لكن في كلا الحالتين، يتحمّل من يقود البلاد المسؤوليّة عن خياراته ويتحمّل من يقوم بإصلاحات جوهريّة مخاطر فقدان الشعبيّة لأنّه في جميع الأحوال سيتعامل مع مصالح خاصّة فرديّة أو جماعيّة أو لدولٍ خارجيّة. والتاريخ والمجتمع سيحكُمان ككلّ، وأحياناً بشكلٍ متأخِّر، إن كان فعلاً خدم المصلحة العامّة أم لا. الإصلاحيّون مثل هؤلاء الذين يخدمون عامّة شعبهم هم نادرون في تاريخ الشعوب.
وفي جميع الأحوال تبقى الحريّات العامّة، الفرديّة أو الجماعيّة، وحمايتها هي الضرورة الأساسيّة، مهما كان النظام السياسيّ، كي لا تتمادى أيّة سلطة تنفيذيّة أو تشريعيّة (أو حتّى قضائيّة) في ممارسات لا تخدم المصلحة العامّة. مع الحذر من أن تُحصَر هذه الحريّات بالصحافة والإعلام اللذين يُمكِن أن يخضعا عامّةً للسلطة القائمة أو للمصالح الخاصّة.
في حالات الأزمات والكوارث الكبيرة، تضحى تحدّيات عمل مثل هذه الأنظمة السياسيّة من أجل المصلحة العامّة أكثر حديّةً، خاصّةً وإن كانت بحجمٍ يتخطّى قدرات الدولة وحدها. فمنِ المسؤول عن الشروع وبسرعة بما يُمكِن أن يُخرِج المواطنين والبلاد من هذه الأزمات والكوارث، أكانت نتيجة فعل البشر أم الأقدار؟
أخذ الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وهو الذي كان قد حوّل النظام السياسيّ في بلاده إلى رئاسيّ، على مسؤوليّته كلّ ما يتمّ القيام به لمواجهة الزلزال، اعترافاً بالأخطاء وواعداً بما يجب على الدولة القيام به. وهو يأخذ بالتالي مخاطرةً شخصيّة حقيقيّة مع قرب موعد الانتخابات الرئاسية
هكذا ظهر جليّاً عجز النظام البرلمانيّ اللبنانيّ أمام الأزمة الماليّة الكبرى التي استفاق عليها في تشرين الأوّل/أكتوبر 2019، وهي من أضخم الأزمات على مستوى العالم والتي ما زالت مفاعيلها القاسية تتفاقم على كلّ سكّان لبنان. لم تكُن هذه الأزمة مفاجأةً حينها، لا لجميع قادة الكتل السياسيّة ولا لأغلب النوّاب ولا للقائمين على السلطة التنفيذيّة، بل بدأت مفاعيلها تتبدّى منذ 2016 وجاءت تحذيرات كثيرة من وقوعها الحتميّ، حتّى من المؤسّسات الدوليّة الكبرى وإن بشكلٍ خافِت.
من يتحمّل إذاً المسؤوليّة أنّ لا شيء حصل لتدارك آثار هذه الأزمة منذ 2016؟ علماً أنّ كلفتها على البلاد والشعب (وعلى ودائع الناس والمؤسّسات في المصارف) كان لها أن تكون أقلّ بكثير إذا ما تفجّرت حينها. ومن يتحمّل المسؤوليّة عن تدارك آثارها منذ انفجارها في 2019 وحتّى اليوم؟ في ظلّ تعطيل البرلمان للسلطة التنفيذيّة كتواجد – من انتخاب رئيسٍ إلى تشكيل حكومة – أو كخطط عمل (من حصر خروج العملة الصعبة إلى خطّة الإنقاذ)؟ وهذا لأكثر من ثلاث سنوات وبرغم انتخابات نيابية جرت لم تغيّر من التعطيل شيئاً.
وواضحٌ الآن أن استمرار هذا العجز يأخذ اللبنانيين والخطاب العام في البلاد إلى طروحات متطرّفة ومُشرذِمة تهدّد وحدة المجتمع وما بقي من بنية الدولة.
بالمقابل، يُعطي النظام السياسيّ في سوريا رئيس الجمهوريّة صلاحيّات مطلقة تنفيذيّة وتشريعيّة. وواضحٌ للعيان أنّ لا وزن كبيراً للمجلس النيابي في وضع السياسات العامّة، أو حتّى في اختيار الحكومة.
يُمكِن النقاش طويلاً حول أسباب الانتفاضة ثمّ الصراع الذي جرى في سوريا منذ اثني عشر عاماً. أكانا نتيجة أسبابٍ داخليّة اجتماعيّة واقتصاديّة وسياسيّة، ومن ضمنها قضايا غياب الحريّات العامّة، أم فقط أنّها مؤامرات خارجيّة أتت في سياق ما تمّت تسميته “الربيع العربيّ”. مع أنّ العنصرين كان لهما فعلهما. لكنّ النقاش الأهمّ هو إن كانت السلطة التنفيذيّة قادرة في بداية الأحداث على اتخاذ خطوات تُجَنّب البلاد ومواطنيها الدخول في صراعٍ مدمِّر مع ما عاشوه من مآسي خلال هذه السنوات؟ أو إن تمّ استغلال فرصة لمصالحة وطنيّة كبرى في 2015-2016، أي في مرحلة ما بعد القضاء على داعش كـ”دولة”، كانت قد احتلّت جزءاً كبيراً من الأراضي السوريّة؟
إنّ النقاش الأكثر أهميّةً من كلّ هذا يخصّ اليوم تداعيات الزلزال الكارثي الذي حدث في تركيا وسوريا في 6 شباط/فبراير. واضحٌ أنّ آثار الزلزال أكبر من قدرات الدولة التركيّة برغم ضخامتها، وأنّها أكبر بكثيرٍ من قدرات الدولة السوريّة التي أنهكتها سنون الصراع والعقوبات وهيمنة أمراء الحرب، وواضحٌ أيضاً أن معظم الدول اللاعبة في سوريا كانت عاجزة حتّى عن التدخّل لإنقاذ المواطنين العالقين تحت الأنقاض في مناطق نفوذها، في بلدٍ قطّعت الحرب والصراعات، فيه وعليه، أوصاله.
أخذ الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وهو الذي كان قد حوّل النظام السياسيّ في بلاده إلى رئاسيّ، على مسؤوليّته كلّ ما يتمّ القيام به لمواجهة الزلزال، اعترافاً بالأخطاء وواعداً بما يجب على الدولة القيام به. وهو يأخذ بالتالي مخاطرةً شخصيّة حقيقيّة مع قرب موعد الانتخابات الرئاسية في ايار/مايو المقبل.
السوريون سيشكرون يوماً من تحمّل مسؤوليّاته تجاههم وأخذ المخاطرة الضروريّة على عاتقه ليس فقط لإنقاذهم وإغاثتهم بل لجمع شملهم في بلدٍ يجب أن تعود له عزّته ورخاؤه.. هو ولبنان
بالمقابل، يُمكِن التساؤل ليس فقط إن كانت هكذا مسؤوليّة قد أخذت حقّها ليس فقط في إدارة مرحلة الإنقاذ من الأنقاض وإسعاف المنكوبين في المناطق الخاضعة لسيطرة الدولة السوريّة؟ بل أيضاً وأساساً في استغلال فرصة كارثة أتت بها الأقدار لفعل كلّ شيءٍ مُمكِن لرأب الصدع بين السوريين في المناطق التي لا تسيطر عليها الدولة؟ وذلك مهما كانت خطابات هذا الطرف أو ذاك، ومهما كانت التراكمات العميقة التي خلّفتها سنوات الصراع.
لا يُمكِن رمي هذه المسؤوليّة على حكومةٍ أو لجانٍ أو دراسات في نظامٍ رئاسيّ، خاصّةً في الحالات الطارئة. ولا يُمكِن رمي الأمور فقط على ندرة الإمكانيّات والعقوبات الخارجيّة، برغم حقيقتها. فها هي الولايات المتحدة المُحرَجة أمام مجتمعها ترفع عقوباتها لأشهر عن سوريا، برغم أنّها ادّعت طويلاً أنّ هذه العقوبات هي على الأفراد وأنّ لا أثر لها على الإغاثة وعلى معيشة السوريين.
لقد تدارك المواطنون السوريّون للتعاضد تجاه الكارثة بما يتخطّى خطوط التماس، برغم كلّ تراكمات الصراع وبرغم حملات تحريض استمرّت، في داخل البلاد وخارجها، حتّى خلال الكارثة. هم يعرفون أنّ هذا التعاضد واجبهم ولا يحتاجون إلى من يشكرهم على ذلك. بل سيشكرون يوماً من تحمّل مسؤوليّاته تجاههم وأخذ المخاطرة الضروريّة على عاتقه ليس فقط لإنقاذهم وإغاثتهم بل لجمع شملهم في بلدٍ يجب أن تعود له عزّته ورخاؤه.. هو ولبنان.