الجواهري.. فرادة القصائد والأحلام والشعراء

يمكن اعتبار القرن العشرين هو قرن محمد مهدي الجواهري (1899 ـ 1997) بامتياز. ويمكن التعرّف على أوضاع العراق من خلال قصائده التي أرّخت الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية، علمًا بأن التاريخ الحقيقي لا يكتبه المؤرخون، بل يكتبه الفنانون، حسب الروائي الروسي مكسيم غوركي، لما فيه من تعبير صادق عن واقع الحال وانعكاس له.

كيف يمكنني أن أختزل شاعرًا كبيرًا بقامة الجواهري وحجم عطائه الإبداعي وتنوّع تجربته الغنية، ناهيك عن علاقتي الشخصية به والتي تمتدّ إلى نحو ثلاثة عقود من الزمن في مقالة أو بحث أو دراسة أو شهادة أو حتى كتاب، فقد بات البحث في شعر الجواهري وأدبه، ناهيك عن شخصيته وسيكولوجيته الخاصة من الأمور المعقّدة، فقد مثّلت مزيجًا من متناقضات عديدة لا تجتمع إلّا في شعراء نادرين أو فلاسفة كبار، لما تحمل من جوار الأضداد، فبقدر ما تتضمّن من تلقائية واعتيادية، ففيها فوارق واستثناءات، سواءً في الموقف والرؤية والسلوك، أم في التجربة والامتلاء والدلالة في المتخيّل والواقعي وما بينهما.

حيرة الشاعر

فالشاعر “العبّاسي” الذي عاش على امتداد القرن العشرين طولًا وعرضًا، يحمل في جنباته بيانًا وعرفانًا وبرهانًا، كلّ ذلك في محاولة تتطلّع إلى التجديد والحداثة لغةً وشكلًا حتى وإن كانت خيوط المحافظة تشدّها إلى التراث. تلك هي حيرة الشاعر التي عبّر عنها منذ وقت مبكّر، حيث تجاذبه قطبان هما الرغبة في التمرّد على الواقع من جهة والتعايش معه من جهة أخرى، وهكذا ظلّ معلّقًا بين الواقع والحلم وبين الحقيقة والطموح، وهو ما يأتي عليه في قصيدة كتبها في مطلع الثلاثينيات من القرن العشرين والموسومة ﺑ”المحرقة” والتي يقول فيها:

وما أنت بالمعطي التمرّد حقّه.. إذا كنت تخشى أن تجوع وأن تعرى

أو كما يقول في قصيدته الدالية التي مطلعها “ازحْ عن صدركَ الزبدا.. ودعه يبثّ ما وجدا” التي ألقى بعض أبياتها بمدينة النجف الأشرف في العام 1975 في حفل مهيب اقامته له الرابطة الأدبية لتكريمـــه بمناسبة منحه جائزة (لوتس) من اتحاد كتاب آسيا وأفريقيا، والتي يقول فيها:

عجيب أمرك الرجراج.. لا جنفًا ولا صددا

تضيق بعيشة رغدٍ.. وتهوى العيشة الرغدا

وترفِضُ مِنةً رَفَها.. وتُبغِض بُلغةً صردا

وتخشى الزُّهدَ تَعْشَقُهُ.. وتعشَقُ كلَّ من زهِدا

ولا تقوى مصامَدةً.. وتعبُد كلَّ من صَمَدا

وظلّت صورة التحدّي والتناقض مهيمنة على الجواهري طيلة حياته التي تمتدّ طوال القرن العشرين، فقد ولد في العام 1900 أي قبل ولادة الدولة العراقية بما يزيد عن عقدين من الزمن، حيث تأسست المملكة العراقية في 23 آب/أغسطس 1921، وذلك بتتويج الملك فيصل الأول ملكًا على العراق، وتوفي الجواهري بدمشق في 27 تموز/يوليو 1997.

ولعلّ صورة الجواهري التي ظلّت سائدة في الأذهان هي صورة المثقّف المنشق، خصوصًا في عقود الأربعينيات والخمسينيات والستينيات، وهو ما حاولت التوقّف عنده في كتابي “الجواهري – جدل الشعر والحياة” في الفصل الخاص الموسوم “شاعر ودولة”، فالجواهري شخصيةٌ هوميروسيةٌ لقرن عراقي كامل بتركيبته ذات الجذور الفكرية والثقافية والأدبية، وسيرة حياته الغنيّة وتجربته المركّبة وشخصيّته العصيّة على الطاعة بقدر ما هي مطواعة.

جدل الشعر والحياة

حين صدر كتابي نهاية العام 1996، كان الجواهري ما يزال على قيد الحياة. وكان من بين آخر الكتب التي صدرت عنه والتي “اطّلع” عليها قبل وفاته. وفي وقتها كانت البلاد تئنّ تحت وطأة الحصار الدولي، الأمر الذي جعل الثقافة مهمّشة وثانوية أمام عبء البحث عن لقمة العيش، بعد أن كان الكتاب زادًا شهيًّا على مائدة المثقفين العراقيين، ويكاد يكون ضرورة يومية لحياتهم، وبسبب تدهور الأوضاع فقد أصبح اقتناء الكتاب ترفًا، وإن ظلّ العراقيون يطمحون للحصول عليه.

والمسألة تتعلّق بفعلين متناقضين، أحدهما – حالة الإقصاء الثقافي للرأي الآخر، التي كانت تمارسها المؤسسات الرسمية بفعل أُحاديّة التوجّه السياسي والأيديولوجي، وثانيهما – انغلاق البلاد بحكم نظام العقوبات الدولي، فحتى أقلام الرصاص كانت ممنوعة بحجة استخدامها في الصناعات العسكرية.

لذلك كان كتاب “الجواهري – جدل الشعر والحياة” يدخل المكتبات العراقية متسلّلًا وحذرًا، حيث ساد ما عُرف في وقتها ﺑ “ثقافة الاستنساخ”، أي إعادة تصوير الكتب من نُسخها الأصلية، لاسيّما الممنوعة وبيعها بما يتلاءم مع الظروف المعيشية المتردّية، وعلى نحو أشبه بالمنشور السرّي.

وعرفت ذلك من عدد من الأدباء والمثقفين الذين اطّلعوا على نسخة كتابي عن الجواهري مستنسخة ورأيتها بأم عيني بعد أول زيارة لي إلى بغداد، التي اضطررت إلى مفارقتها والبعد عنها قسرًا لنحو 23 عامًا، وقد اقتنيت نسخة مستنسخة من كتابي لاحتفظ بها للذكرى.

 ولعلّ إصدار الكتاب بطبعة ثانية (دار الآداب – بيروت) وطبعة ثالثة شعبية (دار الشؤون الثقافية – بغداد) هي تأكيد على انتماء الكتاب للمكان بهدف إحياء الذاكرة والبحث في التفاصيل الصغيرة التي تشكّل عوالم يستعيدها، بل وينسجها المنفيون على حد تعبير إدوارد سعيد في كتابه “خارج المكان” الذي هو بمثابة سيرة ذاتية صدرت طبعته الأولى باللغة الإنكليزية العام 1999، وقد أهديت طبعة كتابي الثانية إلى المتنبي “شاعرًا وشارعًا”.

ثلاث صور متداخلة

ثلاث صور تتداخل عندي حين أستعيد تجربتي مع الجواهري؛ أوّلها الصورة المتخيّلة، وثانيها صورة الاقتراب من الواقع، وثالثها الصورة الصداقية، ومع كلّ هذه الصور ثمة إعجاب متميّز ورابط مشترك يجمع هذه الصور حتى لتبدو صورة واحدة وإن كانت متعدّدة.

كان اسم الجواهري منذ طفولتي يملأ الأجواء لدرجة أنه كان يسكن مخيلتي وأنا ذاهب إلى مدرستي “السلام” الابتدائية في محلة العمارة بالنجف الأشرف، ماراً في الذهاب والإياب أحياناً أمام جامع الجواهري الشهير، الذي مضى على إنشائه أكثر من مائتي عام، حيث كان راعي الأسرة الجواهرية وباني مجدها الأول الشيخ محمد حسن، صاحب كتاب “جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام” قد ذاع صيته العلمي وشاع اسمه في ذلك الزمان. وغدا كتابه مرجعاً رئيسياً للمنهج الدراسي، في جامعة النجف الفقهية، التي شُيّد صرحها منذ نحو ألف عام، وقد توفي جد الشاعر عام 1850، وظل قبره مميّزاً في النجف بقبته الزرقاء كعلامة بارزة في المحلة. وتضم القباب الزرق في النجف مقابر العوائل الدينية الثلاث الشهيرة، وهم السادة آل بحر العلوم وآل الجواهري ومسجدهما، وجامع آل كاشف الغطاء.

الجواهري في بيتنا

كانت قصائد الجواهري ودواوينه، تزيّن مكتبة العائلة، حيث كان أعمامي وأخوالي، من مريديه والمتغنّين بشعره، وتحتوي مكتباتهم الكثير من القصاصات والصحف التي تتابع أخباره ونشاطاته الإبداعية مثلما كانت دواوينه تتصدرها، وكانوا مع مجموعة من المثقفين والأدباء، لا ينفكّون يتجادلون بما نظمه الجواهري وما كتبه.

هكذا نشأ الجواهري معنا في المنزل إذا جاز التعبير، أو بالأحرى نشأنا ونحن نتطلّع إليه. فمدرسة الجواهري للعلوم الدينية والفقهية، كانت قريبة من دارنا في “عكَد السلام” وآل الجواهري، يتوزعون بالقرب من بيوتنا المتراصة والمتكاتفة والملتفة حول صحن الإمام علي ومرقده الذي تعلوه القبّة الذهبية المتوهجة، والباعثة على الجلال والهيبة.

في تلك البيئة النجفية ولأسرة عربية تهتم كباقي الأسر الكبيرة في النجف بالشعر والأدب والمجالس الحسينية، إضافة إلى مكانتها الدينية، ولدتُ وترعرعتُ لتغدو تلك الروافد الروحية إحدى أهم ركائز حياتي المستقبلية.

وكان الشعر بخاصة والأدب بعامة، يشكّلان الأساس، الذي لا غنى عنه في المجالس والمناسبات الأدبية والدينية والاجتماعية، التي هي أقرب إلى الأندية الثقافية والفكرية، تطورت على مر العصور. فقول الشعر في النجف، وكما تعارف عليه الناس، طبيعي بمعنى آخر، أنه غير مصطنع أو يهدف إلى الكسب، أي إنه وجداني (ضميري) نابع من الشعور وليس أمراً تعليمياً.

مطارحات جواهرية

في مطارحاتي مع الجواهري سألته عن روافده الثقافية، فقال إن الظاهرتين الدينية والأدبية تلتقيان وتتعانقان على نحو كبير عنده بحيث يكوّنان مجرىً واحدًا؛ دينيًا بحكم فصاحة القرآن الكريم وبلاغته، وأدبياً من منطلق الكتب الأدبية الأولى التي التهمها مثل نهج البلاغة وأمالي القالي والمرتضى وكتاب الأغاني للأصفهاني وما ترك الجاحظ من روائع وما خلف الشعراء من تحف ونوادر، ثم كُتب النحو والبيان وبما فيها من تقويم الكلمة والبحث عن أسرار بلاغتها، ناهيك عن الدراسة الأولى في الحوزة الدينية.

ويضيف الجواهري إلى ذلك المجالس الأدبية والثقافية في ليالي الجمعة أو أيام الأربعاء (أماسي الأربعاء) التي حظيت بشهرة كبيرة، حيث تشهد مباريات شائقة ومسابقات حماسية، وهو ما يورده الشيخ جعفر باقر محبوبة في كتابه “ماضي النجف وحاضرها”، حيث كان الشعر متعة تلك المجالس الأثيرة، تجري فيه المطاردات الشعرية وفي المقدمة منها مسابقات “التقفية” الصعبة، حيث يقرأ المتسامرون هذا البيت وذاك ويتركون للآخرين الرد عليهم بأبيات تبدأ بحرف القافية ويواصلون هم أيضاً استنباط القافية.

وقد وصف الأديب اللبناني أمين الريحاني عند زيارته النجف عام 1922 بأنها “أعظم مدينة في العالم” لا في زخارفها أو جمال قصورها، بل في رجالها، حيث التقى عدد من أدبائها ومثقفيها وعلمائها، وحضر مجالسهم، وكان الجواهري قد كتب قصيدته النونية التي حيّا فيها الضيف، وجاء في مطلعها: أرض العراق سعت لها لبنان/ فتصافح الإنجيل والقرآن.

فتوة وإرهاص

دخل الجواهري ذاكرتي الطفولية الأولى مصحوباً بالتقدير حدَّ التقديس، والافتتان حدَّ الوَله، وبقصائد تحدٍّ، زادت جذوة الفتوة اشتعالاً. وكان هذا يكبر معي بمرور الأيام، خصوصاً التأثّر بقدرته العالية في التعبير عن أحاسيس وإرهاصات، كان هو وحده خير من يستطيع ويُحسن التعبير عنها، حتى ليقودنا إلى طريق مليئة بالمفاجآت والأحلام، مفضية إلى عوالم أخرى موشاة بالذهب تارة، وبالألغام تارة أخرى، بروعة وإبداع بالغين، وأخيراً تصويره لعنصر التحدّي والإقدام الذي امتاز به على نحو لا يضاهيه فيه أحد، وقصيدته العمودية التجديدية، ذات البناء اللغوي الخاص والإيقاع الموسيقي المتميز والمعاني الإنسانية التي تنضح بها، وكأنها تريد أن تحلّق بك في أجواء علوية سامية، في حين تتجذر في الأرض وتمد عروقها عميقاً في التربة العراقية، شامخة مثل نخيل العراق، مشرئّبة نحو أفق واسع مديد، يتجاوز فضاء العراق نحو أمة العرب جميعاً، حاملة معها صدق المشاعر الإنسانية الشفيفة.

لم تكتمل صورة الجواهري في مخيلتي الصغيرة، لكنها أخذت تحفر مكانها في الذاكرة لتستقرَّ تدريجياً، متنقلة من المخيلة إلى الواقع.

كانت أجنحة الروح تخفق معه حين ينشد قصيدة التحدي ذات الألق الخاص والتأثير المتميز المرصّع بصور لاهبة شديدة الإيحاء كثيرة التموجات خصبة الأحاسيس مشحونة بمعان الحياة المملوءة بالتقلب والتعرج والتناقض، فهو كالبحر لا يستقيم على مدّ دون جزر أو على جزر دون مدّ.. إنه هما معاً.

الذاكرة الأولى بدأت تُختزن بقصائد وأبيات لها دلالات ومعان مرتبطة مع تلك الأيام، وبأسماء وبطولات وصور وتشكيلات كانت تؤلف المشهد الأكثر حضوراً في الصراع. وينبع بعضها من إشكاليات الجواهري ذاته، إذْ باستطاعته تحويل أيّة مناسبة إلى فرصة لتقريع خصومه، بل جرهم على المكشوف إلى حلبة الصراع ليعلن تحدّيه المباشر.

إن هذه القدرة العجيبة على التحدي، كانت السمة الأكثر تميّزاً في شخصية الجواهري وشعره، وكانت الجانب الأكثر تأثيراً في الشباب التوّاق إلى التغيير والتجديد. وتكاد قصيدة مثل “هاشم الوتري” تعبّر عن مرحلة كاملة، حيث يقول في مطلعها:

إيه “عميد الدار” شكوى صاحبٍ   طفحتْ لواعجهُ فناجى صاحبا

 ويهاجم الجواهري ويتحدّى:

أنا حتفهم ألجُ البيوتَ عليهمُ
خسئوا: فلم تزل الرجولةُ حُرةً
أعرفتَ مملكة يباحُ “شهيدُها”
مستأجَرين يخرّبون ديارهُمْ
  أغري الوليدَ بشتمهم والحاجبا
تأبى لها غيرَ الأماثلِ خاطبا
للخائبينَ الخادمينَ أجانبا؟
ويكافؤون على الخراب رواتبا

إذا كانت الصورة الأولى التي بدأت تتشكل مع مرور الأيام، مأخوذة بطابع الإعجاب والتحدي، فإن الصورة أخذت تفرز ألوانها، مع بداية الوعي بالحياة وتمييزي للأشياء، وقد أصبحت قصائد الجواهري، علامات مضيئة في الطريق التي تلمستها لاحقاً.

محظورات أبي

أذكر أن ثلاثة محظورات عكّرت صفو العائلة، وكدّرت مزاجها، فيوم اختفى عمّي شوقي (قبل اعتقاله) في أعقاب انتفاضة عام 1956، إبان العدوان الثلاثي الأنكلو- فرنسي “الإسرائيلي” على الشقيقة مصر وانتصاراً لها وتضامناً معها، احتار والدي الحاج عزيز شعبان، بتلك المحظورات، لأن كلاً منها كانت مصدر تهمة حسب اعتقاده، فما بالك إذا وُجدت مجتمعة.

المحظورات الثلاثة هي النظارة السوداء التي اكتشفها والدي مخبّأة في غرفة عمي شوقي مع حاجياته وأوراقه الخاصة. وكانت هذه دليلاً مقنعاً على المشاركة في التظاهرات. والثانية كانت الكوفية البيضاء (الغُترة في العامية العراقية) التي كان يلبسها الشيوعيون مع النظارة السوداء، لإخفاء معالمهم عن شرطة التحقيقات الجنائية، التي كانت تترصد المتظاهرين لتشخيصهم من قبل “الشرطة السرية” كما كانت تُدعى. وكانت النظارة السوداء مع الكوفية البيضاء دليلاً لا يخطئ خصوصاً إذا تم كبسهما في دور “المشبوهين”. أما الثالثة فكانت “القصيدة الحمراء” وأعني بها قصيدة “عالم الغد” للجواهري، التي كان الشيوعيون يتغنون بها، وكانت هذه بمثابة بطاقة انتساب “أولية” للحزب الشيوعي العراقي، حيث وضع والدي يده على عشرات من النسخ في غرفة عمي البعيدة عن جناح الضيوف، الذي كنا نطلق عليه اسم “البرّاني” في اللهجة العراقية والنجفية بشكل خاص (يقابله استخدام الديوانية في جنوب العراق وبلدان الخليج العربي).

القصيدة الحمراء

أخذ والدي يُداري حيرته وقلقه بتقديم التبريرات التالية، فالنظارة السوداء قال إنه سيبرر استخدامها في فصل الصيف الحار، وفي فترة الظهيرة حيث الشمس المحرقة، أما الكوفية البيضاء بدلاً من الكشيدة (وهي عبارة عن فينة حمراء أي طربوش أحمر ملفوفة من وسطها حتى حافتها السفلى برباط أصفر اللون) التي ظل يعتمرها على طريقة الأجداد، فيما اقترحت والدتي استخدام الكوفية كصرّة لحفظ الملابس (بُقجة بالعامية العراقية) وتوضع في الخزانة مع الملابس والحاجيات الأخرى.

وازداد قلق والدي بخصوص “القصيدة الحمراء” فلم يشأ إتلاف النسخ التي عثر عليها وهي تعود لشيخ الشعراء على حد تعبيره، وقال: إنني سآخذها معي إلى المحل وأضعها بين الأقمشة بعيداً عن الأعين، حيث كان يعمل تاجراً لبيع الأقمشة، وكان هذا اقتراح عمي ضياء أيضاً، الذي كان شديد الإعجاب بالجواهري وعلى الرغم أنه لم يُعلّق على المقترحات الأخرى، كما لم يبدُ عليه القلق والحيرة التي انتابت الآخرين، لكنه قد يكون أكثرهم احتراساً وإن كان أكثر تماسكاً ورباطة جأش. ثم اقترح والدي إخفاء القصيدة الحمراء ومعها بضع قصائد أخرى في السرداب (القبو) في مكان موحش يصعب الوصول إليه.

زيارة رجال الأمن

وحسمَ الوالد الأمر بقراءة آية قرآنية وأخذ يردد لثلاث مرات “بسم الله الرحمن الرحيم: وجعلنا من بين أيديهم سدّاً ومن خلفهم سدّاً، فأغشيناهم فهم لا يبصرون.. صدق الله العظيم” ثم قرأ “آية الكرسي” وقال: لنترك أمرنا إلى الله، وعلى طريقته “شيريد يصير خلّي يصير” أي “ليكن ما يكون” مضيفاً “الله يعمي أبصار الظالمين”.

وبدّدت حيرة الوالد وتردده زيارة رجال الأمن “التحقيقات الجنائية” وكبسهم المنزل في اليوم التالي، وكانت العادة المتبعة “قانوناً” اصطحاب مختار المحلة معهم، لكن الحاج كاظم الشكري، مختار محلّة العمارة في النجف، رفض مرافقتهم لاعتبارات اجتماعية وصداقية، فأجبروا حلاق المحلة “رسول المزيّن” في سوق العمارة على مرافقتهم أثناء تفتيش المنزل، لكنهم مع وجود “المحرمات” الثلاثة: النظارة السوداء والكوفية البيضاء والقصيدة الحمراء، لم يعثروا على أي “دليل جرمي” أو “مستمسك ثبوتي”.

إقرأ على موقع 180  حسابات الحرب واللاحرب بين واشنطن وطهران

ظل قلق القصيدة الحمراء ونظرة الإعجاب والتقدير للجواهري هاجساً يراودني بين الحين والآخر، وكلما اختلطت علي الأمور أو تشوّشت الرؤية أو بعدت المسافات، أو اتّسعت الهوّة بين الواقع والحلم أو استشرى التشاؤم والقنوط، أهرع إلى “ارتكابات” القصيدة، مستحضراً الصلة المعقدة وغير العقلانية بين المثقف ورجل الشرطة، والعلاقة بين الثقافة والقانون وبينها وبين السياسة، حتى أجد نفسي وجهاً لوجه أمام تلك الفترة، وبمواجهة الجواهري وهو ينشد قصيدة التحدي.

الحضور البهيّ

ما كنّا نقرأه أو نردده عن الجواهري، في المجالس الخاصة، همساً وتلميحاً، سمعته لأول مرة، يصدح من دار الإذاعة العراقية، بعد 14 تموز (يوليو) عام 1958، وإعلان الجمهورية العراقية، في قصيدته “النونية” التي يحيّي فيها الثورة، ويقول في مطلعها:

سدّدْ خطاي لكي أقول فأحسنا   فلقد أتيتَ بما يجلُّ عن الثنا

إلى أن يقول:

جيش العراق ولم أزل بك مؤمنا
عبد الكريم وفي العراق خصاصــة
  وبأنك الأملُ المرجّى والمنى
ليــدٍ وقد كنت الكريـم المُحسنــا

لكن الجواهري ظل يتعامل مع هذه القصيدة وكأنها لا تعود إليه، وحاول نسيانها أو تناسيها حتى عندما يُسأل عنها، وأتذكر عندما كنت أحاوره في النصف الأول من الثمانينيات قال لي مازحاً: “أن هذه القصيدة ليست لي”، وعند اختياري لها ضمن الذائقة الشعرية، كمختارات من شعر الجواهري في الكتاب الذي أصدرته في دمشق في العام 1986 بالتعاون معه “الجواهري في العيون من أشعاره”، اتصل بي مستدركاً من براغ وطلب مني رفع هذه القصيدة وعدم الإشارة إليها ضمن القصائد المختارة لفترة الخمسينيات، وفعلت ذلك على الرغم من أنني كنت قد أطلعته على المخطط وعلى الأبيات التي اخترتها من القصيدة، لكنه بنبرة جازمة كرّر طلبه برفع القصيدة، حتى وان تطلّب الأمر “إعادة الطبع”، وهو ما رويته بشيء من التفصيل في كتابي الموسوم “جواهر الجواهري” (قيد الطبع).

تكريم وسبع عجاف

شعرت مع بدايات الوعي والخطوات الأولى نحو الاهتمامات الأدبية والسياسية، بأن الثورة، في أهم ركن من أركانها الثقافية ردّت الاعتبار، أو لنقل بشكل أدق، كرّمت المبدعين والمثقفين، وفي الطليعة منهم الجواهري شاعر العرب الأكبر، كما صار يكنّى، وما كنت أدري أن هذه المقدمات التي حسبنا فيها أملاً لحياة جديدة، على الرغم ممّا رافقها من عنف غير مبرر وغير مشروع، ستنتهي إلى فواجع جديدة، ربما أشد فظاظة، بحيث يضطر المبدع الكبير والرمز العراقي والعربي، الجواهري، إلى الرحيل في العام 1961، وتلك إحدى المفارقات الخطيرة والمؤشرات الدالة على وصول الأوضاع إلى القاع تماماً. فقد كان هذه المرّة على يد الزعيم عبد الكريم قاسم الذي حاول إهانته وإذلاله، وهو الذي زار بيت الجواهري بعد الثورة وقال عنه “هذا المنزل هو الذي أنجب الثورة”.

ثم جاء انقلاب 8 شباط/فبراير 1963 فأُدخل الشاعر وشعره في دائرة الممنوعات بقرار أصدره، كما أصدروا قرارًا بإسقاط الجنسية عن عدد من المثقفين والسياسيين خارج البلاد، وكان الجواهري في مقدمتهم، ترأس لجنة التضامن مع الشعب العراقي. هكذا عاد الجواهري إلى دائرة المنع والعزل والتهميش، خلال السنوات السبع العجاف على حدّ تعبيره.

الجواهري في الخورنق

بعد أسابيع من ثورة 14 تموز (يوليو) 1958، جاء مدرّس مادة اللغة العربية السيد جواد كاظم الرفيعي في “متوسطة الخورنق” وهو يحمل صحيفة “البلاد” أو “صوت الأحرار” (لا أذكر بالضبط)، ليقرأ علينا قصيدة الجواهري “جيش العراق” ويطلب منّا أن نُعرب الأبيات، التي كان يقرأها على مهل وبدقة مصحوبة بنبرة محببة، ثم كلّفنا بحفظ ستة أبيات من القصيدة على الأقل، وبذلك دخل الجواهري حياتنا المدرسية وليس العائلية فحسب، مثلما شغل حياتنا السياسية والثقافية بكل معانيها، وبالمناسبة، فإن الأستاذ الرفيعي، اعتُقل معنا بعد أربع سنوات ونصف، في موقف “خان الهنود” الشهير (الذي كان المبنى الحكومي في النجف) قبل نقلنا إلى المعتقل (تحت الأرض)، وكنّا مع محبين آخرين لشعر الجواهري نتبادل الأحاديث ونجري مطاردات شعرية، حيث كان قسم غير قليل من المعتقلين ممن يحفظون شعر الجواهري، الذي كان يخرجنا من عتمة السجن ووحشته إلى آفاق شاسعة وعالم فسيح.

المدرسة التي كانت تستقبل قصائد الجواهري وتفتح نوافذها للجديد، أخذت تشجع المواهب الشابة الواعدة فتشكلت الفرق الموسيقية وأخرى للإنشاد والتمثيل، وكانت أيام الاثنين من كل أسبوع مناسبة يتبارى فيها “الواعدون الجدد” فتلقى الكلمات والخطب وتقرا الأشعار (في الساعة الأخيرة قبل نهاية الدوام).

وأتذكر من أوائل الذين تم تقديمهم وربما “اكتشافهم” إلى تلك اللقاءات الشاعر عبد الأمير الحُصيري (الذي كان طالباً معنا في المرحلة المتوسطة) وبدأ الحصيري خطواته الأولى بقراءة بعض قصائد الجواهري في الاجتماعات العامة “بلثغته المعروفة”، ثم بدأ ينظم بعض القصائد ونشرت له بعض الصحف مقطوعات منها.

 وجهاً لوجه

كانت العلاقة الأولى، قد نشأت بين الجواهري وبيني من بعيد، حيث كنت أتابع كل شأن عام له، وكنّا نجتمع في بيوت الأقرباء والأصدقاء، للاستماع إلى قصائده أو تلقّف أخباره. وكانت المرة الأولى التي ألتقي فيها بالجواهري وجهاً لوجه، هي في الاحتفال الذي انعقد في ساحة الكشافة ببغداد كانون الثاني (يناير) 1959، بمناسبة الذكرى الحادية عشرة لوثبة كانون 1948، حين اعتلى المنصة، لينشد في الجموع المحتشدة، بدعوة من جبهة الاتحاد الوطني، وكان حاضراً حينها بعض رجال الثورة، كالمهداوي وماجد محمد أمين ووصفي طاهر.

هكذا نشأت العلاقة بين الجواهري وبيني، بصمت ومتابعة وشغف. وكم كان الحزن عميقاً، عندما سمعنا لاحقًا سوء العلاقة بينه وبين عبد الكريم قاسم، والتي اضطرّ بسببها الهجرة إلى براغ بعد أن وصلته دعوة لتمثيل اتحاد الأدباء الذي كان يرأسه في مهرجان الأخطل الصغير (بشارة الخوري) التي تمّ تنظيمها في بيروت، وكتب قصيدته الشهيرة الموسومة:

لبنان يا خمري وطيبي.. هلّا لممت حطام كوبي

ومن بيروت توجّه إلى براغ. وكم كنّا ننتظر أخباره، التي كانت تصل إلينا مع “بريد الغربة” ومن إذاعة “بيكي إيران”، وفيما بعد “إذاعة صوت الشعب العراقي”، وأتذكّر أننا كنّا نسجّل بعض قصائده على شريط كاسيت لنقوم بتوزيعها ومنها قصيدة “أمين لا تغضب” التي أهداها إلى الصحافي اليساري اللبناني أمين الأعور وذاع صيتها في العراق. كما كان يسرّب لنا بعض أخبار صديقه الأديب عبد الغني الخليلي.

في بغداد

حين عاد الجواهري إلى بغداد التقيت به في منزل خالي المحامي والشاعر جليل شعبان الذي وجّه دعوة له، وكان بصحبة صديق العائلة عبد الغني الخليلي، وكان لقاء حميمًا حضره نخبة من الأدباء. وفي العام 1969 التقيت به في براغ في مقهى سلوفانسكي دوم وهي المقهى الشهير التي كان يرتادها وكتب منها قصيدة إلى وزير الداخلية صالح مهدي عماش، وعُرفت باسم قصيدة “الميني جوب”، وكان ذلك خلال زيارتي إلى براغ في طريقي بالذهاب إلى والعودة من كراكوف (بولونيا) لحضور اجتماع تحضيري بمناسبة الذكرى المئوية لميلاد لينين.

وبعد استقراري في براغ في أواخر العام 1970 كانت لقاءاتنا تتكرر وتزداد، سواء اللقاءات العامة وفي الفعاليات التي كنّا نقيمها وندعو الجواهري لإلقاء قصيدة فيها أو اللقاءات الخاصة مع مهدي الحافظ ونوري عبد الرزاق وموسى أسد الكريم (أبو عمران) وفيما بعد مع شمران الياسري “أبو كاطع” وعبد الستّار الدوري السفير العراقي حينها.

وكانت الحكومة العراقية قد خصّصت له راتبًا تقاعديًا بعد العام 1968 وحدوث انفراج سياسي وجرى تكريمه على أعلى المستويات. وعلى الرغم من تكرّر زيارته إلى بغداد 1968 – 1979، إلّا أن تلك الزيارات لم تنه منفاه، حيث استقرّ فيه بصورة نهائية حتى وفاته واختار منذ أواخر العام 1981 الشام بعد تهيئة مستلزمات ضيافته من الرئيس حافظ الأسد.

وخلال تلك الفترة توثّقت علاقتي بالجواهري، حيث أقمت في الشام أيضًا وهو ما جئت عليه في أكثر من مناسبة.

دمشق العيــون

فكّرت أكثر من مرّة في تدوين بعض ما ورد في لقاءاتي مع الجواهري وعن لسانه، فضلًا عن قراءاتي النقديّة لشعره، وذلك منذ أيام براغ المحطّة الأولى التي شاطرته عشقها، حيث أخذت العلاقة تتّخذ طابع الصداقة، لاسيّما توفّر عوامل موضوعية مدعاة للثقة، منها العلاقة العائلية والمدينية، إضافة إلى كوني رئيسًا للطلبة. ولكن هذا المشروع تأجّل بسبب عودتي إلى العراق، وعاد مجدّدًا في دمشق، وابتدأت معه فعلاً، حين استقر فيها أوائل الثمانينيات، وكنت أشعر بمسؤولية كبيرة بقدر ما هي رغبة شخصية. واحتفظت بجزء من تلك الذكريات والقصاصات والخصوصيات، إلّا أن الوقت لم يسعفني في إنجازها، حيث ذهبت إلى كردستان في مهمة إعلامية وسياسية، مع الأنصار “البيشمركة”، بين عامي 1982 و1983، وعند عودتي وتماثلي للشفاء، إثر علاج تلقيته في دمشق وموسكو واستكملته في براغ وصوفيا، بدأت المشوار معه مرة أخرى، وسجلت له أشرطة صوتية (كاسيت) في أواسط العام 1985، وأحتفِظ بعشرة منها.

وخلال الحوار، عَنَّتْ لي فكرة عبَّر عنها الجواهري بحاجة الجيل الجديد من الشباب العربي والجامعي بخاصة، وكل متذوقي الأدب والشعر منهم بعامة إلى المجموعة الشعرية الكاملة.

فاقترحت عليه إصدار عيون القصائد، وهكذا وقع اختيارنا على الإسم “الجواهري في العيون من أشعاره”، وهو عنوان موسيقي بقدر ما يمتلك دقّة في التعبير. وأبديت استعدادي لإنجازها. وقد قسّمت مجموعة القصائد إلى سبعة عقود، واخترت أفضلها وأحسن ما فيها من أبيات، محافظاً على روح القصيدة ومناسبة نظمها وفقًا لذائقتي الشعرية. وعرضت عليه المخطّط الذي وضعته، فوافق عليه مع بعض التعديلات الطفيفة. وهكذا صدرت “العيون” وأصبحت مرجعًا للدارسين ولكلّ متذوّقي شعر الجواهري.

وطلبت من الجواهري الكبير كتابة مقدّمة لها تبيّن أسباب اختيار هذه العيون ودوافع نشرها. وخصص الجواهري صفحة للحديث عن الجهد الذي بُذِل في سبيل إنجازها قال فيها “.. ويسرّني في الختام أن أخّص بالشكر الجزيل والامتنان العميق أخي وصديقي الأديب والمؤلف الدكتور عبد الحسين شعبان على أتعابه وفرط عنايته وجهوده الحميدة، سواء بما تقابل به معي في اختيار هذه “العيون” وفيما يختص بضم هذه اللقطة المختارة إلى جانب تلك أو في تصويرها، أو في الإشراف على طبعها وتصحيحها”، وكما قيل: 

من يصنع الخير لا يعدم جوازيه

  لا يذهب العرف بين الله والناس

وقد صدر الكتاب في دمشق عام 1986، عن دار طلاس للدراسات والترجمة والنشر بـ (696) صفحة. ونظرًا لمرور ثلاثة عقود ونيّف من الزمن ونفاذ الطبعات العديدة، فقد عملت على إضافة شروح كثيرة لألفاظ قدّرنا أنها تصعب على القارئ العادي، فلغة الجواهري عبّاسية بامتياز. كما صحّحنا جميع الأخطاء الطباعية التي كانت في طبعتنا من “العيون” أو في الدواوين السابقة دون إشارة إلى ذلك. وحدّثنا سيرة الجواهري إلى تاريخ وفاته (1997) بعد أن توقفنا في الطبعة الأولى عند سنة 1986. وذيّلنا هذا الكتاب بفهرس للقوافي إضافة إلى فهرس عناوين القصائد ليسهل الرجوع إلى القصيدة المطلوبة. وأضفنا 9 قصائد كتبها الجواهري بعد صدور “العيون” (ما عدا قصيدة أمين لا تغضب فهي من نتاج الستينيات)، وقد وضعناها آخر الكتاب مع الإشارة إلى أنها ليست في طبعات الكتاب السابقة. كما ضبطنا أواخر الكلم وخرّجنا بحور جميع القصائد وأثبتنا قبل كلّ قصيدة عدد أبياتها من الأصل، واخترنا اسمًا يدّل عليها والموسوم “جواهر الجواهري”.

جدير بالذكر أن الجواهري كان قد كتب لي قصيدة يقول فيها:

 

أبا “ياسر” أنت نعمَ الصحيب
لقد كنت في محضر والمغيب
وفي ذكرياتي كنت الصميم

   

وقلّ الصحّابُ ونعمَ الخدين
ذاك الوفي وذاك الأمين
سمير المعنى وسلوى الحزين

وطيلة العقود الثلاثة من علاقتي مع الجواهري كنت أكتشف في كل لقاء معه شيئاً جديداً وسراً مغايراً. وفي كل مرة أعيد قراءة شعره، أكتشف أشياء كثيرة جديدة، حتى وإن كنت قد قرأت القصيدة من قبل مرات عدة، وهكذا كنت أطّلع باستمرار على معلومة ثرية لديه أو دلالة جديدة في المعاني والإيماءات البلاغية أضيفها إلى خزيني، الذي بدأ يكبر.

واليوم أشعر بمسؤولية أكبر من السابق بوضع حواراتي مع الجواهري وما دوّنته عنه وما بحثت فيه وما استقيته من مراجع معتمدة أمام القارئ، أملي أن تكون إضافةً جديرةً ومختلفة ومتميزة عما جاء في المقابلات واللقاءات الصحفية، التي سبق للجواهري أن أجراها خلال عمره المديد وحياته الأدبية الحافلة وما كُتب عنه. فقد حاولت أن أركز على بعض القضايا التي لم يتناولها الجواهري سابقاً أو لم يتوقف عندها طويلاً.

وحين نشرت حلقتين من حواراتي مع الجواهري في صحيفة “الحياة” (مصدر سابق) هاتفني الصديق الشاعر الراحل بلند الحيدري، مبدياً إعجابه وتشجيعه، وهنا انتهزت الفرصة فطلبت منه أن يقرأ المخطوطة بعد اكتمالها ويقوم هو بتقديمها إلى القراء العرب، فرحّب بذلك بأدبه الجم وكياسته المعهودة وتواضعه المشهود قائلاً: “هذا يشرفني” واتفقنا على التفاصيل، لكن المرض داهمه بعد أيام فدخل المستشفى لإجراء عملية قسطرة قلبية، صاحبتها مضاعفات سريعة، لم تمهله طويلاً، فرحل ركن هام من أركان التجديد الشعري في العراق والوطن العربي وخسرت الثقافة رائداً من روادها.

حضور التاريخ

من النجف إلى بغداد ومنها إلى براغ ولندن ودمشق وبيروت كان الجواهري حاضرًا معي، بل أنه حاضر في تاريخ العراق، إذْ لا يمكن أن تتناول تاريخ العراق السياسي أو الاجتماعي أو الثقافي أو الصحافي أو غيره، دون أن تأتي على ذكر الجواهري، فهو أوّل من تمرّد على المدرسة النجفية التقليديّة حين خلع العمامة، وأوّل من ندّد بموقف الرجعيين كما أسماهم حين عارضوا فتح مدرسة ابتدائية للبنات في النجف 1929، وأول من ندّد بالفاشية والنازية وحيّا في قصائد شهيرة مدينة ستالينغراد، وأول من وقف بوجه المجالس النيابية المزيّفة وضدّ المشاريع الخارجية، وكان صوته صدّاحًا بعد ثورة 14 تموز/يوليو 1958، مع أن التشاؤم والإحباط بدأ يتسلل إليه، خصوصًا في غربته وبُعده عن الوطن.

في الختام أستطيع أن أقول أن الجواهري كان طفلًا صغيرًا، لم يكن يريد أن تفلت لحظة من بين أصابعه، كان حالمًا وظلّ حالمًا طوال حياته، حتى وإن كانت أحلامه تتبدّد أمام عينيه، لكنه ظلّ يركض وراءها، وكلّما كان يقترب منها كانت تفرّ من بين يديه. كان يطلب المستحيل أحيانًا، لكنه يرضى بالممكن أو بأقلّ منه.

لم يغادر حلمه حتى في أسوأ الظروف، فالشعر سؤال فرادة وهو سؤال فلسفة، والفلسفة فكر، وهي قلق إنساني، وبالتالي فالشعر رؤية “وليست كلّ عين ترى” حسب جلال الدين الرومي.

Print Friendly, PDF & Email
عبد الحسين شعبان

أكاديمي، باحث ومفكر عراقي

Premium WordPress Themes Download
Download Nulled WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
Download Nulled WordPress Themes
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  شال "حورية" على قصيدة محمود درويش الأخيرة!