين عاماً جمعنا بشار مارسيل خليفة ليحلَق بنا في حرية لا تموت. شكراً مارسيل وبشار… ويولا. قررنا ألا نموت بثمن بخس كما يريدون، سوف نقاوم بالشعر والموسيقى والغناء والرسم والنحت وكل أسلحة الحياة الممكنة”.

بشار خليفة مُبدع وشغوف.. أتينا إليك بدافع الحب الشخصي، لكنك أسرتنا بقوة ورقة موسيقاك الجميلة.

فعلاً يصح القول في الغناء/الموسيقى إنه بمثابة دواء. ما أن تدور الإسطوانة على موسيقى تحبها وصوت تعشقه، حتى تنتقل من عالم إلى آخر تود لو تمكث فيه طويلاً إلى حد الإقامة الدائمة.

“أون أوف” حفل مستقطع من ألم بيروت وعتمتها.

 

 

Print Friendly, PDF & Email
أغنار عواضة

كاتبة وشاعرة لبنانية

Download Best WordPress Themes Free Download
Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Download Nulled WordPress Themes
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  انتخابات الطرب.. مرحباً بمن يقاطعها!