ربما صار بالإمكان تقديم ما يشبه جردة حساب إقتصادية لولاية محمد شياع السوداني، سواء بسعيه لكبح جموح الدولار وتحصين الفئات المهمشة، وملاحقة المشاريع المتلكئة، وصولاً إلى مطادرة ملفات الفساد، وهي معركة يراها “مصيرية”، حسب المقربين منه.
وبمعنى أكثر وضوحاً، هناك مؤشرات تفيد بأن هناك رؤية قيد التبلور للسوداني، يؤمل أن تساهم في تحصين ولايته الحكومية، محورها الشق الاقتصادي، وهو ملف يُشرّع له الأبواب عراقياً، إقليمياً ودولياً.
وفعلياً، تحتاج ميادين الاقتصاد العراقي، إلى ورشة عمل مفتوحة، وربما تتطلب ما هو أكثر من ولاية حكومية واحدة، وضاغطة زمنياً، بعد سنوات الخراب الإرهابي.. والفساد المتمترس في كل المفاصل والقطاعات. ولأن المهل الزمنية المتاحة محدودة نسبياً، والملفات أكثر تعقيداً والتهاباً مما يبدو لكثيرين، فإن السوداني يبدو كأنه يخوض هذه المعركة مُتسلحاً بمسيرته السياسية ـ الإدارية، البعيدة عن الأضواء، والتي يقول مراقبون إنها لم تتلوث بمحسوبية أو فساد. كما يتسلح، بفكرة مجيئه إلى رئاسة الحكومة مفوضاً من جانب الأحزاب والقوى السياسية والبرلمانية التي ظلّت تتجاذب – وتتصارع أحياناً – طوال أكثر من عام من دون أن تتفق، إلى أن سال الدم في الشارع.
وبهذا المعنى، فإن السوداني الآتي من قلب مؤسسات الدول العراقية نفسها، يحمل تفويضاً، بانتهاج الدروب الأقل كلفة سياسياً والانكباب بالتالي من أجل إيلاء الملف الإقتصادي-المعيشي الأولوية القصوى، وبالطبع، من دون إغفال الاستحقاقات الأخرى سواء الداخلية، كالأمن والإصلاح الإداري والعلاقة مع الإقليم الكردي؛ أو خارجياً، كالعلاقة مع واشنطن والمحيط العربي، والخليجي بشكل خاص، واستطراداً الايراني والتركي، وهي رهانات قد تبدو لكثيرين بمثابة “مهمة مستحيلة”.
ثمة تقديرات تشي بأن حجم الاموال المنهوبة منذ العام 2003، قد تخطى ال300 مليار دولار. ويقول السوداني الآن “اعتمدنا آليات لتنظيم عملية استرداد الأموال المسروقة سواء كانت قبل 2003 أم بعدها، وليس هناك خطوط حمراء بمكافحة الفساد”
يُعِين السوداني في مسعاه الشاق هذا، أنه يحمل منسوباً ما من الثقة الدولية والتي عبّرت عنها ممثلة الأمم المتحدة في العراق جينين بلاسخارت أمام مجلس الأمن الدولي، عندما أكّدت أن الحكومة العراقية تقوم بخطوات عديدة من أجل مكافحة الفساد واستعادة الاموال المنهوبة، وهي ثقة أشار اليها أيضاً الرئيس الاميركي جو بايدن عندما اتصل بالسوداني مؤكداً أنه يدعم رؤيته وخطواته الإقتصادية.
وفي هذا الاطار، يقول السوداني “إننا نؤمن وبشكل ثابت بأن العلاقة المستدامة بين دول المنطقة واستقرارها تأتي من خلال ربط المصالح المشتركة”. ولم تكن صدفة ان يحط رئيس وزراء العراق في أبو ظبي، وتعلن هيئة النزاهة الاتحادية القاء القبض على المديرة العامة السابقة للمصرف العراقي للتجارة التي كانت موجودة في دولة الإمارات وملاحقة بملفات فساد إداري ـ مالي، طالت أكثر من مليار دولار.
وبينما أجرى وفد عراقي برئاسة وزير الخارجية فؤاد حسين، مبعوثاً من السوداني محادثات في واشنطن، تناولت ملفات الاقتصاد والطاقة والعلاقات العراقية -الأميركية، بما فيها قضية الضوابط والمعايير الجديدة لعمليات سحب الدولار، استبقها السوداني بالإشارة، أكثر من مرة، إلى أنه “بعد شهر من تشكيل الحكومة، فوجئنا بآلية متفق عليها بين البنك المركزي العراقي والبنك الفيدرالي الاميركي” منذ عامين، أي منذ أن كان مصطفى الكاظمي رئيساً للحكومة.
وتأثر العراقيون بشكل واضح من تطبيق هذه الاجراءات المحددة من جانب الخزانة الاميركية، من دون أن يتم التمهيد لها بشكل كاف داخل الأنظمة المصرفية والمالية في العراق. وبعد مفاوضات عراقية مع وفد يمثل وزارة الخزانة الأميركية، عقدت في اسطنبول، مطلع الشهر الحالي، قال الأميركيون إنهم على استعداد لـ”ابداء المرونة اللازمة” حول القيود الجديدة. وبعد محادثات مع مسؤولي وزارة الخزانة في واشنطن، قال وزير الخارجية فؤاد حسين إنها “كانت إيجابية وفوق مستوى التوقعات”، وأن الوفد العراقي لمس دعماً من المسؤولين الأميركيين لسياسة الحكومة العراقية والبنك المركزي العراقي، بينما قالت وزارة الخارجية العراقية إن هدف زيارة الوفد “بلورة رؤية ذات أولويات اقتصادية وأهمية تحقيق اقترابات جوهرية تخص هوية السياسة النقدية العراقية وتوضيح هذه الهوية”.
وفي سياق مواز، قال السوداني إن قرار رفع سعر صرف الدولار في العام 2021 كان قراراً غير مدروس، وتسبب في ارتفاع اسعار المواد الغذائية، وأن الحكومة السابقة لم تتخذ إجراءات لحماية المواطن إزاء تأثيرات تغيير سعر الصرف، التي أثّرت على ذوي الدخل المتوسط، وتضررت بسببها المرافق الاقتصادية.
كما انتقد السوداني نافذة بيع العملة التي وصفها بأنها “نقطة سوداء في تاريخ المصارف”، مؤكداً أيضاً انه “سيتم اعادة اعداد قانون الموازنة العامة بعد تغيير سعر صرف الدولار”، بعدما صادق مجلس الوزراء على قرار مجلس إدارة البنك المركزي العراقي بتعديل سعر صرف الدولار مقابل الدينار، بما يعادل 1300 دينار للدولار الواحد، وهي خطوة تستهدف كبح صعود الدولار الذي تخطى احياناً الـ1700 دينار في الفترة الاخيرة.
سيتضح الآن مدى “المرونة” التي ستبديها وزارة الخزانة الاميركية في قضية تحويلات الدولار وسحوباته، وكيف سيكون تأثير ذلك على نسبة التضخم وارتفاع الاسعار، وعلى خزينة الدولة التي تستهلك جزءاً كبيراً من ميزانيتها السنوية على رواتب القطاع العام والتعويضات الاجتماعية حيث تشير التقديرات الى ان نحو 4.5 مليون شخص (بينهم افراد وزارتي الدفاع والداخلية والمخابرات وغيرها)، هم من الموظفين الحكوميين. لكن هناك تقديرات أيضاً بأن نحو 9 ملايين عراقي يعتمدون في معيشتهم على مداخيل من الدولة (في حال جمعت معهم العائلات الفقيرة التي تتلقى اعانات مختلفة من الدولة)، أي ما يعادل 23% من سكان العراق. وتستهلك هذه الرواتب والمخصصات للمتقاعدين والضمان الاجتماعي، اكثر من 40% من اجمالي نفقات الدولة، من دون أن ينفي ذلك حقيقة وجود كتلة كبيرة تقدر بمئات آلاف الموظفين الذين لا يداومون أبداً في المؤسسات الحكومية.
إن مثل هذه الأرقام، تتطلب عصا سحرية للتعامل معها، وبامكان حكومة السوداني أن تكتفي، كما فعلت العديد من الحكومات السابقة، بتسيير الملف كما هو، والاستفادة من الايرادات القياسية المتحققة من مبيعات النفط حيث ارتفعت الاحتياطات النقدية الاجنبية إلى أكثر من 110 مليارات دولار، في ظل الزيادة الكبيرة على أسعار موارد الطاقة منذ بداية أزمة الحرب الروسية-الاوكرانية قبل سنة من الآن.
وبطبيعة الحال، لن يكون ملف النفط والغاز خارج الإهتمام، فقد أعلنت الحكومة العراقية عن اطلاق جولة تراخيص خامسة لاستثمار الغاز الطبيعي، وهذه المشاريع المتوقفة منذ أربع سنوات، يقول السوداني إنها “ستوفر ربع كمية الغاز المستورد خلال 15 يوما من تاريخ تنفيذها” وتتيح ان يتمكن العراق من الاعتماد على الغاز الطبيعي الخاص به خلال السنتين المقبلتين بدلاً عن الغاز المستورد. كما أعلنت حكومة السوداني بلوغ المراحل النهائية في مشروع مد الأنبوب النفطي من محافظة البصرة الى ميناء العقبة الاردني.
كذلك، أعادت الحكومة العراقية تحريك عجلة 1450 مشروعاً متلكئاً من مرحلة الحكومات السابقة، وأعدت خطة زراعية تشمل اكثر من 5 ملايين دونم تلتزم الحكومة بتأمين البذور والاسمدة والمبيدات لها، وفعّلت الجهد الهندسي والخدمي لمناطق وشوارع مهملة على قاعدة ان جزءاً من الاضطراب السياسي الذي عاشه العراق في السنوات الماضية، مرتبط بتردي الخدمات.
وأطلق السوداني برنامج “السلة الغذائية” للعام 2023 والذي يستفيد منه أكثر من خمسة ملايين عراقي وشدّد على أهمية تنظيم “عملية توزيع أموال الأمن الغذائي الطارئ وتوجيهها لمشاريع البنى التحتية في المحافظات”.
ولكي “يتنفس” الناس، قرر السوداني فتح الشوارع المحيطة بـ”المنطقة الخضراء”. هذا ليس قراراً مرورياً، هذه لفتة لكي يبدأ الناس بالشعور بان الامور الراكدة في حياتهم اليومية، تتحرك، ثم يتبعها بتوجيهات للمباشرة في تنفيذ 17 مشروعاً ما بين مجسرات وأنفاق لتخفيف الاختناقات المرورية في بغداد.
يذهب السوداني الى القمة العربية -الصينية باستضافة السعودية. يشارك في “مؤتمر بغداد-2″، ويزور الجارة الاقرب، الكويت، ويحرص على زيارة ايران، المترابطة مصالح العراق الاقتصادية معها، ثم يدخل الى اوروبا من البوابة الالمانية، وبعدها يزور فرنسا ودولة الامارات، مراهنا على استقطاب المزيد من الشركات العملاقة الى السوق العراقي، واقناعها بصوابية الانتفاح الاستثماري على البلاد.
وفي السياق نفسه، يستقبل السوداني وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان ويتفق مع رؤية ولي العهد السعودي أن لا ازدهار في الاقليم، بلا الاستقرار، كما يستقبل سيرغي لافروف وزير خارجية روسيا التي لشركاتها استثمارات تتخطى ال10 مليارات دولار، وتطمح الى المزيد، وهو احتمال قد يتبلور في القمة التي يجري الاعداد لها، بين السوداني والرئيس فلاديمير بوتين في العاصمة الروسية.
ثمة ورشة عراقية جدية تشي بوجود مظلة أمان دولية وإقليمية ولكن الأهم أن تتوفر مظلة أمان عراقية تحمي مشروع بناء الدولة ولو أدى ذلك إلى هز أركان “دويلات الفساد”. العراق لم يعد مشكلة إنما مفتاح الحل، كما قال السوداني
هذا الحضور الخارجي قد يبدو ضرباً من العبث ما لم يترافق مع اجراءات ملموسة من اجل مكافحة الفساد الذي يصفه السوداني بانه الخطر الاول على الدولة بعد الارهاب، حيث في هذا السياق تمت اعادة النظر بعقود التسليح وضرب شبكات التهريب النفطي وملاحقة مئات المتهمين والمشتبه بهم بقضايا فساد، بينهم وزراء سابقون ومحافظون ونواب وأعضاء مجالس محافظات ومدراء عامون ومدراء بنوك بالاضافة الى موظفين آخرين في الدولة، بما في ذلك قضية “سرقة القرن” واستعادة جزء من الاموال التي نهبت، بينما تعهد بكشف اسماء المتهمين تباعاً والوصول إلى اي مجرم في أي مكان كان في هذه القضية المتورط فيها سياسيون وإعلاميون وبنوك، مستذكراً في هذا السياق كلام المرجعية العليا في النجف بأن “معركة الاصلاح أشد من معركة الإرهاب، والعراقيون قادرون على الإنتصار فيها”.
وثمة تقديرات تشي بأن حجم الاموال المنهوبة منذ العام 2003، قد تخطى ال300 مليار دولار. ويقول السوداني الآن “اعتمدنا آليات لتنظيم عملية استرداد الأموال المسروقة سواء كانت قبل 2003 أم بعدها، وليس هناك خطوط حمراء بمكافحة الفساد”.
بين الحركتين الداخلية والخارجية، ثمة ورشة عراقية جدية تشي بوجود مظلة أمان دولية وإقليمية ولكن الأهم أن تتوفر مظلة أمان عراقية تحمي مشروع بناء الدولة ولو أدى ذلك إلى هز أركان “دويلات الفساد”. العراق لم يعد مشكلة إنما مفتاح الحل، كما قال رئيس مجلس الوزراء العراقي في كلمته أمام المشاركين في مؤتمر ميونيخ للأمن.