للعراق ثِقله الإقليمي.. والسوداني “يحفُر” حضوره خارجياً

ميزة الجغرافيا أنها ثابتة. ديكتاتورية. عليك أن تقرأها بكل تأن. أن تقرأ الحدود والتاريخ والديموغرافيا والإقتصاد والإجتماع.. وهذه ميزة الموقع العراقي في المنطقة.

يُعيد العراق بلورة دوره ومكانته، بدليل زيارات رئيس مجلس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني الخارجية؛ إلى فرنسا وألمانيا؛ إلى الرياض (القمة الصينية-العربية)، كما من خلال زيارة وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان إلى بغداد، وصولاً إلى اتصال الرئيس الأميركي جو بايدن بالسوداني، ثم الرئيس الإماراتي الشيخ محمد بن زايد الذي جدّد توجيه الدعوة الى رئيس الحكومة العراقية لزيارة ابوظبي من أجل “تنمية الشراكة وتعضيدها” بين البلدين.

سياسة الأبواب المفتوحة التي يتبعها السوداني، بما في ذلك زياراته إلى إيران والكويت والأردن (مؤتمر بغداد -2)، واستقباله رئيسة وزراء إيطاليا جورجيا ميلوني، والزيارة المقبلة خلال أيام لوفد عراقي برئاسة وزير الخارجية فؤاد حسين إلى واشنطن، تظهر بوضوح ان السوداني يتموضع في المكان الذي يُراد رسمه: للعراق ثقله، إقليمياً (“إستقرار المنطقة من إستقرار العراق”، بحسب نص البيان حول اتصال الرئيس الاميركي بالسوداني).

لم يبتعد كلام الوزير السعودي فيصل بن فرحان، عن الرؤية التي يطرحها السوداني عن حكومته وبلاده، خاصة عندما قال إن العراق يلعب دوراً اساسياً في تعزيز الإستقرار في المنطقة، وبأن لا فرص للإزدهار في المنطقة من دون الإستقرار. وتشير مصادر عراقية إلى أن السوداني استمع إلى ملاحظات إيرانية لافتة للإنتباه في هذا المجال عندما زار طهران في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، حيث تبلغ من القيادة الإيرانية العليا، أن طهران تتفهم مصالح العراق في تطوير العلاقات مع الأميركيين بغض النظر عن الخلاف الإيراني-الأميركي المتشعب حول العديد من القضايا. كما أن السوداني كان حاسماً عندما أبلغ المرشد السيد علي خامنئي أن العراق لن يكون ممرا أو مستقراً لإستهداف جيرانه ولا سيما إيران، وهو الأمر الذي إستوجب رداً من خامنئي بقوله لضيفه العراقي إننا مستعدون لحماية العراق بصدورنا إذا تعرض لأي خطر.

وما سمعه السوداني في طهران، تكرر على مسامعه في الرياض، ولا سيما لجهة تأكيد ولي العهد السعودي على أهمية موقع العراق ودوره في ساحة العمل العربي المشترك، لا بل ذهب أبعد من ذلك عندما تمنى على رئيس الحكومة العراقية أن يبادر لإعادة إستئناف الحوار السعودي ـ الإيراني على أرض بغداد وبرعايته في أقرب فرصة ممكنة.

وكان لافتاً للإنتباه أيضاً أن الرئيس الأميركي تعمد إشراك الملك الأردني عبدالله الثاني في الإتصال مع محمد شياع السوداني، في مبادرة متعددة الأبعاد، سواء لجهة الرهان على دور أكبر للعراق في محيطه الإقليمي، ولا سيما في ساحات الأردن ولبنان وسوريا، أو لجهة التشبيك في العديد من المجالات بما يخدم فرص التنمية لكل شعوب المنطقة.

وإذا كانت حركة رئيس الحكومة الخارجية بدأت تعطي ثمارها لجهة استقطاب الاستثمارات واتفاقيات التعاون الإقتصادي بشكل أساسي، فإنها لم تحجب الأنظار عن حركة داخلية نشطة، عنوانها الأبرز مواجهة “جائحة الفساد” كما وصفها رئيس الحكومة، قبل أيام قليلة، والتي صارت التهديد الأول للدولة العراقية، بعد الخطر الذي تصدت له والمتمثل بتنظيم “داعش”.

لعلها المرة الاولى في مرحلة ما بعد العام 2003، التي تحظى فيها حكومة عراقية، بمثل هذا “الإحتضان” الخارجي، وربما هذا ما يجب أن يحث العراقيين على التفاؤل، وربما يدعوهم في الوقت نفسه، الى اليقظة والحذر الشديدين، ذلك أن فرصة حكومة السوداني، إن أصابها أي إهتزاز كبير، ستصبح في مهب الريح وسيكون الموقف مفتوحاً على المجهول

ومع ذلك، إشتعل ملفان ملتهبان في وجه حكومة السوداني، برغم أنهما موروثان من عهد حكومة مصطفى الكاظمي. قضية ما عرف باسم “سرقة القرن” التي خرجت على الملأ قبل أن تبدأ ولاية السوداني الحكومية، ليتبين أن معظم من تورطوا فيها، بحسب التحقيقات الأولية، هم مسؤولون في الحكومة السابقة نفسها، وفي أجهزة الدولة والقطاع المصرفي وتجار وصرّافون وسياسيون وإعلاميون نافذون، وما زالت تفاصيلها الكاملة تتوالى فصولاً حتى الآن.

السوداني قال قبل أيام، إن المزيد من المتهمين سيتم الكشف عنهم وان القضاء سيلاحق كل من تورط فيها “في أي مكان”. بحسب رؤية السوداني، فان انتصار العراقيين في معركة الفساد، ممكن، مثلما انتصروا على الإرهاب.

اللغم الثاني الذي ضربت شظاياه حكومة السوداني رغماً عنها، يتمثل في بدء تدهور قيمة الدينار العراقي، وذلك برغم وصول احتياطات البلاد من العملات الاجنبية إلى أعلى مستوياتها على الإطلاق عند حوالي 100 مليار دولار، مدفوعة بارتفاع أسعار النفط عالمياً.

خلال مقابلة تلفزيونية قبل أيام، رفع السوداني مذكرة موقعة مع البنك المركزي العراقي قبل عامين، تقر بموافقة الحكومة السابقة على عملية تطبيق “المعايير الدولية” على عمليات سحب الدولار من البنوك وتحويلاته، وهي بالضبط الإجراءات التي طلبتها وزارة الخزانة الأميركية والمجلس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي في نيويورك وقتها، بما في ذلك إعتماد المنصة الإلكترونية للتحويلات، لكنها سرت فعلياً في الأيام الأولى التي تولى فيها السوداني مسؤولياته الحكوميةـ وأصابت بالتالي الدينار العراقي، بأذى.

إقرأ على موقع 180  برلمان تونس: فسيفساء التشتّت وخيبة الأمل

تجري الآن محاولات لمعالجة الأزمة. تتحدث أنباء عن أن قوى الإطار التنسيقي اقترحت على السوداني مخرجاً يتمثل في التواصل مع الأميركيين لطلب التمهل والتروي والتدرج في تطبيق القيود الجديدة لكي لا تتأثر مصالح التجار واستقرار الدينار، وبالتالي الأسعار التي أدى إرتفاعها إلى إلحاق ضرر كبير في القوة الشرائية للمواطنين.

ولعل المؤشرات بدأت تتجمع على أن هناك حلولاً لقضية التحويلات يتم طبخها بهدوء. ففي اتصال بايدن بالسوداني، اعرب الرئيس الأميركي عن دعمه لخطط رئيس الوزراء العراقي واصلاحاته الاقتصادية والمالية، بحسب بيان البيت الأبيض.

وفي الوقت نفسه، انفض اجتماع عقد في تركيا بين وفد من البنك المركزي العراقي مع مساعد وزير الخزانة الاميركي براين نيلسون، تناول “آفاق التعاون والتنسيق بين الجانبين بما يسهم في تحقيق إستقرار سعر الصرف في العراق والآليات المرتبطة بذلك”. وأكدت وزارة الخزانة الامريكية دعمها لتحقيق الاستقرار الاقتصادي في العراق في إشارة الى تعزيز ما تم بحثه في الإتصال الهاتفي الذي جرى بين بايدن والسوداني لجهة التأكيد “على اهمية إستقرار العراق للمنطقة”، بينما أبدت وزارة الخزانة الأميركية “استعدادها للمرونة اللازمة لتحقيق الأهداف المشتركة”.

لعلها المرة الاولى في مرحلة ما بعد العام 2003، التي تحظى فيها حكومة عراقية، بمثل هذا “الإحتضان” الخارجي، إن صح التعبير، وربما هذا ما يجب أن يحث العراقيين على التفاؤل، وربما يدعوهم في الوقت نفسه، الى اليقظة والحذر الشديدين، ذلك أن فرصة حكومة السوداني، إن أصابها أي إهتزاز كبير، ستصبح في مهب الريح وسيكون الموقف مفتوحاً على المجهول.

Print Friendly, PDF & Email
خليل حرب

صحافي وكاتب لبناني

Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  ما بعد قمة بوتين ـ بايدن.. نعي العالم الأحادي القطب