مع الوقت تطورت الأساليب ووسائل التواصل حتى قيل لن يستطيع أحد أن يزور أى واقعة بعد اختراع الكاميرا وخاصة تلك السينمائية منها التى تنقل بالصوت والصورة الحدث كما هو.. حتى هذه القناعة نسفت عندما كشف المختصون والباحثون أن الكاميرا ليست محايدة ولا الصورة أيضا التى تختلف من زاوية إلى أخرى، فيتحول المعتدى عليه إلى معتدٍ ويتحول الغازى إلى محرر للعباد ويصبح الرجل الأبيض هو الأكثر حرصا على مصلحة تلك الشعوب الساكنة فى جنوب الجنوب تلك التى كانت مجرد مستعمرة له أو لأحد جيرانه البيض الآخرين!
***
تطورت الوسائل أكثر وأكثر فأصبح الفرد قادرا على فتح قناة له دون الحاجة إلى قنواتهم التلفزيونية، ومحطاتهم ووكالاتهم الإخبارية، أو محطاتهم المملة المحشوة برواية واحدة لصور الحاكم وأبنائه وبناته وحاشيته من وزراء وغيرهم.
***
يقول صديقى الصحفى الذى تضخمت الأنا عنده حتى أصبحت شكلا من أشكال الأمراض المزمنة، يقول بفخر أنه لا توجد محطة تلفزيونية أو جريدة إلكترونية أو أى وسيلة أخرى تتحمل مقدار مهنيته وحياديته ومعرفته بالغة الدقة! ولذلك فقد افتتح قناته على اليوتيوب ومركزه الخاص لتدريس الصحفيين وتدريبهم على صحافة دون رقيب داخلى.. إلخ من الشعارات الرنانة الممجوجة. وعند سؤاله عن ترويجه لكتاب شخصية معارضة معروفة عن أحداث ليست بالبعيدة بل لا تزال فى ذاكرة الكثيرين من الذين عاصروها أو حتى اقتربوا منها، يأتى رده الذى لم يتوقف ولو للحظة للتفكير فيه وحوله، «هو شخصية عاصرت الأحداث فرواها»، ولا يتوقف هنا بل يبتسم كمن يقول للسائل «ما الذى تعرفه أنت أيها الجاهل؟» وعندما يأتيه الرد أنه على الأقل هناك ثلاثة أو أربعة أشخاص كانوا معاصرين لنفس تلك الأحداث بل كانوا فى الدائرة الأولى المسئولة عنها وهم يقولون أن هذا الكاتب الشهير إما كاذب أو قد أصابه الخرف أو دُفع له ليكتب رواية تتسق مع بعض «الجهات المانحة للحروب والمعارك والانتفاضات والنزاعات»، نعم فقد تحول المانحون من مانحين من أجل دعم المجتمعات والبشر نحو حياة أكثر عزة وكرامة إلى جهات تتنافس لتمويل التوترات والعنف حسب ما تدلها بوصلتها المصلحية الضيقة جدا.
***
هناك أكثر من رواية للتاريخ أو لنفس الحدث ومع كثرة الوسائل المتاحة إلا أن كثيرا من الحقائق تضيع أو تتسرب أو حتى يتعمد إخفاؤها عبر وسائط متطورة للسيطرة على المحتوى، ألم نعرف أن منصات مثل تويتر وفيسبوك وغيرهما كلها تحذف أشخاصا وأخبارا بعينها تحت ذرائع عدة؟
لم يفكر هذا الصحفى المستقل جدا فى التوقف وتصحيح مراجعته لذاك الكتاب أو حتى للقول أن هناك روايات أخرى لنفس الأحداث، بل حمل حقيبته ووجهه الذى عبثت به يدا جراح التجميل أو خبير المكياج أو كلاهما، حمل كل ذلك واستدار راحلا برفقة الصبية الصغيرة الحسناء فهو كجامع الفراشات يعشق جميع الصبايا الحسناوات تحت مسمى متدربات على العمل الصحفى «المهنى» جدا!
***
هناك أكثر من رواية للتاريخ أو لنفس الحدث ومع كثرة الوسائل المتاحة إلا أن كثيرا من الحقائق تضيع أو تتسرب أو حتى يتعمد إخفاؤها عبر وسائط متطورة للسيطرة على المحتوى، ألم نعرف أن منصات مثل تويتر وفيسبوك وغيرهما كلها تحذف أشخاصا وأخبارا بعينها تحت ذرائع عدة؟ كلها باسم حماية حرية التعبير وعدم نبذ الآخر أو التحريض على الكراهية، أو حتى الحق لكل شخص «يشبهنا» أو يروج لروايتنا أن يحلق فى الفضاءات المفتوحة أما أنتم فمن تكونون لترتقوا إلى تلك الدرجات من المعرفة والعلم والبحث المتعمق فهذه مخصصة فقط لنخبة يختارونها هم فقط.
***
كثير من الأحيان نفكر كيف يستطيع هذا الجالس هنا الذى لم يحضر أيا من تلك الجلسات التى كنا نحن جزءا أساسيا منها، كيف يستطيع أن يسرد روايته هو حول أحداث العريضة النسائية البحرينية مثلا فى العام 1995 أو غيرها من الأحداث العربية مثل ميدان التحرير فى يناير/كانون الثاني 2011، حيث يدعى الكثيرون الآن أنهم كانوا المحركين الأساسيين لتلك الأحداث وآخرون يرددون لقد انتصرنا لمبادئنا ويسترسلون فى رواياتهم غير الدقيقة لنكون أكثر أدبا من أن نقول أنها وأنهم كاذبون مع سبق الإصرار والترصد!
***
للتاريخ روايات وعلينا أن نسعى ليتسع الفضاء لكل الروايات حتى نستطيع ــ ربما نعم ــ ربما أن نعرف ما الذى حدث لعالمنا العربى الممتد خلال السنوات العشر الماضية، وما قبلها لنحكى لأطفالنا حكايات عن بعضنا الذى ضحى بالغالى والنفيس من أجل المبادئ أو الكرامة وعزة الأهل أينما كانوا.
***
التاريخ لا يكتبه المنتصر أو المهزوم بل هو حقنا جميعا فى أن نعرف وأن نورث ذلك لأبنائنا وبناتنا وأحفادنا.
(*) بالتزامن مع “الشروق“.