كان عاماً مليئاً بالغباء..!

من بين البوستات التي ودّع بها روّاد فايسبوك السنة الفائتة، استوقفني واحدٌ منها لا غير. وجدته مناسباً كتوطئة لمقالتي اليوم. البوست، عبارة عن صورة لكائنيْن فضائيّيْن يراقبان احتفالات اللبنانيّين بانتهاء 2022. فيقول أحدهما للآخر: "بماذا يحتفل هؤلاء؟". فيجيبه رفيقه: "بإكمال بلدهم دورةً كاملة حول الشمس". "يا إلهي.. ما أغباهم!"، يُعلّق السائل.

لقد حوّر صاحب البوست، بالطبع، النسخة الأصليّة له وتتكلّم عن دوران الأرض. وأسقطها على المشهديّات الاحتفاليّة للّبنانيّين بانتهاء عامٍ وبداية عامٍ جديد. وكأنّهم كانوا يحتفلون بنصرٍ، ينقلهم من شقاءٍ ويرميهم في شقائهم المقيم. نعم. احتفلوا “بسنةٍ أخرى مرّت لم يتنفّس (فيها) طينُ الحزن، ولم ينبت (فيها) شيء”، يقول شاعر العراق مظفّر النواب في قصيدته التي نظمها عندما بلغ الستّين من العمر. في الحقيقة، لا يُمكن للمرء إلاّ أن يتعجّب عندما يرى طاقات هذا الوطن البائس وهي تجترّ مرارة العوز والعطالة لتحتفل! هل يمكن اعتبار “بهجتها” إلاّ ضرباً من الغباء؟

هذا التساؤل – الاستنتاج ليس حُكماً قيميّاً على اللبنانيّين. إنّما هو إحدى الخلاصات لدراساتٍ عديدة قام بها الباحثون في العلوم الإنسانيّة حول هذه الظاهرة المدهشة في حياة الإنسان والتي اسمها “الغباء”. تقول هذه الخلاصة، إنّ “استسلام الإنسان للواقع هو إحدى علامات الغباء”. تلك العلامات التي تنمّ عن قلّة الوعي (وعددها إحدى عشرة)، غالباً ما تظهّرها تصرّفات الشخص في ظروفٍ محدّدة. وطريقة تعاطيه مع الآخرين في وقت الأزمات. وردود أفعاله في مختلف المواقف والأحداث. ولكن ما هو الغباء البشري؟

من هذا السؤال الإشكالي الكبير تتفرّع أسئلةٌ أخرى عن ماهيّة الغباء؟ وعمّا إذا كان يُولد فينا أم إنّنا نكتسبه اكتساباً؟ وهل إنّه يتعلّق بعوامل وراثيّة؟ أو بالتعليم والثقافة؟ أو بالعوامل البيئيّة؟ هل يُصنَع الغباء كما يُصنَع الذكاء؟ وهل يشفى الإنسان من الغباء؟ هل وجود الأغبياء مرتبط بمدى تطوّر المجتمعات أو تخلّفها؟ هل يؤثّر الغباء على حياتنا كبشر؟ ومتى تزيد أو تقلّ نسبة الأغبياء في العالم؟

نقع في المعاجم العربيّة على عشرين مرادفاً لمصطلح “الغباء”. وجميعها تشير إلى اعتباره حالة عقليّة لا ينقصها بالضرورة علمٌ أو دراسة. لكنّها تؤدّي إلى سوء التكيّف مع الواقع. وإلى التصرّف بعكس ما تقتضيه المصلحة. والمُلفت، أنّ الغباء “ينمو” بظلّ ظروفٍ اختياريّة حرّة. أي، من دون قسْر أو إجبار. وعليه، يفقد الإنسان الغبي القدرة على التأقلم مع المعطيات الجديدة. فتأتي أفعاله منافية للمنطق. لقد اعتُبِر الغباء البشري، ومنذ بدء التاريخ، مفهوماً جدليّاً. فشغلت “تجلّياته” العلماء، على مرّ العصور. وضعوا له النظريّات والتصنيفات والمقاييس والأنواع. كي يتمكّنوا من تمييز “الكائن الذكي” عن “الكائن الغبي”. و”العقول الذكيّة” عن “العقول الغبيّة”. لكنّ المعايير الأكاديميّة التي كانت (ولا تزال) متّبعة في المدارس والجامعات لتصنيف الطلاّب، أثبتت التجارب العمليّة أنّها خادعة وغير صحيحة بالضرورة.

أخذوا أعظم رجالات العلم والفكر نموذجاً لدحض هذه المعايير. هربرت جورج ويلز صاحب مؤلّفات الخيال العلمي الشهيرة (مثل حرب العوالم، وآلة الزمن، والرجل الخفي) كان طالباً “متفوّقاً” بكسله. والكاتب الشهير كولن ولسون اضطرّ، بدوره، إلى ترك التحصيل الأكاديمي بعد عجزه عن استيعاب الكثير من المقرّرات الدراسيّة. أمّا آلبيرت أينشتاين الغني عن التعريف، فلقد دفعت بلادته الموصوفة معلّميه إلى التوصية بإلحاقه بمدرسة لذوي الاستيعاب الأكاديمي البطيء. والمفارقة أنّ أينشتاين هذا، كان أكثر مَن كتب ونظّر في شؤون الغباء! فبرأيه الغباء البشري قد يكون أخطر ما في هذا الوجود. وأكثر. يرى أنّ “شيئيْن ليس لهما حدود؛ الكون وغباء الإنسان، ولستُ متأكّداً بخصوص الكون (يقول أينشتاين)”!

لا يمكننا أن نفعل شيئاً حيال الأغبياء. فلا توجد دفاعات ضدّ غبائهم. ولتجنّب عبئهم السيّء على المجتمع، اقترح سيبولا أن يبذل “الأشخاص غير الأغبياء” مزيداً من الجهود لتعويض الخسائر التي تسبّب في حدوثها “إخوتهم الأغبياء”. أمّا إذا ثبت أنّه من المستحيل إنقاذ أنفسنا من الغباء، أعطى سيبولا وصفة تقضي “بأن ننتقم منهم، على الأقلّ، عبر الضحك على غبائهم”

لن نأتي على حصر الأخطاء والتضليلات والتوهيمات التي تنشأ عن حالة الغباء التي تتمكّن من بعض البشر. لكن ما يمكن ملاحظته أنّه، وفي الوقت الذي يزداد فيه مجال المعرفة اتّساعاً، تنتشر الخرافات في العالم. ويتناقل الناس أخباراً محرَّفة وتافهة. وبرأي العلماء، فإنّ الغباء البشري يساهم في انتشار تلك الخرافات على حساب المعارف. لذا يُعتبَر الغباء مشكلة في غاية الخطورة. بل إنّه أكبر تهديدٍ وجودي للبشريّة، على الإطلاق! هذا ما يعتقده المؤرّخ الاقتصادي الإيطالي كارلو سيبولا Cipolla Carlo الذي يُعَدّ من أشهر الباحثين في الغباء البشري. وهو أصدر، قبل نحو نصف قرن، كُتيّباً (من حوالى ثمانين صفحة) ليتحدّث عن أمرٍ غير مسبوق. عمّا أسماه “القوانين الأساسيّة للغباء البشري”.

في كتابه الذي باع أكثر من نصف مليون نسخة وتُرجِم إلى 16 لغة (صدرت ترجمته العربيّة في آب/أغسطس الماضي فقط)، حاول سيبولا أن يضع الذكاء والغباء الإنسانيّيْن ضمن دائرةٍ أو قانونٍ، كما هو الحال في المسائل الطبيعيّة. يلعب كارلو ماريا سيبولا، في مؤلّفه الخارق الذكاء، على خيط التناقض والسخافة. والغرابة والفكاهة. كتابه، باختصار، تحفةٌ مقتضبة من المشي الفكري على الحبل المشدود. إنّه يؤسّس لنوعٍ من النظريّة العامّة للغباء البشري. هذا الغباء الذي يقول سيبولا إنّه عاملٌ متغيّر إنّما ثابتٌ لدى جميع الشعوب. ويتشارك الأشخاص الأغبياء بملامح تعريفيّة متعدّدة. هم أناسٌ غير عقلانيّين، يؤكّد الكاتب الإيطالي. ويساهمون في تراجع الصالح الاجتماعي العامّ. لماذا؟ لأنّ الغبي كائنٌ طائش وانفعالي لا يحسب العواقب. ولا ينفكّ يثير المشكلات والويلات لأتفه الأسباب. إنّه يُفسِد بهدف الإفساد، ليس إلاّ. ويُلقي و”رفاقه” بالمجتمع، كلّه، إلى الهاوية.

إقرأ على موقع 180  الترامبية المُستأنفة.. ما الذي تغيّر؟

لهذا الغباء البشري، سنّ كارلو سيبولا خمسة قوانين هي:

القانون الأوّل: الاستهانة الدائمة والمستمرّة بعدد الأغبياء من حولنا. فعددهم الإجمالي الحقيقي أكثر بكثير من المتوقَّع.
القانون الثاني: احتماليّة أن “يتمتّع” الإنسان بصفة الغباء، لا تتأثّر أو تتعلّق بأيّ صفاتٍ شخصيّة أخرى يتمتّع بها هذا الشخص الغبي (الجنس، العِرق، الجنسيّة، المستوى التعليمي، الدخل.. إلخ).
القانون الثالث (ويصفه سيبولا بالقانون الذهبي للغباء): الإنسان الغبي بارعٌ في صنع الخسائر له وللآخرين.

القانون الرابع: دائماً ما يستهين الأشخاص غير الأغبياء بالقوّة الضارّة والمدمّرة للأشخاص الأغبياء. وينسون أنّ التعامل أو التعاون مع الأغبياء، في كلّ زمانٍ ومكان وتحت أيّ ظرفٍ من الظروف، سيتحوّل دوماً إلى خطأ فادح ومُكلِف.
القانون الخامس: الشخص الغبي هو أخطر أنواع الناس، على الإطلاق. إنّه أخطر من قُطّاع الطُرق واللصوص والمجرمين.

أخطر ما في نظريّة سيبولا، بنظري، فكرته التالية: لا يمكننا أن نفعل شيئاً حيال الأغبياء. فلا توجد دفاعات ضدّ غبائهم. ولتجنّب عبئهم السيّء على المجتمع، اقترح سيبولا أن يبذل “الأشخاص غير الأغبياء” مزيداً من الجهود لتعويض الخسائر التي تسبّب في حدوثها “إخوتهم الأغبياء”. أمّا إذا ثبت أنّه من المستحيل إنقاذ أنفسنا من الغباء، أعطى سيبولا وصفة تقضي “بأن ننتقم منهم، على الأقلّ، عبر الضحك على غبائهم”. هذا الغباء الذي اعتبره المؤرّخ الاقتصادي الإيطالي واحدةً من أقوى قوى الظلام التي تعرقل النموّ البشري. وتقلّل مستوى السعادة والرفاهيّة في المجتمع. ووفق قوانين الغباء الخمسة، يُدرِج كارلو سيبولا البشر ضمن أربع شرائح، ويتوجّه للقارئ قائلاً:

– إذا قاد تأثيرُكَ على الآخر إلى منفعته وإلى خسارتكَ، في الوقت نفسه، فأنتَ مُغفّل أو بائس.
– إذا قاد تأثيرُكَ على الآخر إلى منفعتكَ وخسارته، فأنتَ قرصان أو لصّ.
– إذا قاد تأثيرُكَ على الآخر إلى منفعتكما معاً، فأنتَ ذكي.
– وإذا قاد تأثيرُكَ على الآخر إلى خسارتكما معاً، فأنتَ غبي.
– لكنّك تصبح ذكيّاً يميل إلى القرصنة، إذا اقتربتَ كثيراً من مربّع القراصنة.
– وتصبح قرصاناً يميل إلى الغباء أو قرصاناً “نظيفاً”، عندما يتساوى مقدارُ كسبكَ من تفاعلكَ مع الآخر مع مقدار خسارة هذا الآخر تماماً و.. هكذا دواليك.

كلمة أخيرة. إذا تمعّنّا بتشخيص كارلو ماريا سيبولا، لَوَجَدنا أنّ كلّ أركان المنظومة الحاكمة في لبنان، من دون استثناء، قراصنة ولصوص. أمّا بالنسبة لنا نحن، شعوب لبنان، فمغفّلون وبائسون و.. أغبياء. إقتضى التمييز.

Print Friendly, PDF & Email
وفاء أبو شقرا

أستاذة في كلية الإعلام في الجامعة اللبنانية

Download Nulled WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
Download Best WordPress Themes Free Download
Download Premium WordPress Themes Free
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  إيران في حسابات الأميركيين.. وأوراق قوتها في مواجهة إسرائيل