الحقائق والوثائق في إعدام أنطون سعاده (2/2)

فجر الثامن من تموز/يوليو 1949، نفّذت السّلطة اللّبنانية حكم الإعدام بحق أنطون سعاده بتهمة "التّعامل مع اليهود لقلب نظام الحكم"، كما سبق أن أعلن رئيس الحكومة رياض الصلح.

ماذا في الحقائق والوثائق التي مهّدت لإعدام سعاده وأين يكمن دور “إسرائيل”؟

في مطلع حزيران/يونيو 1949 عقدت الحكومة اللبنانية إجتماعاً واتخذت قراراً بـ”إبادة” الحزب السوري القومي الإجتماعي وملاحقة أعضائه. هذا ما نقله وزير الداخلية جبرائيل المر إلى المسؤول القومي فريد صبّاغ لكي يبلّغ أنطون سعاده: “أرى من المناسب أن تتصلوا برياض الصلح وتتفاوضوا معه للرجوع عن القرار المتخذ بحقكم”. وأبلغه أيضاً أن التنفيذ سيكون في 11 حزيران/يونيو من السنة نفسها.

وفي التاسع من حزيران/يونيو 1949، أي قبل يومين من التاريخ الذي شنّت فيه “الكتائب” هجومها على جريدة “الجيل الجديد” في الجمّيزة، تمّت مصالحة حزبَي الكتائب والنجّادة وجرت المصالحة بين الفريقين بتشجيع من رياض الصلح وأقيمت حفلة عشاء في بيت الكتائب للمناسبة.

قرار الحكومة وجريمة الجميزة هما عملياً هروب إلى الأمام وتتويج لممارسات نظام طائفيّ انفضح دوره في حرب 1948 في فلسطين، وهذا ما شرحه سعاده في حديث بتاريخ 11 حزيران/يونيو 1949 بعد يومين فقط على اعتداء حزب الكتائب على مكاتب جريدة “الجيل الجديد” في الجمّيزة وجرح العديد من القوميين وما رافق ذلك من تدخّل فوري منسّق بين السلطة والكتائب وقيام الجّيش بحملة اعتقالات ومداهمات لمكاتب الحزب ولمنزل سعاده. يقول سعاده:

“أنا متأكّد بأن تصرّف الحكومة جاء بهدف رفع المعنويّات وإثارة العصبيّات بهدف تجاوز مرحلة الخداع والخيانة في موضوع فلسطين والاتّفاق الخياني. أرادت الحكومة إشغال الجيش بملاحقة الحزب بهدف التوصّل في النهاية إلى اتّفاق مع الدّولة اليهوديّة التي تهدّد جميع البلدان السّوريّة وفي طليعتها لبنان”.

سعاده “الإرهابي”

في 15 حزيران/يونيو 1949 أعلن رياض الصلح عبر جريدة “البيرق” أننا “سنلاحق أنطون سعاده حتى النهاية ونعتقله ولن تكون أية هوادة في القضيّة. وأعلنت الحكومة عن جائزة بقيمة 15 ألف ليرة لمن يرشد إلى مكان وجوده. وفي سياق الخبر، تظهر تماماً مشكلتهم معه. إذ يرد في “البيرق” الآتي:

“خطران يمثلهما الحزب (القومي) مما حدا بالحكومة إلى تعجيل ضربتها له: تراكم الأسلحة الخفيفة لديه، ونجاحه في استمالة عدد من اللاجئين لإستخدامهم في أعمال إرهابية”.

وفي 22 حزيران/يونيو 1949، أرسل رئيس البعثة البريطانية في بيروت إلى وزارة الخارجية البريطانية تقريراً حول حادثة الجميزة، جاء فيه:

“يبدو ان اتهامات الخيانة والتعامل مع إسرائيل هي أفضل أسلوب يعتمده الساسة في الشرق الأوسط لمحاربة أخصامهم”.

في 22 حزيران/يونيو 1949، نشرت جريدة “البيرق” وهي لسان حال السلطة، العنوان التالي “رياض الصلح يراقب الحزب القومي”. وجاء في الخبر نقلاً عن مجلّة “الصيّاد” المقرّبة جداً من الصلح ما يلي: “إن السيد رياض الصلح، رئيس الوزارة، بقي نحواً من ثلاثة أشهر يراقب الحزب القومي بصورة خاصة ولم يشأ أن ينظر إليه بعين المبالاة والجد إلا بعد أن اتصل به أن العديد من اللاجئين الفلسطينيين المهووسين انضموا إليه يؤلفون ضمنه خلايا لبعث روح الحقد والتمرّد والثورة”.

لقاء الصلح-حسني الزعيم

في 24 حزيران/يونيو 1949 عقد لقاء سرّي في شتورة بين كل من بشارة الخوري، رياض الصلح، وفريد شهاب من الجانب اللبناني، وكل من حسني الزعيم، محسن البرازي من الجانب السوري وحدّد فيه الموعد بأن تكون الساعة العاشرة مساء السادس من تموز/يوليو 1949 ساعة تسليم أنطون سعاده.

في 27 حزيران/يونيو، ورداً على اتهام الحكومة اللبنانية ورئيسها لسعاده بالتعاون مع إسرائيل، أدلى أنطون سعاده بتصريح لجريدة “العلم” جاء فيه:

“إنني أتحدى رئيس الحكومة المتهادنة مع اليهود ان يعطي للنشر الوثائق التي يقول إنها لديه ولدى المحكمة العسكرية. فإذا كانت لدى الحكومة وثائق في صدد الإتصال باليهود، فإنها ولا شك وثائق مشرّفة للحزب ومخزية للمتحكمين في رقاب الشعب اللبناني والطائفيين الذين نملك وثائق عديدة عن اتصالاتهم وإتصالات جميع الرجعيين والنفعيين باليهود من بيع أراضٍ إلى بيع مصالح إلى بيع خطط سياسية في الحكم تسهّل الإنتشار اليهودي”.

تلفيق تهمة التعاون مع اليهود

كانت تلك هي المرة الأولى التي يُطرح فيها موضوع تعامل أنطون سعاده مع اليهود في حديث لرياض الصلح مع وفد قومي زاره بعد وساطات لحل حادثة الجميزة.

كان جواب رياض الصلح لفريد صباغ، أحد أعضاء الوفد: “مسألة الجميزة ثانوية جداً بالنسبة لي، المسألة أخطر بكثير. زعيمكم يتعاون مع اليهود لقلب الحكم في لبنان. لا أريد النقاش”.

استند رياض الصلح ويوسف شربل رئيس المحكمة العسكرية والصحافة الموالية لهما على رسالة عثرت عليها السلطات في منزل الزعيم مرسلة بتاريخ 13 أيار/مايو 1949 وهي عبارة عن تقرير سرّي رفعه منفّذ عام عكا محمد جميل يونس.

وكان يوسف شربل النائب العام الاستئنافي قد كرّر التّهمة في 20 حزيران/يونيو 1949، قائلاً “إن الحزب أو بالأحرى رئيسه يستعين بأجنبيّ وإن هذا الأجنبيّ هو الآن إسرائيل. ليست الغاية (الاستعانة بإسرائيل) إجراء انقلاب في لبنان واستلام الحكم فيه فحسب، بل كذلك لمناوأة الدولة السورية بشخص رئيسها الزعيم حسني الزعيم بسبب ما يظهره من التصلّب تجاه الصهيونيين”. إضافة إلى ذلك، ادّعى شربل أن لديه “شهود ووثائق في حوزته، وأن الشّهود عزّزوا كلامهم بوثيقة تحمل تاريخ 13 أيّار/مايو 1949 قالوا أنّ منفّذ عام عكا (المسؤول الحزبي) رفعها إلى سعاده”.

والجدير ذكره أن سعاده كان حينها يتلقى التقارير الدورية حول ما يجري في فلسطين من الفروع الحزبية. وكان يُدرك جيداً وفق معلومات من الميدان أن الهزيمة وقعت برغم كذب وادعاءات الأنظمة العربية. لذلك كانت مقالاته وخطبه تصب في اتجاه ضرورة التسلّح والتنظيم ومواصلة القتال. على سبيل المثال، شدّد في آخر تصريح له لجريدة “العلم” الدمشقية وفي خطابه في برج البراجنة على ضرورة التسلّح والكفاح المسلّح في فلسطين.

رياض الصلح والصهاينة

في الفترة ما بين منتصف تشرين الثاني/نوفمبر ومنتصف كانون الأول/ديسمبر 1948، كانت المفاوضات السرية تجري في باريس بين رياض الصلح والصهاينة. كانت باريس المكان المثالي يومها لأنه بعد حرب 1948 في فلسطين تعذّرت اتصالات الوكالة الصهيونية بالزعماء العرب التي كانت قبل ذلك تجري بسهولة بينما كانت حدود فلسطين مفتوحة. تحولت باريس إلى قاعدة للعمل الإستخباراتي والدبلوماسي الصهيوني السري.

تولى مهمة الإتصال مع الزعماء العرب إلياهو ساسون، رئيس القسم العربي في الوكالة اليهودية يعاونه موظفون من قسم الشرق الأوسط في الخارجية الإسرائيلية. ووفق الوثائق السرية الصهيونية (كتاب “المتاهة اللبنانية، سياسة الحركة الصهيونية ودولة اسرائيل تجاه لبنان 1918” ـ 1958 لرؤوفين أرليخ)، عقد الصلح عدة اجتماعات سرية مع كل من إلياهو ساسون ومساعده توفيا أرازي.

عقد الإجتماع الأول بتاريخ 19 أيلول/سبتمبر 1948 ومن بعده وفق التواريخ الآتية:

  • في 15 تشرين الثاني/نوفمبر 1948.
  • في 17 تشرين الثاني/نوفمبر 1948.
  • في 28 تشرين الثاني/نوفمبر 1948.
  • في 8 كانون الأول/ديسمبر 1948.
  • في 12 كانون الأول/ديسمبر 1948.
  • في 15 كانون الأول/ديسمبر 1948.

استغل الصلح يومها فترة ترؤسه الوفد اللبناني إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة ليلتقي على هامش هذه الزيارة الدبلوماسية بمندوبة من قبل ساسون كان سبق له أن التقى بها في القاهرة. جرى ترتيب الإجتماع الأول عندما كانت إسرائيل تحتل أرضاً لبنانية خلال حرب 1948. لن اخوض في تفاصيل الإجتماعات الستة فهي منشورة في كتاب “المتاهة اللبنانية”، لكن من يراجعها يستخلص الآتي:

  • ترحيب وحرارة من الطرفين.
  • ذكريات من لقاءات سابقة في بيروت عام 1944 وبالتحديد زيارة موشيه شاريت لرياض الصلح.
  • إدراك إسرائيل أن رياض الصلح “واقعي” كما تسميه، وأن خطاباته وتصريحاته المتطرفة التي تنشر باسمه أو تنسب إليه مثل إنه على استعداد ليكون على رأس جيوش عربية تدخل فلسطين والعرب “حتى لو استمر القتال مئة عام” هي مجرد حركات شعبوية، وعلّق أرازي على ذلك بقوله “إن الكثير من القادة العرب يتنافسون في ما بينهم في إلقاء الخطابات المتطرفة إرضاءً للرأي العام في بلادهم ولكن الوضع مع رياض الصلح مختلف جداً”.
  • قال الصهاينة لرياض الصلح: أنت رجل سلام والسلام ليس بعيداً وهناك أطراف عربية تريده: مصر، العراق، وشرق الأردن.
  • الصلح وعد بتهيئة الرأي العام العربي لقبول اتفاق عربي يهودي وقال إنه سيعمل لأجل ذلك.
  • طلب الصلح من أرازي أن يساعده في موضوع الشهرة. لذا، طلب منه أن تنشر الصحف الأميركية مقالات مديح واستحسان لأدائه في الامم المتحدة بالمقارنة مع أترابه من القادة العرب.
  • في الإجتماع الخامس، طالب الصلح بأن يتزامن انسحاب القوات اليهودية من القطاع الشرقي لجنوب لبنان مع عودته إلى بيروت ليستثمر ذلك انتخابياً وشعبياً.

اكتفي بهذا القدر من الوثائق للقول بأنّ شخصية الصّلح الانتهازيّة والطّائفية تحدّث عنها بتفصيل قريبه سعدالله الجابري في يومياته غير المنشورة حتّى الآن. وأودّ الإشارة إلى حدث شرحه الجابري الّذي كان ضمن وفد سوري ضم رياض الصلح أيضاً في باريس لاجراء محادثات سوريّة- فرنسيّة لعقد معاهدة سنة 1936. يصف الجابري قريبه رياض الصلح في مذكراته بأنّه “ينسق مع حاييم وايزمن الّذي يلتقيه باستمرار دون إبلاغنا وأنّه شخص محبّ للمال، متغطرس، متذبذب، منعدم المستوى الأخلاقي.. وأيضاً كاذب”.

إقرأ على موقع 180  رسالة إسرائيلية للبنان عبر باريس: إذا إندلعت الحرب هذه أهدافنا!

قصة رسالة محمد جميل يونس

وبالعودة إلى الرسالة ـ الحجة التي أرسلها محمد جميل يونس؛ تلك التي فبركوا من خلالها تهمة العمالة لسعاده، فنجد في فحواها الآتي:

“إن منظمة الفالانج اللبنانية (الكتائب) والمطران (أغناطيوس) مبارك على اتصال ومفاوضة مع اسرائيل لقلب الحكم وإنشاء الوطن المسيحي واضطهاد الفئات والطوائف الأخرى. وقد اطلعت من مواطنين على كتب توصية من المطران مبارك وسأحاول الحصول على نسخ منها”.

وما ذكره محمد جميل يونس في رسالته، يتطابق مع ما ورد في سلسلة وثائق إسرائيلية صادرة عن إسرائيليين وتتحدث عن علاقات مع كل من حزب الكتائب والمطران مبارك، سأذكر منها واحدة فقط بتاريخ 28 شباط /فبراير 1949:

“وثيقة لوزارة الخارجية الإسرائيلية دائرة الشرق الأوسط 28 شباط (فبراير) 1948

الموضوع: اجتماع مع مبعوث الأسقف مبارك

في 24 شباط (فبراير) تلقينا خبراً هاتفياً من السيد “بيلين” في حيفا بان ثلاثة عرب حضروا إلى مكتبه، وعرّفوا على أنفسهم بانهم مبعوثو الأسقف مبارك وأعربوا عن رغبتهم بالإجتماع مع ممثل وزارة الخارحية. التقيت معهم في نفس اليوم بعد الظهر لمدة ساعة ونصف في مكتب السيد بيلين.

تبيّن لي بان اثنين منهم مسيحيون من بلاد إسرائيل: سليمان شقور من الناصرة، وفريد خوري من كفربرعم. وقد كانت لهم علاقة منذ وقت مع خدمات استخبارات الهاغانا بواسطة السيد “سمسونوف” من زخرون يعقوب، وبناءً على مشورته، قاموا بزيارات للأسقف مبارك في بيروت (سفرهم ما بين اسرائيل ولبنان كان على ما يبدو لغرض أعمال تجارية وبحوزتهم هويات دخول قديمة من خدمات استخبارات الهاغانا).

وبناءً على طلب الأسقف مبارك، رافقهم في سفرهم أثناء عودتهم إلى اسرائيل أحد رجاله ويدعى “توفيق سمعان” لإجراء اتصالات مع وزارة الخارجية.

سلّمني سمعان في بداية حديثه رسالة بخط مبارك (عليها خاتمه وخاتم اسقفية بيروت)

وجاء في الرسالة:

“إن الأسقف مبارك يوجّه أحرّ تحياته إلى أصدقائه الأصليين ويطلب منهم أن يسهّلوا عمل ابنه ومدير أعماله “توفيق سمعان”، وأن يعيروا الإنتباه لأقواله. إنه واحد من أبنائنا الأعزاء وحافظ سرّنا. مع الشكر.

التوقيع: مبارك أسقف بيروت 15-2-1949″.

وصف توفيق سمعان مهمته بقوله: “الأسقف يطلب التعرف على موقف حكومة إسرائيل تجاه برنامج لتنفيذ إنقلاب في لبنان. وقال بأنه قد تم تمهيد الأرضية لذلك، ولم يبقَ شيء سوى بعض التدريب وتقديم المساعدة من جانب إسرائيل. حقّقت معه حول العلاقات القائمة بين مبارك وبين الأحزاب المسيحية مثل الكتلة الوطنية والكتائب وما إذا كانت برامجهم متفقة في الموقف؟ أجاب: بأن مبارك لا يملك حرية التنقل وهو خاضع للرقابة الدائمة من جانب المخابرات السريّة اللبنانية”.

مآثر مبارك

ومن مآثر الأسقف مبارك مذكرته بتاريخ 5 آب/أغسطس 1947 إلى لجنة التحقيق الدولية في وضع فلسطين وتضمنت الآتي: “إن إدخال فلسطين ولبنان في نطاق البلاد العربية إنكار للتاريخ وقضاء على التوازن الإجتماعي في الشرق الأدنى. إن هناك أسباباً إجتماعية وإنسانية ودينية تقضي بأن يخلق وطنان للأقليات، وطن مسيحي في لبنان كما كان دائماً ووطن يهودي في فلسطين ويكون هذان الوطنان مرتبطان ببعض جغرافياً ويتساندان ويتعاونان إقتصادياً، ويكونان جسراً لا بد منه بين الشرق والغرب”.

التقريران أعلاه ينسفان كلّ أكاذيب الّسلطة بإلصاق تهمة الخيانة بسعاده والقوميّين. النص واضح لا لبس فيه، ولا أجد ضرورة في الاستفاضة والتّعليق لكن أودّ التّذكير بعجالة بموقف المطران مبارك من مسألة الوطن القومي اليهودي في فلسطين.

وأكتفي فقط بذكر مقاطع من خطاب له ألقاه في بيروت عام 1936 بمناسبة إقامة الجّالية اليهوديّة حفلاً وداعيّاً للبطريرك عريضة الذي كان في طريقه إلى جولة أوروبيّة. يقول مبارك: “نؤكّد لكم يا أبناء إسرائيل الّذين طردتم ولم يقبلكم العرب في فلسطين، باسم غبطة البطريرك وباسمي أن لبنان يكفينا ويكفيكم.

ومنذ زمن طويل وصاحب الغبطة يخدم هذه الفكرة وبأوامره واصلنا السعي تجاه أولياء الأمر حتى يأتي اليهود إلى لبنان (الوثائق الديبلوماسيّة الفرنسيّة تشير إلى ذلك وتكشف عن عرض قدّمه البطريرك عريضة لمسؤولين في الوكالة اليهوديّة لبيعهم أراضٍ في شمال لبنان للاستيطان) فوجود اليهود في فلسطين جعل الأراضي المقدّسة محسودة من العالم بأسره، لأن العالم يئنّ من الأزمة الاقتصادية ولا وجود لها في فلسطين، وقد شعر المتعصّبون بالحسد فكان جوابهم نكران الجميل”.

ومن مآثر الكتائب

أما حزب الكتائب، فلا بأس إن اقتبسنا من تقرير مرسل في 13 أيلول/سبتمبر 1947 من مجلس الطوارئ الصهيوني الأميركي إلى وزير خارجية إسرائيل:

“تقرير 13 أيلول (سبتمبر) 1948؛

سرّي للغاية – من مجلس الطوارئ الصهيوني الأميركي/ موجّه لموشيه شرتوك، وزير خارجية إسرائيل.

“القس عوّاد” (يوسف) جاء إلينا وأبلغنا بأن الأمور وصلت في لبنان إلى حد أن الكتائب مستعدة للبدء بتمرّد عسكري من أجل إسقاط الحكومة واستلام السلطة. لكن من أجل هذا هم بحاجة إلى مساعدة حقيقية، وحسب أقواله، فإن الفرنسيين مستعدون لمساعدتهم، وهم يريدون معرفة كم نستطيع مساعدتهم نحن. وجوابي كان بأن هذه المسألة يمكن جوابها خارج إطارنا هنا، وأن هذه المسألة يمكن ان يحصلوا على جواب عليها من حكومة إسرائيل. ولكن أضفت إلى هذا بأنني في حين أعرف وجهات نظر القس عواد وتطلعاته الوديّة بشكل نسبي، فإني لا اعرف موقف الكتائب من مسألة أرض إسرائيل.

في مساء اليوم نفسه، اتصل بنا عوّاد هاتفياً ليقول بانه وجد الياس ربابي موالياً للصهيونية ليس أقل منه هو نفسه أو أقل من المطران مبارك وبأن ربابي يرغب جداً أن يلتقي مع رجالنا والحوار معهم.

اقترحت على ربابي بعد التشاور مع الدكتور سيلزبرغ أن يتوقف الوفد في طريق عودته إلى لبنان في باريس وأن يلتقي هناك أبا إيبان وتوفيا أرازي وآخرين. وافق ربابي على ذلك وكتبت إلى أبا إيبان وشولاميت شورتس وأرازي حول توجه الوفد إليهم.

التوقيع: إلياهو بن حورين”.

***

غداة إعدام أنطون سعاده فجر الثامن من تموز/يوليو 1949، كتب السفير الفرنسي في بيروت إلى الخارجية الفرنسية التقرير الآتي:

“إن نشاط سعاده وإنتشار حزبه وتنظيمه وضع الحكم في موضع حرج جداً فقرروا اتخاذ تدابير قمعية لتفادي حصول الكارثة المتوقعة. إن الإجراءات الامنية والتعاون الأخوي بين لبنان وسوريا جنّبت سقوط الحكم. لجنة العفو وافقت على الإعدام، بدوره بشارة الخوري وقع عليه يوم 7 تموز/يوليو وتم إعدامه هذا الصباح (8 تموز/يوليو)”.

***

ما أود استخلاصه من جريمة إعدام أنطون سعاده وما تلاها أنّ النّظام الطائفيّ اللبنانيّ لا يتورّع عن ارتكاب الجّرائم للحفاظ على مكتسبات زعمائه المتحالفين والمختلفين في آن. متحالفين ضدّ كلّ من يهدّد نفوذهم ويفضح خياناتهم، كما كان الحال مع سعاده إذ وافقوا بالإجماع على إعدامه. وفي الوقت نفسه، يتصارعون في ما بينهم على انتزاع المزيد من النّفوذ لمصالحهم الشخصيّة رافعين شعار حقوق الطّائفة الّتي يمثّلون. وإذا قارنّا ما حدث في تموز/يوليو 1949 باليوم، يتأكّد لنا أن هذا النظام لا ولن يحاكم أي طرف فيه بغضّ النّظر على الجرائم الّتي يرتكبها. هناك لبنانيون قتلوا ضباطاً وجنوداً ومواطنين ونواباً ورجال دين وفجّروا كنائس وارتكبوا مجازر جماعية، تمّ نسيان كل ذلك ولم يقدم تحالف الطّوائف على محاكمة أو محاسبة أحد. تحالفوا علناً مع الصّهاينة وانتخبوا رؤساء للجمهوريّة.

واليوم أركان التحالف المذهبي – المصرفي نهبوا الناس علناً. هجّروهم وأفقروهم وسرقوا الدّولة ودمّروا النّسيج الاجتماعي في البلاد لكنّهم متحالفون في ما بينهم تغطيهم قوى أجنبية إرتهنوا لها.

لا مفرّ من القول إن مشروع لبنان الكبير الطائفيّ سقط إلى الابد، لكنّ هذا النّظام سيحاول وبأيّة وسيلة يمكنه اللجوء إليها، حتى طلب المعونة العسكرية الأجنبية على وأد كلّ حركة مقاومة للمشروع الصّهيونيّ.

يُمهّدون منذ الآن للتطبيع مع العدو وهذا متوقّع منهم. لكن برغم أنّ المحاولة الّتي قام بها سعاده وحزبه لنشر وعي قومي بين الناس قد تمّت تصفيتها عام 1949، إلا أنّ الوضع اليوم مختلف جذريّاً. لن يتجاسر النّظام على قمع الناس لأن الثّمن الّذي سيحصده سيكون موتاً محتّماً.

هذه البلاد وبرغم كل نكباتها والمؤامرات الّتي تعرّضت لها من حكّامها ومن الغرب الصهيونيّ لن تذعن لمشروع تدميرها واستيطانها. نبض المقاومة الشعبية متواصل برغم الحصار والتجويع. لا مفرّ من النّجاح وإن طال زمن المعركة. ولا بدّ كما قال أنطون سعاده “إنّكم ملاقون أعظم نصر، لأعظم صبر في التّاريخ”.

(*) الجزء الأول بعنوان: أنطون سعاده.. شهيد فلسطين الشاهد

Print Friendly, PDF & Email
بدر الحاج

كاتب لبناني

Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
online free course
إقرأ على موقع 180  الجماعات الدينية تتقدم.. مُجتمعاتنا تتراجع!