الفيلم مجموعة من الرموز التي تمثل القوى الممكنة من سلطات سياسية، دينية، إجتماعية، الخ. بطله محمود عبد العزيز وربما أنا أيضاً شخصية رأفت الميهي الذي يرفض أن يكون أبيه وأخيه.
أخاه هو حسن سبانخ بطل فيلم الافوكاتو (عادل إمام) الذي يتاجر بكل شيء، بينما أحمد سبانخ يريد ان يكون ذاته، ولكن ذلك صعب في هكذا واقع.
تم تغيير اسم الفيلم من “سبانخ” الى “سمك لبن تمر هندي” بسبب الرقابة، إلا أن الإسمين يُعبّران عن حالة التعويم للمتضادات والمتناقضات.
الاستعارات اللغوية
١. “سمك لبن تمر هندي” تُعبّر عن الميوعة وعطف ما لا يمكن اجتماعه.
٢. “سبانخ” تُعبّر عما يسميه الإنسان السائل (وجه منه) لزيجمونت باومان [1].
والـ”سبانخ” تعبر عن عدم الصلابة، الميوعة، الانسحاق الهوياتي.
الإنسان القابل لفعل كل شيء وبلا أية أخلاق، إلى حد التحالف مع أي سلطة لأجل منفعته الشخصية.
٣. “إدارة” معالي زايد وهي تمثل “إدارة” وهي حبيبته منذ عشر سنوات يدفع له مهرها أبوه المسافر بالتقسيط؛ والاسم يدل على أهميتها في إدارة تلك العلاقة.
القصة
محمود عبد العزيز يمثل دور أحمد سبانخ وهو طبيب بيطري، يمارس مهنته بشكل كامل ومن دون أن يأخذ أي رشاوى، بل يتعامل بأخلاق وهكذا مع كل شيء فيما يرى في رحلته جميع الانتهاكات الممكنة ويرفض أن يكون مثل أخيه “حسن سبانخ” ومثل الممرض.
“إدارة” الشريك الآخر والتي تمثلها معالي زايد تساعده، فتكتب على الآلة الكاتبة باستمرار حتى تقرحت أصابعها وهي مثله في التعامل مع العالم، بأخلاقية كبيرة..
يظهر البطل في حالة الحصر دوما، وكل شيء يدفعه ويحصره أو يحاصره نفسياً في مكان ضيق، فيضطر ويضطر ويضطر.
يصله خبر وفاة والده ومن هنا تتحول عملية السرد إلى سردية سوريالية لأن ضابط الانتربول ويُسمى “ملاك” ـ وهذه استعارة أخرى ـ يشك في أنه إرهابي.
هنا تبدأ رحلة القبض عليه وإيداعه في مستشفى تغسل الأدمغة لتحول هؤلاء الإرهابيين ولأخذ اعترافاتهم بموجب أدلة واهية.
المستشفى كمسرح سوريالي
المستشفى عبارة عن مسرح سوريالي لرأفت الميهي، ربما لقدرة المستشفى كمكان على اللعب في الأعضاء أو الحركة التي يمكن أن تغوي وتنفَذ إليها المشاهد السوريالية.
الضابط يتعرض للخيانة ممن هم معه، فيقترب من التحول إلى شخص مطلوب ومتهم، أما “إدارة”، فتذهب إلى الجنة ويهرب محمود عبد العزيز.
السرد المتتابع
هناك مشابهة لنفس المتن في ظهور السوريالية التي ابتدأت لغويا وشِعريا حتى تحولت إلى شكل بصري.
السوريالية بدأت كمجموعة أدبية من قبل ظهور الفن السوريالي.
وأيضا رأفت الميهي كاتب سيناريو أولاً ولم يدرس الاخراج في أكاديمية بل علّم نفسه من الكتب والتجريب، ويظهر ذلك في معالجاته السينمائية لروايات معينة واهتمامه بهذا الجانب.
وفي1981 كتب وأخرج فيلم “عيون لا تنام” من بطولة أحمد زكي ومديحة كامل وهذا أول اخراج له وحده.
ومع كم المعالجات تلك هو مُطلِع بشكل كبير، بحكم دراسته للأدب الانجليزي.
التكوين السردي لرأفت الميهي
لا يوجد مذهب فني أو حركة تظهر وحدها من دون أسباب.
السوريالية كحركة في بدايتها، قامت ضد تهاون الطبقة الوسطى بعد الحرب العالمية الاولى، لأن الطبقة الوسطى شاركت في الحرب بالصمت أو بالفعل.
ورأفت الميهي مطلع على الفلسفات، العبثية، السوريالية.. إلخ. فنزعته كانت عبارة عن لوم كل ما كوّن حالة بطله في الفيلم محمود عبدالعزيز، حيث لا يمكن التعامل بمنطق مع كم المدركات المختلفة الغريبة الضاغطة مع السمك واللبن والتمر الهندي ليُخرِج شخصية صحيحة.
السوريالية نزعة فِكرية
ليس هذا السبب الوحيد لظهورها كمذهب.. هناك أسباب كثيرة بحسب زاوية النظر، أولها، حاجة الفنانين لخلق قوالب فضفاضة من دون حدود.
قدرتهم على الوقوف من فوق لأعلى المجتمع ورؤية العلاقات والتفاصيل، والربط البصري والمفاهيمي.
الأفلام التي أخرجها الميهي كانت سوريالية في أغلبها، يمكن تأويلها بالكثير مع احتوائها على أفق دلالي يصل إلى الانسان العادي.
الكوميديا السوداء
يُسميه أصحابه المكتئب الأعظم كما قال مجدي محمد علي. فكآبته ليست بشكل مباشر بل بشكل رمزي في الكوميديا السوداء.
وتمرير تلك السوريالية بالاعتماد على الكوميديا السوداء التي ليست حالة دعائية للفيلم، بل يعتمد عليها الفيلم “تعتمد إمكانية حل هذا التعقيد، بإحلال نوع من من التوافق بين هذه القوى، يعيد المياه إلى مجاريها” [2].
لا يوجد مذهب من المذاهب الفنية يظهر هباءً وحده. دائما هناك أبعاد كثيرة تساهم في ظهوره، مثل الظروف الاجتماعية والسياسية والاحداث الكبرى.. بالإضافة إلى أن أي مذهب فني جديد يقوم في الأساس على تطوير أو تعديل الأشكال الفنية التي قبله.
وتبني هذه المذاهب كذلك في واقعنا المعاصر العربي صعب كونها بعيدة جداً عن المتلقي في السبعينيات لذلك طعّمها بالكوميديا على أساس تراجيدي بما يخدم السياق.
الأحلام عند رأفت الميهي
كما استخدم السورياليون الأوائل الأحلام والخيال لكي يعبروا عن ذاتهم، واستخدموا أيضا وسائط كثيرة، استخدم رأفت الميهي التقنيات ذاتها.
“اعتمدت(السوريالية) على قوة اللاوعي، أهملوا تماما العقلانية والواقعية الأدبية، وكانوا يتعاملوا معه بنوع من الازدراء”.
لكن طريقة تعامله مع المعقول والمنطقي لم تصل إلى حد الازدراء، بل السوريالية طريقة لفهم الواقع والتعبير عنه.
رأفت الميهي والبرج العاجي؟
ومع ذلك لا نستطيع أن نقول أن رأفت الميهي، رومانسي ومن أصحاب الأبراج العاجية.
فهو يعتقد أن الوحي ممكن أن نجده كما عند السورياليين في كل مكان. في الشارع والحياة اليومية وهذا ما فعله، أي بتوظيف الحياة اليومية لمفاهيم كبرى.
خصائص السوريالية
تحققت الكثير من خصائص السوريالية في أفلام رأفت الميهي وخصوصا فيلم “سمك لبن تمر هندي” ومنها:
- المزج بين الواقع والحلم (الأحداث التي تجري في المستشفى).
- بين المرئي واللامرئي (حديثهم مع الشباك الأسود).
- الاحتفاء بالمدهش (مفهوم الجنة في ذهاب “إدارة”).
- تحرير اللاوعي (الآباء سواء لأحمد سبانخ أو الضابط ملاك).
- السعي لتعرية المجتمع وصدمه عبر زعزعة ثقته بالواقع وبمؤسساته القائمة التي تسعى لتكبيل حريته وطمس حقيقته (سلطة السياسة وسلطة الدين).
- استكشاف مملكتي الحلم والرغبة باعتبارهما منبعين للإلهام السوريالي.
السوريالية من نظرة أخرى
السوريالية في تعريف آخر هي ثورة على النظم والسرديات المعهودة سينمائيا لكنها بتعريف آخر طريقة تعتمد على “تحطيم جميع الحواجز التي تحدد الفرد، جاعلة منه غريباً عن ذاته. فالسوريالية ترفض الموانع، والتعارضات الثنائية (عقل – جنون، واقع – استيهام، طفل – بالغ، يقظة – حلم…) إنها تفترض اولياً انساناً استعاد وحدته، في حالة ابتكار وخلقٍ دائمين). [3]
فأحمد سبانخ طفلا في مشاهد يُحدّث ابيه، وانتقال الأدوار كدور ملاك وإدارة في الاستجواب، لتلغي الثنائية أو الحدود بين الشخصيات تماماً.
سبانخ كزرادشت
ولا يمكن تمرير الفيلم بدون نظرة فنية ميثولوجية، وهي عبور محمود عبدالعزيز على حماره جاذبا المريدين بلغته، كما فعل زرادشت، لكنه زرادشت المصري، فيما اختار بعضهم الانضمام إليه ولم يلق له البعض بالاً كونهم غير مهتمين من الاساس بفعل الثورة.
لا يمكن التأكد هل هذه أحلام أم واقعية مفرطة؟ هل هذه فانتازيا خالصة أم فانتازيا من متن واقعي وتعبيراً عنه؟ إن هذه الأسئلة هي التي تغني سينما رأفت الميهي.
المراجع:
- الانسان السائل مقال د. محمد عبدالله القواسمة.
- هينيري اجيل، علم جمال السينما.
- الصوفية والسوريالية، أدونيس.