تشهد منطقة غرب آسيا حالة من التوتر غير المسبوقة، منذ عقود، على خلفية عملية “طوفان الأقصى” وما تبعها من حرب دخلت شهرها السادس بين اسرائيل وفصائل المقاومة الفلسطينية وعلى رأسها حركة حماس.
هذا التوتر فرض نفسه على ساحة الشرق الأوسط وأدى في أسابيعه الأولى إلى توتر العلاقة بين طهران وواشنطن، حتى أن بعض المعلومات أشارت إلى أنه كان من المقرر عقد جولة مفاوضات أمريكية إيرانية في عُمان في العاشر من شهر تشرين الأول/أكتوبر 2023، أي بعد ثلاثة أيام من اندلاع حرب “طوفان الأقصى”، لكن مستجدات الحرب الإسرائيلية الفلسطينية فرضت تأجيل تلك الجولة، قبل أن يُقرّر الجانبان استئناف مفاوضاتهما في سلطنة عُمان مجدداً، فيما قال المتحدث باسم الخارجية الإيرانية ناصر كنعاني إن طهران مستعدة لوضع اللمسات الأخيرة على المفاوضات الرامية لإحياء الإتفاق النووي شرط أن تتوفر الإرادة الحقيقية لدى الطرف الآخر.
ورداً على سؤال وُجّهَ لهُ في مؤتمره الصحفي الأسبوعي حول زيارة كبير المفاوضين الإيرانيين علي باقري كني إلى الدوحة ولقائه مع منسق السياسة الخارجية في الإتحاد الأوروبي انريكه مورا وما إذا كنا أمام تطورات جديدة فيما يتعلق بالمفاوضات النووية، قال كنعاني إن الحوار في هذا الإجتماع تناول ملفات عدة، أحدها ملف رفع العقوبات عن إيران، وأكد أن طهران ملتزمة بطاولة المفاوضات وتعتقد أن الطرف الآخر إذا تحلى بالإرادة الحقيقية يُمكن أن تؤتي المفاوضات ثمارها خلال فترة وجيزة وأن يعود الجميع إلى الإلتزام بكافة التعهدات المنصوص عليها في الإتفاق النووي.
لكن هل حقاً جميع أطراف المفاوضات مستعدة للعودة إلى الإلتزام بتعهداتها المنصوص عليها في الإتفاق النووي؟ والأهم ما مدى استعداد طهران للإلتزام بهذه التعهدات؟ وهل أن ما جاء على لسان الناطق باسم الخارجية الإيرانية هو دعوة للعودة إلى الإتفاق النووي أم أنه مجرد مجاملة ديبلوماسية لا أكثر ولا أقل؟ وهل يلقى إعلان طهران آذاناً غربية صاغية؟ وألم تحن الفرصة لاستثمار التجارب المكتسبة واستغلال الفرص في الوقت المناسب؟
علي أكبر سعيدي: إدارة بايدن على أبواب الإنتخابات الرئاسية وفي ظل إندلاع الحربين الروسية ـ الأوكرانية والاسرائيلية ـ الفلسطينية، ربما لا ترغب بفتح صراع جديد، لذا ستسعى إلى إدارة هذا الملف بشكل يجعل طهران ثابتة في مكانها الحالي، لكن المداراة الأمريكية لا تعني إطلاقاً رغبة أمريكية باستئناف المفاوضات النووية مع طهران
تحتاج طهران الآن أكثر من أي وقت مضى إلى إنفراجة ما في علاقاتها الخارجية لأسباب عديدة، أبرزها يتصل بواقعها الإقتصادي الداخلي، برغم تعويلها على تحقيق اختراقات من نوع الإفراج عن الأموال الإيرانية المجمدة في البنوك الكورية الجنوبية والعراقية، لكن اللافت للإنتباه أن بغداد أعلنت مؤخراً أنها مستعدة لتسليم النفط الأسود لطهران مقابل ديونها البالغة عشرة مليارات دولار لأن العقوبات الأمريكية تحول دون تسليم طهران الأموال بشكل نقدي، أما المليارات الستة التي تم تحويلها من سيول إلى البنوك القطرية فما تزال مجمدة، ما يعني أن طهران لن تتمكن من استثمار هذه الأموال حتى إشعار آخر.
هل من فائدة مرجوة من اجتماع المسؤولين الإيرانيين بنظرائهم في الإتحاد الأوروبي في الدوحة؟
يعتقد الخبير في العلاقات الدولية هادي نوابي في مقابلة مع صحيفة “الشرق” الإيرانية أن اجتماعات علي باقري كني بالمسؤولين الأوروبيين في الدوحة “غير مفيدة للإتفاق النووي في ظل الظروف الراهنة”، وأضاف: “بالنظر إلى الوضع الحساس الذي تعيشه منطقة غرب آسيا، فضلاً عن الحرب الروسية الأوكرانية، فإن الحديث عن أي مفاوضات لإحياء الإتفاق النووي المبرم عام 2015 لا محل له من الإعراب ولا يوجد مجال لإعادة جدولة العقوبات في الظروف الراهنة”.
ويتفق الخبير في العلاقات الدولية جلال خوش جهرة مع نوابي في نظرته المتشائمة، ويقول في مقال نشرته مجلة “ابتكار” إن حل الخلاف النووي بين إيران والغرب، وبرغم التطورات الجديدة في هذا الملف من حيث الكم والنوعية، يمكنه أن يلعب الدور الرئيس في وضع حد للتوتر في العلاقة بين طهران والغرب.
من هذه الزاوية يعتقد أكثر من خبير إيراني أن إدارة جو بايدن لا ترغب في استئناف المفاوضات الرامية لإحياء الإتفاق النووي مع طهران، ويعتقد هؤلاء أنه تم إرجاء هذا الملف بالكامل إلى ما بعد الإنتخابات الرئاسية الأمريكية المقررة في الخريف المقبل، على أن تتخذ إدارة بايدن الثانية أو إدارة دونالد ترامب القرار النهائي بهذا الخصوص.
وإنطلاقا مما تقدم، يعتقد الخبير هادي نوابي أنه بغض النظر عن هوية الجالس على كرسي البيت الأبيض، سواء أكان بايدن أم ترامب فإن المؤكد أن الأوضاع لن تكون أفضل مما هي عليه الآن، لأن ما ينتظرنا هو سياسة أكثر تشدداً في ضوء ارتفاع احتمالات وقوع أحداث باعثة على التوتر بين الجانبين.
ويشير الخبير في الشؤون الدولية علي أكبر سعيدي في حديث لصحيفة “الشرق” الإيرانية إلى أن إدارة بايدن على أبواب الإنتخابات الرئاسية وفي ظل إندلاع الحربين الروسية ـ الأوكرانية والاسرائيلية ـ الفلسطينية، ربما لا ترغب بفتح صراع جديد، لذا ستسعى إلى إدارة هذا الملف بشكل يجعل طهران ثابتة في مكانها الحالي، لكن المداراة الأمريكية لا تعني إطلاقاً رغبة أمريكية باستئناف المفاوضات النووية مع طهران.
ويعتقد سعيدي أن طهران وواشنطن قبل عملية “طوفان الأقصى” كانتا تسعيان وراء إدارة التوتر بين الدولتين، والدليل على ذلك هي المفاوضات السرية التي جرت بين الطرفين بوساطة عُمانية وقطرية وأسفرت عن صفقة تبادل السجناء والإفراج عن الاموال الإيرانية المجمدة، وسعت حكومة بايدن إلى الإلتفاف على قرارات الكونغرس الأمريكي وتمرير إتفاق غير مكتوب مع حكومة ابراهيم رئيسي يضمن العمل على تقويض الأزمة مع طهران.
ويعتقد الخبير في الشؤون الدولية جلال خوش جهرة أن قضية الغرب مع طهران لم تعد تقتصر على القدرات النووية الإيرانية والنقاط التي يشير إليها المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية في تقريره الفصلي، بل اتخذت أبعاداً جديدة تتعلق بالعلاقات الإيرانية الروسية وأثرها في الحرب الأوكرانية وأيضاً الحرب على غزة ومستقبل منطقة الشرق الأوسط.
وبحسب جلال خوش جهرة فإن مماطلة طهران في تسريع التوصل إلى نتائج نهائية في المفاوضات النووية وحالة الإنسداد التي وصلنا إليها على خلفية الحرب الأوكرانية وبعدها حرب غزة، “جعل الغرب يتخلى عن الرغبة في التركيز على إحياء الإتفاق النووي وأرجأ الفصل في هذا الملف إلى ما بعد انتهاء الحربين والنتائج المترتبة عليهما، يأتي هذا في وقت يعيش المجتمع الدولي صدمة اقتراب ترامب من استلام زمام الأمور في البيت الأبيض مرة أخرى”.
في الخلاصة، أصبحت الأوضاع في الأشهر الخمسة الأخيرة أكثر تعقيداً من ذي قبل، فالمفاوضات بين إيران والغرب حول البرنامج النووي الإيراني السلمي مرشحة لأن تبقى معلقة ومجهولة المصير حتى إشعار آخر.