جميل مطر08/12/2022
عشت فى مدن كثيرة ومررت بمدن أكثر. أحياء بعينها فى كل هذه المدن تحتل النصيب الأكبر من ذاكرتى وتهيمن على حساب بقية الأحياء. أتوقف فى مطار مدينة زرتها فى سابق أيامى أو عشت فيها. أول ما أفعله فور خروجى من المطار الطلب إلى سائق السيارة اصطحابى إلى حى بعينه. هناك أتعرف إلى ما آلت إليه المدينة بعيون عاشق لهذا الحى. نادرا ما أخطأت التقدير أو خاننى العشق. بيروت ليست استثناء.
زرت بيروت للمرة الأولى شاباً يبدأ حياته فى عمل جديد. نزلتها مجبراً فالطائرة التى كانت ستحملنى إلى بومباى تمر ببيروت فى طريقها من لندن. هناك فى بيروت استضافتنى شركة الطيران الهندية لأقضى ليلتين على نفقتها فى أحد الفنادق الفخمة المطلة على البحر. فهمت وقتذاك أن هذا الكرم كان من شيم الشركات الكبرى المتنافسة على ركاب الدرجة الأولى فى رحلات المسافات الطويلة، وقد شاءت ظروف عملى الجديد أن تقع أغلب رحلاتى بين مدن تفصل الواحدة عن الأخرى مسافة طويلة، شاءت أيضا أن أسافر فقط بالدرجة الأولى.
***
لم أعرف ماذا أفعل بنفسى خلال اليومين إلا أن أمشى متنقلا من شارع إلى آخر. أصعد فى واحد لأهبط بالآخر. كان الأمر جديداً بالنسبة لشاب لم يتعود فى بلده على المشى فى شوارع صاعدة وأخرى هابطة. القاهرة منبسطة، أو كانت منبسطة حتى صار المقطم مسكناً ومتنزهاً. مشيت حتى وصلت إلى شارع الحمرا فقطعته ذهاباً وإياباً وبين الحين والآخر أختار مقعداً فى مقهى على الرصيف أمارس منه متعة الفرجة على المارين وبخاصة المارات. لم أمل الفرجة وقتها ولم أملها فى أى وقت حتى صارت هواية، وهى الهواية التى حرمت على الشباب فى مصر بذريعة أن مقاهى الأرصفة المنتشرة فى أحياء وسط القاهرة لا تستقبل إلا كبار السن من المتقاعدين، هؤلاء يحق لهم وحدهم زيارة هذه المقاهى والفرجة على الناس.
تطورت علاقتى برأس بيروت مع تطور أسباب السفر إلى لبنان ومدد الإقامة ومع انتقال أصهارى للعيش فيه ومع طبيعة عملى الجديد ومع تقلبات الحرب الأهلية اللبنانية. توثقت علاقتى بهذا الحى كما لم تتوثق بحى آخر فى أى مدينة من المدن العديدة التى مررت بها فمكثت أياماً أو شهوراً أو فى مدن عشت فيها سنيناً. معالم كثيرة اختفت فى واقع الأمر أو تغير دورها واختلفت وظيفتها أو غابت موضوعاً وبقيت شكلاً ولكن استمرت فى الذاكرة تحيا وتتعمق. غريبة علاقتى بها ومشاعرى تجاهها. تغيرت شخصية شارع الحمرا إلى غير ما أحب ولكنى ما زلت لا أقوى على مغادرة بيروت فى نهاية أى زيارة دون أن أمشيه فى رحلة معتادة، رحلة الذهاب والإياب، أمشى متحسراً ولكن أمشيه.
تطورت علاقتى برأس بيروت مع تطور أسباب السفر إلى لبنان ومدد الإقامة ومع انتقال أصهارى للعيش فيه ومع طبيعة عملى الجديد ومع تقلبات الحرب الأهلية اللبنانية. توثقت علاقتى بهذا الحى كما لم تتوثق بحى آخر فى أى مدينة من المدن العديدة التى مررت بها فمكثت أياماً أو شهوراً أو فى مدن عشت فيها سنيناً. معالم كثيرة اختفت فى واقع الأمر أو تغير دورها واختلفت وظيفتها أو غابت موضوعاً وبقيت شكلاً ولكن استمرت فى الذاكرة تحيا وتتعمق. غريبة علاقتى بها ومشاعرى تجاهها. تغيرت شخصية شارع الحمرا إلى غير ما أحب ولكنى ما زلت لا أقوى على مغادرة بيروت فى نهاية أى زيارة دون أن أمشيه فى رحلة معتادة، رحلة الذهاب والإياب، أمشى متحسراً ولكن أمشيه.
***
ربطتنى بالحى بشكل خاص ثلاثة معالم بارزة، ثم غابت. ربطنى به بيت صهرى فى بناية تقوم عند نزلة البيكاديللى. ربطنى أيضاً فندق البريستول عند بداية النزلة ونهاية الطلعة التى سميت باسمه فصارت طلعة البريستول. كنت إذا نزلت عند أصهارى بالبيت زرت الفندق مرتين باليوم الواحد، وإذا أقمت بالبريستول مررت على بيتهم مرتين باليوم الواحد. كان إفطار البريستول نعمة لا أحرم النفس منها وكانت جلسة الشعر فى بيت أبو ريشة نعمة أخرى لا أحرم العقل والقلب منها. غاب الأهل فغاب البيت. ثم تعبت بيروت فغاب البريستول. كانت جريدة “السفير”، وهى الرابط الثالث، تقع على بعد أمتار من الاثنين، من البريستول ومن بيت أصهارى. هناك فى مبنى الجريدة كنت ألجأ لمكتب طلال سلمان لأسمع عن لبنان والعرب ما يثلج الصدر وما يدميه. وإذا تأخرت فى طلب اللجوء وجدته فى صالة البريستول مع ابنه أحمد فى انتظار اصطحابى وثلة من نجوم الإعلام والفكر والفن لسهرة واجبة ودورية فى فندق الفاندوم، أحد أهم معالم الحى.
***
على الكورنيش نفسه يقوم فندق الريفيرا، الفندق الذى استقبلنى فى أول زيارة لبيروت وأنا فى طريقى إلى الهند قبل أربعة وستين عاماً، ويقع عليه أيضا فندق الفاندوم الذى احتكر استضافات طلال سلمان لى على امتداد علاقتى به خلال أغلب سنوات عمر جريدة “السفير”، وقام عليه فندق السان جورج الذى نزلنا فيه محمد حسنين هيكل وأنا فى ختام رحلتنا الطويلة التى أخذتنا إلى غالبية الدول العربية قبل سبعة وأربعين عاما. هناك فى السان جورج جرت معظم لقاءاتنا بنساء ورجال الطبقة السياسية والإعلامية اللبنانية، على نفس هذا الكورنيش كان يقع فندق الكارلتون وكان غير مكتمل البناء والتجهيز وتشغل إحدى الميلشيات الطابق الأرضى وربما شغلت طابقاً آخر أعلى. الغريب فى الأمر هو أن فى هذا الفندق عقدت أهم المؤتمرات والندوات التى نظمها مركز دراسات الوحدة العربية أحد صروح رأس بيروت الباقية حتى اليوم، وفيه وقع التعارف بين المئات من المفكرين العرب، وفيه قمنا بتدشين عشرات المشروعات الفكرية العملاقة وأقمنا علاقات شخصية ازدهرت على مر السنين أو بقيت بعنفوان نشأتها إلى ساعة كتابة هذه السطور.
***
لا يفوتنى وما نزال عند كورنيش رأس بيروت أن أنوه بدهشة بريئة أسعدتنى ثم لازمتنى لعدة سنوات. إذ دعانى صديق لبنانى لعشاء بمطعم يلدزلار المطل على الكورنيش. أذكر أننى عشت فترة طويلة أحكى لأهل مصر عن هذه الأمسية التى شهدت بالاستمتاع الكامل والمتواصل اصطفاف ستة وسبعين صحنا على مائدة اتسعت دائماً لما لا يقل عن ستة ضيوف. لم يتكرر صنف ولم يتوقف النادل عن تعويضنا عما ينقص بالطازج والساخن وعند منتصف الليل تعود المائدة فتزدان بأصناف المشويات تتويجاً ثم بالحلوى توديعاً. ذهبت قبل سنوات قليلة من باب الفضول لا أكثر إلى الكورنيش أبحث عن المطعم لم أجده مثل أشياء كثيرة لم تعد توجد وأصدقاء أعزاء انتقلوا إلى أماكن أخرى. غابت مكتبة ودودة وغاب مقهى تاريخى شهد الكثير من دورات الجدل انتهى أحدها على ما أعلم متبلوراً فى شكل مؤامرة نُفذت فى بلد مشرقى نظاماً سياسياً محل آخر استنفد طاقته. أذكر أننى سمعت تفاصيل عن الجدل الذى دار فى المقهى الشهير بشارع الحمرا وعن خفايا المؤامرة من مدبريها خلال لقاء فى السان جورج.
***
خلت رأس بيروت من بعض أجمل ما ومن كانت تحتضنه فاحتضنته ذاكرتي بكل الحب.